كنت سائرا في أمان الله سارحا في ملكوته الى أن اصطدم بكتفي رجل اصلع يرتدي نظارة سوداء ،ابتسم لي فابتسمت له ، ومضى كل منا الى حاله.
دخلت المقهى، اخترت ركنا قصيا ،أعطيت ظهري الى الجدار وهي عادة متأصلة في اخر نفق في اعماق اللاوعي ، طلبت قهوة وشرعت بتصفح جريدة بادئا من صفحتها الأخيرة.قافزا على صفحات المطبخ ووصفات الطعام وصفحة الحكم وتهذيب الأخلاق التي لاينتفع بها احد مرورا بالرياضة والأبراج والوفيات والتهاني..وصولا الى الصفحة الاولى المكرسة بالكامل بأخبار تبدأ ب( التقى – تلقى- استقبل ) والتي تجمع على أن رؤساء وملوك العالم كلهم لاشغل لهم سوى مخاطبته وطلب مشورته والاستعانة بحكمته لحل مشاكل بلدانهم الداخلية والخارجية.
لفت انتباهي مقال مترجم عن أساليب المخابرات العالمية في الحرب الباردة ، حينها دخل الاصلع الذي يرتدي النظارة السوداء ،اختار طاولة بالقرب مني فشعرت بتوجس ولكنني واصلت القراءة عن اسرار (السي اّي ايه) و(الكي جي بي ) وتساءلت في دخيلة نفسي :هل هذه صدفة أن يجلس بجانبي الاصلع ذو النظارة السوداء بعد حادثة الطريق؟.
قررت صباح اليوم التالي أن أغير المقهى ، فاخترت واحدا اّخر يقع في زاوية الشارع الموازي للمقهى السابق ، جلست كالمعتاد موليا ظهري الى الجدار وأخرجت الصحيفة،عندها دخل الاصلع بنظارته السوداء وجلس الى طاولة بعيدة وأعطاني بظهره ، بدا الشك يتحول الى يقين ، ففي علم الاحصاء ان تكرار الصدفة تتحول الى قانون ، تساءلت: ترى كيف يتمكن من مراقبتي وأنا خلفه؟.
رفعت الصحيفة لأغطي وجهي ، انتهزت فرصة انشغاله بالحديث مع النادل فخرجت مسرعا بعد ان تركت ثمن القهوة التي لم أشربها.
تكررت المصادفات:مرة في شارع جانبي ،وأخرى في سوق الخضار ،وثالثة رأيته امامي في طابور امام مخبز فانسحبت بهدؤ،صرت اتلفت ورائي ،واقف دقائق امام واجهات المحلات التي تعكس صور المارة.
قررت بعدها ملازمة بيتي لعدة أيام ، وفي عصر يوم الجمعة اخترت مقهى يبعد عدة كيلومترات عن منزلي ،قصدت ركنا قصيا وما ان هممت بالجلوس حتى فاجأني الاصلع بنظارته السوداء يترك طاولته ويأتي نحوي طالبا مني بتذرع أن أتركه وشأنه ،شارحا بتوسل انه مواطن بسيط يحب الرئيس ويحب الحكومة (وصاحب عيال ) متسائلا : لماذا تراقبونني ؟؟ وذهب مسرعا.