محمد بوسعيدة
في عام 1917، لخص “سيجموند فرويد” ثلاثة (جروح نرجسية) أصابت كبرياء البشرية:
-الجرح الكوبرنيكي، الذي أزاح الأرض عن مركز الكون. -الجرح الدارويني، الذي نزع التميز البيولوجي عن الإنسان. – الجرح الفرويدي، حين كشف فرويد نفسه أن العقل الواعي لا يتحكم وحده في تصرفات الإنسان، بل إن قوى اللاوعي تلعب الدور الأكبر في توجيه أفكاره وسلوكه.
اليوم، ربما نكون على أعتاب جرح رابع، قد يُهدد آخر حصون التفرد البشري، جرح اسمه الذكاء الاصطناعي، لا باعتباره مجرد آلة بارعة في الحساب والتوليف، بل ككيان يزعزع الاعتقاد الراسخ بأن العقل البشري هو الشكل الأعلى والأرقى للذكاء، وغير القابل للمضاهاة أو التكرار.
إذا كانت الجروح السابقة قد انتزعت من البشر، مركزيتهم المكانية والبيولوجية والنفسية، فإن الذكاء الاصطناعي يهدد بسلخهم من مركزيتهم المعرفية.
فليس السؤال هنا “هل يمكن للآلة أن تفكر؟” بل السؤال “هل يمكن للبشر تحمل فكرة أن تفكيرهم ليس سوى نسخة قابلة للتكرار؟
وقد يكون هناك سؤالا أكثر إيلاما، وهو: ماذا لو لم يكن التفكير البشري جيدا بما يكفي؟ قد يكون التشبث بتفوقنا المعرفي مجرد استمرار “لخرافة المركزية” التي جعلت أسلافنا يرفضون فكرة أن الأرض ليست مركز الكون.
في هذا السياق، تعود مبرهنات غودل القديمة (مبرهنات عدم الاكتمال) لتلقي بظلالها على النقاش. حيث تُذكرنا بأن أي نظام منطقي رياضي قادر على تمثيل العمليات الحسابية الأساسية، سيكون إما ناقصا أو غير متسق. فهل يُمكن تعميم هذا الاستنتاج على الذكاء الاصطناعي باعتباره نظاما منطقيا يعتمد الخوارزميات الرياضية؟ وبالتالي هو عاجز عن إثبات اكتماله الذاتي، وهو خاضع دائما لحدود الأنظمة المنطقية.
من وجهة نظر “روجر بنروز”، يظل العقل البشري متفردا بقدرته على تجاوز الأنظمة الشكلية، وذلك بفضل عمليات غير منطقية كالحدس والإبداع وهو ما قد يفسر قدرة البشر على الإبداع المفاجئ أو حل المعضلات عبر حدس لا يعبأ بالمنطق الصارم، وبالتالي هناك هامش من التفكير البشري غير قابل للتقليد ولا يمكن للذكاء الاصطناعي مجاراته، لأنه محدود بالنظام المنطقي.
لكن “دانيال دينيت” يرد بأن هذه الحُجج، تطرح فرضية “الاستثنائية البشرية” دون دليل؛ فربما ما نسميه “إبداعا خارج المنطق” ليس إلا نتيجة لتعقيد في العمليات الحسابية ومعالجة كميات هائلة من البيانات، وليس شيئا غامضا أو خارقا للطبيعة.
من جانب آخر يجادل الصديق “محمد تقي الدين” -وهو مبرمج متخصص في أنظمة الذكاء الاصطناعي – بأن حدود غودل قد تنطبق على نماذج الذكاء الاصطناعي التقليدية، أما النماذج الحديثة الأكثر تطورا (نماذج التعلم العميق)، فهي لا تعمل وفق قواعد رمزية منطقية صارمة، بل تُشكل تمثيلات داخلية معقدة عبر تحليل كميات هائلة من البيانات. هذه الأنظمة – بحسب محمد تقي- تُظهر قدرة مدهشة على محاكاة جوانب تُعتبر تقليديا غير منطقية، كالاستعارات اللغوية أو التوليفات الفنية، وهي لا تسعى لبناء براهين رياضية متسقة، بل لتقريب الأنماط الإحصائية للواقع، مما يُخرجها من نطاق تطبيق مبرهنات غودل التي تستهدف الأنظمة الرياضية المغلقةأ. هـ
إذن هي خيبة أمل أخرى، وتتآكل صلابة الحدود التي تحكم الأنظمة الرياضية التقليدية أمام القدرات الاستثنائية وغير المتوقعة لأنظمة التعلم العميق.
ومع ذلك لا ينبغي إغفال البعد الأنطولوجي في هذا النقاش، فحتى لو تمكنت الآلات من تقليد الجوانب غير المنطقية للتفكير البشري، فإن طبيعة وجودها تظل مُختلفة جذريا. وهنا نعود إلى أطروحة “جون سيرل” في (حجة الغرفة الصينية) فحتى لو تمكنت الآلة من محاكاة الفهم البشري عبر توليد نصوص لغوية أو فلسفية معقدة، فإنها تظل – من وجهة نظر سيرل – مثل شخص داخل غرفة يتبع تعليمات لدمج رموز دون إدراك معناها.
لكن في الواقع نحن لا نستطيع الجزم بأن هذه الأنظمة لن تتطور إلى درجة تُصبح فيها التعليمات الداخلية معقدة لدرجة أنها تُشكل تمثيلات ذاتية للعالم.
أظن أن النقاش هنا سيدخل بنا إلى منطقة ضبابية بين الفلسفة وعلم الأعصاب. فبعض الباحثين يرون أن الوعي ظاهرة ناشئة عن التعقيد الحسابي، وبالتالي فإن أي نظام قادرٍ على معالجة المعلومات بمستويات كافية من التكامل والتنوع قد يطور شكلا من أشكال التجربة الذاتية. لكن هذا الطرح يواجه اعتراضا أيضا، فالتجربة الواعية ليست مجرد نتاج لعمليات حسابية، بل هي مرتبطة بجسد حي يشعر بالألم والفرح، ويتفاعل مع العالم كمشارك فيه، لا كمراقب خارجي.
النموذج اللغوي الذي يكتب قصائد مؤثرة لا يعيش تجربة الحب أو الفقد، والمصمم الآلي الذي يبتكر لوحات فنية لا يمتلك حسا جماليا ذاتيا. هذه الفجوة بين التقليد والماهية تُذكرنا بتحذير الفيلسوف “مارتن هايدغر” من أن التكنولوجيا قد تُعمينا عن جوهر الأشياء، فيصبح العالم مجرد موارد قابلة للاستغلال.
في النهاية، ربما لا يكون السؤال الحقيقي عن حدود الذكاء الاصطناعي، بل عن حدود فهمنا نحن لطبيعة الذكاء نفسه. فكلما اقتربت الآلات من محاكاة الجوانب الظاهرية للعقل البشري، ازدادت الحاجة إلى إعادة تعريف ما يعنيه أن نكون بشرا.
إن الاعتراف بالجرح النرجسي الرابع ليس استسلاما، بل تحد يجسد جوهر التفرد الإنساني، فإدراكنا للعالم لا يقتصر على المعالجة الحسابية، بل ينبع من قدرتنا الفريدة على التشكيك وطرح الأسئلة واعادة النظر فيما نظنه ثوابت وبديهيات. وكما قال سقراط قبل أكثر من الفي سنة: «الحياة التي لا تُفحص لا تستحق أن تُعاش»