النقد

الحداثة الشعرية.. الشعر الليبي تحديداً

قراءة لنتاجات شعرية تترنم الآن

Heap of Faces 2020 Adnan Meatek Ink On paper 32 x 42 cm ركام من ملامح سابقة 2020 عدنان بشير معيتيق
Heap of Faces 2020 Adnan Meatek Ink On paper 32 x 42 cm ركام من ملامح سابقة 2020 عدنان بشير معيتيق

يتجايلُ الشعرُ في كلِّ رقعةٍ تضمُّ تجمعاً بشرياً وتتحددُ مسوغاتُهُ تبعاً لظروف تشكُّلهِ التي تتكينن بفعلِ الحاجةِ. يدخلُ الشعرُ من بابِ رغبةِ الشاعرِ في التعبيرِ عن المكنوناتِ والتطلُّعِ للتغيير. لا يأتي الشعر تبطراً؛ وليس من مقامِ الصدقِ قول أنَّ الشعرَ ترفٌ، وأنَّ الشعراءَ ليسوا إلاّ حالمين في واقع ٍ من هواء.. أنهم في الحقيقةِ مرآةُ مجتمعاتِهم وذاكرةُ أجيالِهم؛ ناحتوا التاريخ وحافروا ثرى الأمم على صوان الزمن. هم الصائتون وإن صمتوا/ الموجودون وإن تواروا/ المتقدمون وأن تخلفوا.. المبصرون في العتمة/ الراءون في الضباب.. الانقياءُ وقتَ الغمّة/ الأتقياء زمن الرياء. مشكلتهم أنهم صرحاء/ صادقون/ حالمون قافزون على الأيام. يبغون تحويل العالم إلى خمائل من جنان، وسماءٍ من زرقةٍ أبدية. وما نراه من رؤى يجاهرون بها عبر الأجيال والحقب لهو من فيض ما يبتغون.. ابتغاؤهم هذا يتشظى وينشطر إلى رؤى بؤرية تحمل صفة التعبير عن الرأي متصفةً بطابعٍ يخُصُّها. تدعو له كرسالةٍ وترغب في انتشاره كمذهب؛ اندفاعاُ منها أنّه الرسالة المُثلى والطريق الأفضل؛ فتتعدد جرّاء ذلك الأساليب وتتناسل الرؤى؛ وتولد الأجيال.

إن ما نراه اليوم من آراءٍ تدعوا إلى لمِّ الجيلِ انطلاقاً من تحديد زمني وضعوه بين عشرة أعوام كعقدٍ وقتي هو من منطلق الشعور بأن الجيل الذي ينتمي إليه الداعون هو الجيل الامثل وأن ما قبله لا يجاريه؛ وان الذي سيأتي لا بدَّ أن يتصرف بتصرف المتعلم من أستاذه. والذي أراه على الساحة الأدبية الليبية من نقاشاتٍ ومساجلات تدخل في إطار تحديد الأجيال والمجايلة الشعرية وهو نشاط أدبي يحسب لدينامية الثقافة الليبية، وليس من الصحيح المطالبة بتوقف الحديث عن الأجيال وانتماءاتها الأدبية. فهذا السجال يعكس التطورَ الفكري لشريحةِ الشعراء ويقدمهم على أنهم خلاّقون لا توقفهم مصدّات الخشية من التساجل وتبادل الآراء الأدبية.

إنها الأرضية الخصبة لنمو حركة معرفية تؤمن بأن الأشياء في تغيّر وان الذائقة لا يمكن أنْ تتجلمد على تذوقٍ محدد، وأنَّ الأرضية الإبداعية لا تثبت على نقطة ارتكاز واحدة إنّما هي تتحرك وفق جدلية الحياة التي لا تعرف الاستاتيك ولا تؤمن به.  والشعر يجد نفسه دائما في تحدٍّ مع المحيط والموجودات مثلما هو الشاعر حاضن هذا الشعر ومنتجه؛ كلاهما يتوقان دائماً لإعادة بناء العالم وفق رؤاهما اللتين يجاهران بها ويسعى لجعل الآخر يتقبلها.

مناحي التساجل الشعري الليبي

يتحرك الشاعرُ طبقاً لرؤيته وبنى ثقافته التي جمعها وكرَّسها من جملة ثقافات واتجاهات ومعارف شتى ليصنع أسلوبَه الذي يتميز به ويجاهر بمكنوناته ودروبه والمسارات. وعلى هدي القراءات المتوفرة أمامه وحوله وما يجده متاحاً تنحو ذائقتُهُ لبناءِ أهراماتِ خلودهِ الإبداعي ونتاجاته التي يسعى لأن تكون خلاّقه تؤثر في ذائقة الآخرين فتدخل من أبواب مشاعرهم إلى قرارات نفوسهم فنجد مَن آثر الكتابة الشعرية مبحراً في بحر من المشاعر الصوفية على زورق جمع أخشاب تكوينه من منهل صوفي مزج الحلم بالتأمل والدنيا الوقتية الفانية بالدنا الأزلية الباقية. يذهب محمد سالم المزوغي وهو شاعر مهم في مسيرة الثقافة الليبية والعربية راحلاً على بساط السحر المفرداتي في عالم صوفي يتعالى فيه الروح ويتسامى على التفصيلات الدنيوية لا يعينه في مناحيه غير الشعر، وليس من غير القوافي صديقاً يواسيه ويقف على مِحنِهِ فيعمل على تبديدها بالتعاون صبراً وتحملاً وتبديا. فهو مسافرٌ أبداً (وهذا ديدن التصوف وجوهره) في لجة الحياة وفضاءات التأمل، في “غربة الروح”، و”حلم البراكين” بلا زادٍ يرتجيه ولا حلم يواسيه على عظم آماله وآلامه حتى بلغ بالصحب أن يتفرقوا عنه وينأون عن معاناته؛ فلم يبق له سوى الشعر قريناً، والقوافي بعضاً من زاد. فالمحن الثقال تزداد، ومعها تتراغى مصدّات الضياع حتى أنَّ القلق على المصير يغدو بصيغة التساؤل المحيّر المجروع كالسم: “ما عاد في الكونِ دربٌ فيه تلقيني”:

مسافر أين؟ حيرانٌ يناديني

في غربة الروح صوتٌ منك يشجيني

قد ظل يسكبُ في سمعي وفي بصري

ما فجّر الصحوَ في حلم البراكين

حتى نهضتُ ولي شوقٌ ولي أملٌ

أسعى إليك لعل الشوق يهديني

كل المراكب قد أحرقتها ولَهاً

ما عاد غيرك في دنيايَ يغريني

مسافرٌ.. أين؟ لا زاد يبلغني

ما أرتجيه ولا نجم يواسيني

تفرّق الصحبُ عني حين أفردني

طبعٌ وفيٌّ لأحلام المجانين

وما وفى ليَ غيرُ الشعر أكتبه

حينا، ويكتبني جُلّ الأحايين

وما عتبت عليه حين أطلقني

معنىً تمنّع عن كافٍ وعن نون

هل ُيسْكبُ البحرُ في كأسٍ وهل قبضتْ

يوما على الشمس كفُّ الماء والطين؟

مسافر.. أين؟ أقدامي تسائلني

ما عاد في الكون دربٌ فيه تلقيني

                                                             نص “مسافر”

الحس الوطني.. بانوراما الاعتزاز بالأرض والهوية

يبقى الاعتزاز بالهوية والتوجه نحو تكريسها كمكمّل للشخصية من ثوابت الإنسان الذي يرى في أرضه وجوده وكينونته وأحلامه ومصيره ودنياه ودفئه وأعشاشه والسماء الجامعة لآهاته وصرخاته وأمانيه، والدروب التي تضمه وتتلقفه وتأخذ به في مسالك كشف المستور وتبيان المجهول. والشاعر هو الصوت العالي واللسان الهاتف بالتعبير الامثل عن تقاسيم الهوية وتجسيدها، وهو الذي يرى وثباته على ثرى الوطن نوعاً من الرفل الجميل والتوثّب العارض للمرح والباعث على الابتهاج. يقول المتنبي: “ذكرتُ به وصلاً كأنْ لم أفز به// وعيشاً كأنّي كنتُ أقطعه ُ وثبا” كتعبير عن الوصل الذي لا يمكن تفكيكه أو قطعه مع ارضه وانشداده لها بكل ما يمتلك من خزين شعوري نحوها.

وفي الواقع الليبي يأتي الحس الوطني متعالياً بخلجات الشاعر نحو البوح عمّا يعتريه وتداوله لليومي المعاش فنستطيع تشخيص جملة نصوص لا يمكن إغفالها والتغاضي عن الشفرات المبثوثة بين اسطرها؛ لعلَّ أهمها النص الذي يتمتع بإعلان الهوية الصارخة للوجود الوطني وهو يحكي المفردات التفصيلية والعطر المحلي والسلوك المضمّخ بالبراءة والصدق بعيداً عن البهرجة والتسامي نحو الكمال، لأنَّ عشق الشاعر لأرضه وسمائه وجغرافيته المسماة ليبيا تستنفر في دواخله كل التفاصيل العمرية من تخوم الطفولة حتى دركات العمر الراهص في قلقه ومجنونه،  في انشغالاته  وتوهانه.

يغدو عمر الكدي شاعر الهوية الليبية التي تقر برفلها كبدوية تعتاش على خثرة هواء البحر ونسائم ليل الصحراء؛ وهو الذي يعطي توصيفات عدة لليبيا: بفتوتها وطفولتها، بكهولتها وشيخوختها، بنزقها وشفافيتها، بكونها نخلة سامقة ووجودها كفرس جامحة. “النخلة والفرس” هما شفرتان غذّى بهما الشاعر النص ليقرأهما القارئ على أنهما يقودان لمدلولات الأنفة والكبرياء وعدم منح القلب والثقة إلا لمن يستحقهما بعد اختبار ومقدرة.

وفي نص “بلاد تحبها تزدريك” يتمظهر التوصيف بليبيا عند الكدي كما الوقوف على الأطلال عند الشاعر القديم. استهلال تعريفي يؤطر للنص موجزه ثم يدخلنا كنشرة الأخبار في التفاصيل.. والتفاصيل هنا رسالةٌ موجهة لليبيا أو خطابُ ولهٍ يفوه به صانع النص كبوح عشقي يأتي من طفلٍ مخمور بالبراءة أو رجلٍ مشدوه بالموسيقى الهارمونية السابحة في مدار تحركه ومسار مناماته:

    ليبيا بدوية شرسة/ تحب حين تحب مَن تشاء/ وتكره حين تكره من تشاء

    تسقي العابرين القاحلين/ بدلوٍ من أجاج وغناء/ وتستسلم لمن يطوقها بالقوافي

    وينفذ إلى قلبها على صهوة الخيال.

    ليبيا فرس جامحة/ لا يمتطيها إلا مَن يركب الريح/ بلا سرجٍ ولا لجام.

    ليبيا نخله سامقة/ لا تمنح عراجينها/ إلا لمن يعبر الأشواك

    وتذبح كفيه الحبال.

                                                        نص “بلاد تحبها وتزدريك”

وعلى جانب آخر حيث الاعتماد على التاريخ والجغرافية كمحفز لاستنهاض الوقت النائي من بين براثن النسيان وحيث يصبح الشعر لدى خالد درويش من أيقونات إعادة الزمن الماضي وطرحه على طاولة الحاضر كيما يُعاد استنطاقه وبوحه بما لم يقدر على البوح به عبر الحقب.. إنّ ليبيا عند الشاعر مؤرخة عهود الغازين لمفاتنها والطامعين بإرثها الجميل وسحرها الذي لم يذق منه أهلها فسحةً للتمتع ونحرها الذي لم يشمه واحداً من المتولهين بها والهائمين بأريجها. وبينما كانت خمائلَ غناء للآتين مما وراء بحور الاستحواذ كانت أيضاً تتلقّى آهات أهلها ولسع سياط الأعداء على الظهور؛ ومعهم أيضاً كانت صامدة وظلّت صابرة. ومع النص الطويل، سيمفونية الألم الحزينة التي تقص بانوراما شعب تأسر وانهتك بسيوف المحاربين الأعداء كان للوقت رائحة الليبي المضمخة بالإصرار على الحياة رغم ثقل السلاسل وهيمنة القيود على المعاصم والنفوس:

       للوقت رائحة تؤثث من وفاء الحسن/ ساريةً تدب، صبا قلب تعرش في مياهك

       في اختلاط محاربين بغابة القلق/ السلاسل في المعاصم، / واحتماء زرافتين في شغف،

       المواعيد على ظهر المكان في قلب الكمان.

إنََّ الشاعر يحس بألم السكين الوالغ في قلي الإنسان الليبي الذي ذاق مرارة القرون ولم يذق متعة ثمار أرضه وبحره. ولم تكن السماء رحيمة بمعاناته. من هنا يتوج بالنداء له ليرثيه تارةً وتارات يضخُ في قلبه شلالات الاعتزاز بالوطن والأرض.

يا أيها الليبي، يا صحف الأوائل والقبائل/ يا دورة الأزل البعيد فيك ينكسر العبير، ينتحب المغني آخر العمر/

ويرحل المطر الشرود.

                                      ” أنا الليبي المتصل النشيد “

ويتراغى الاعتزاز لدى الشاعر بوجوده كليبي حاثّاً قافيته الإبداعية ليقول النشيدَ، الشعر فخاراً بأن الخلود للأرض، والسمو لصاحبها الذي تشبث بها وصارع الخلود من أجل الخلود.. إنَّها السِّمة التي يتصف بها الإنسان الأصيل الذي يجد في أرضه هويته وبقائه فيجدُّ من أجل إعلان تعلقه بها والموت دونها ليبقى نشيداً متواصلاً يحكي سفر التعالق والتماهي بالأرض والتاريخ.

       من بلدي وما بلدي سوى الحضارة /

       والخلود /

       أنا الليبي متصل النشيد

       مقلتان وينحني الكون المؤلّه/ في تراتيلي الحميمة، /

       مقلتان ويدخل الليبي

        من طقس الخلود إلى طقس الخلود.

وعلى جانب التحديث في شكل القصيدة لمعالجة خلجات الناص والخروج بنصٍّ يعكس زمن تشكله توجه العديد من الشعراء صوب محاكاة الحداثة بألوانها وصفاتها المتعددة وهي أحد أوجه التعبيرات عن المكنونات وسعي خالق النص إلى عرض نصه بالشكل الذي يرتأي. والشاعر الليبي لا يختلف عن غيره من الخُلاّق الذين يسعون لتكريس هذه التوجهات كونه المفعم بروح الخلق الناحي باتجاه التميّز وخلق النص الذي يمثله. وفي الساحة يتبارى الجميع في إظهار هذه الصفة تائقين إلى كسب الرضا والإيماءة التي تسمهم بالتحديث. يكتب محد زيدان في تهاجسه مع القصيدة التي فرت من يديه بعدما أكمل خلقها في نص (لا شي سوى الماء) ليعبر عن ملكية النص لغير الشاعر الذي انتجها فهو يرجو أن يعيدها من يعثر عليها بعد أن أصبحت التي سبقتها من ملك المتلقي الذي استلمها في هواء الثقافة:

          قصيدة أخرى/ يفترض أن تكون هنا/ سقطت قطرة ماء على الورقة/

          فانتفضت قصيدتي / سحبت جسدها وقفزت من النافذة! /…/

          من منكم رأى قصيدةً مذعورة/ تركض في الشارع دون حذاء/

          أرجو إعادتها لي!

   وفي نص لصالح قادروه يحمل عنوان “اسمك” يتحرك الفعل إلى أمام ليجعل حدوثه وتفاصيل فعله في الزمن الذي لم يأت، زمن المستقبل أي أن ما يريد فعله يدخل من باب الافتراضات، لذا سنرى سين المستقبل تأخذ صدارة الحدث وتهيمن على طبائع الفعل وتأثيراته وهو يخاطب الحبيب صابّاً لعناته اللغوية وصوره المتفاوتة ومفرداته التي يستعير تأثيراتها من أسماء وشواهد تأتي بها مَلَكة التعبير من الخزين المعرفي الذي يسكن دواخل الشاعر:

هذا ما سأفعله باسمك/ سأشده من أذنه / وألقيه في حلبة ثيران/ لتأكله القرون الحاقدة /سأكتبه على جدار في شارع مظلم/ ليبول عليه السكارى/ العابرون/ سأنقشه على رمال الشاطئ / لتأكله موجة جائعة/ وإن لم يحدث ذلك/ سأمشي فوقه بقدمي المليئة بالفطر/ وأنا اهتف: سحقا.. سحقا/ سأكتبه في المناشير السرية/ ليمزقه المخبرون/ سأرسمه على وجه تمثال زعيم متخم/ ليبصق عليه الفقراء/ سأعلقه على حبل غسيل واطئ/ بمساكة سميكة/ ليركل الأطفال كرتهم نحوه
 هذا ما سأفعله باسمك.
إذاً في تناولنا لهذه الأسماء الشعرية من مسيرة الحداثة في الشعر الليبي لا يعني أنها الرموز إنما هو تناول لما وقع بيدنا من شع؛ فهناك عبد الرزاق الماعزي وعبد الوهاب قرينقو والمهدي الحمروني وسالم العوكلي وعبد الله زاقوب وصلاح الدين الغزال والشاب محمد القذافي مسعود ناهيك عن مفتاح العمّاري وسميرة البوزيدي وآخرون قد لا تحضرهم الذاكرة فهم في تواصل وإنتاج مثير وتشكيل أدبي مهم.. وإذا كنا جعلنا من هذه النماذج مدخلاً لتأرخة حقبة من الحداثة الليبية في الشعر فأنَّ هذا الشعر وتلك الحداثة لن يتوقفا بل سيستمران بناءً على جدلية الحياة المتقدمة ودينامية الأفعال التي لن تتوقف؛ وستظهر أسماء تواصل المسيرة وتنهل من ثراء الماضي الشعري وصرح الحاضر المستمر.

مقالات ذات علاقة

عاصفةُ عين

ناجي الحربي

سعيد المحروق كاتم الصوت

أحمد الفيتوري

امرأة على حافة العالم وقصص أخرى

المشرف العام

اترك تعليق