قصة

الحصلة في الري

​آية أبوعقرب

راي الكبي (الصورة عن الشبكة)

في قُعر الشارع تقبع مربوعة الشيابين؛ هكذا اصطلح سكان المنطقة على تسميتها. لا أحد يذهب إليها، أو يجلس فيها. بل لا أحد يدري ما الذي يدور فيها من أنشطة أو أحاديث، ولا أحد يعرف أصل أولئك الشيوخ الذين يزورونها كُل ليلة كملهى مقدس أو كضريح خاص. فهي تابو مُشمع وعليك أن تشيب أولا حتى يُسمح لك بدخولها. أما إذا سبق ودخلتها، فلا تستطيع التحدث عنها بعدُ. هذه هي لعنتها كما يقولون.

ليلتها كان حميد جاهزا. قد لبس بدلته العربية المعتادة، ووضع فوقها الجَرد الوحيد الذي يملكه، وراثة عن أبيه. معتمرا قبعته الصوف لم ينس أن يترك مجالا لسوالفه الشائبة بياضا أن تعرض نفسها اختيالا لرائيها. ففي يومها قرر حميد، أخيرا، أن الخمسين عاما تكفي ليلتحق بالمغامرة المجهولة في نهاية الشارع.

حميد؛ بعد أن صلّى العشاء، وأكل العشاء، واطمئن على نسائه من خيانات المساء، قفل بيته، ودسّ قفله في جيب سُترته وتوكل يدبّ خطوة، خطوة ناحية المربوعة. لم يتوقف عقله أبدا عن تخيل كل الأمور العجيبة التي يمكن أن تحصل هناك تلك الليلة. فالأساطير، على لذتها، مُقلقة. وسقط قلبه فجأة عندما تصور أنه توجد طقوس من نوع ما لقبوله في جماعة الشيابين. هل عليه أن يسرد بعضا من طفرات شبابه المجنونة؟ أم عليه أن يستهزأ بالشباب نفسه؟ هل سيضطر أن يخلع الطاقية حتى يتأكد الجميع من شيباته المعدودة، وبالتالي من عضويته المشروعة؟ أم عليه فقط أن يُشعل سيجارة؟ ربما على أن أشتري من الحاج ميلود علبة رياضي قبل أن أصل للمربوعة. هكذا فكّر.

بُعيد عشرة دقائق، عندما طرق على باب المربوعة الذي يستقبل الشارع مباشرة، كان قلبه يطرق أيضا، وبقوة. لا يتذكر حتى أخر مرة شعر فيها بالرغبة والرهبة معا، وبذلك الحد. لقد كان القدوم للمربوعة من شأنه أن يُثبت له وللأخرين أنه دخل إلى تلك المرحلة، حيث المشاعر كالرغبة والرهبة من المفترض أن تنقرض. ولكن..

وجد الباب مواربا. بسمل، ثم ولج. كانت الإضاءة بالداخل خافتة في بدء الأمر. لذا لم ير جيدا وجه الذي استقبله على الباب. له هيئة جلمود، ويرتدي جرده دون أي إزار تحته. وما كاد حميد يسلّم عليه ثم يتخطى العتبة نحو حلقة الشيابين الجالسين في وسط المربوعة حتى أمسكه الرجل من قذاله، وثبته في مكانه

– من أعطاك الرقم؟

ولم يعرف حميد بماذا يُجيب، أهناك رقم ما سري للدخول؟

– من أعطاك الرقم؟ هاه؟ أعاد طرح السؤال.

وبدا أن حميد بالفعل لا يملك الإجابة، فنظر في وجوه الجالسين يلتمس توضيحا، أو نجدة. ضحك اثنان منهم، بينما تحرك الثالث في مكانه، وكان أصلعا، وأفطسا كما تبين لحميد من مكانه، ثم تكلم قاصدا كلامه للجلمود

– فيثاغورس، ألم تمل من طرح نفس السؤال على كل من يأتي لنا! لقد صار الموضوع مملا جدا، كزاوية تسعين. من ثم، كيف سيعرف المساكين من أين أتت فكرة الرقم لعقولهم أه؟ نحن نلعب الكارطه لأجل هكذا معضلات دائما ومع هذا لا زلنا لا نعرف شيئا.. تحلّ ببعض اللباقة!

– لكن الأرقام هي كل شيء يا سقراط! كل الحقيقة! ردّ فيثاغورس مدافعا. ومن قال إني أريد منه إجابة. أنظر لوجهه، هذا ما كنت أنتظره!

رفع حميد يده دون وعيه نحو وجهه، ولكنه سرعان ما أزاحها. أخطر في بال الرجل ما خطر في باله؟ لقد شعر بدهشة عميقة من السؤال. أخرج هذا في ملامحه أيضا؟ لم يفكر يوما من أين تأتي الأفكار، أما الأرقام! لم يخطر الأمر عليه من قبل. وكاد يسرح لولا أن نظرات الأربعة الجالسين أمامه أقلقته كما لو كان عذراء في خيمة جنود. الكل كان يشاهده بإعجاب وتوقٍ شديدين. تنهّد سُقراط بصوت مسموع، وترك فيثاغورس قبضته ودعاه ليجلس بينهم. ففعل.

مرت ثواني صامتة قبل أن يتكلم الشيخ الممتلئ جسدا الذي يجلس بجانب سقراط مباشرة معرفا بنفسه على أنه أفلاطون، دون أن ينسى إخبار حميد بغير مناسبة، أنه تخرج من أكاديمية السوربون في فرنسا منذ أيام السبعينات. رغم أنه كان أيضا يرتدي الجرد كبقيتهم لكن النظرات التي اعتلت ملامحه كانت كتلك التي عند ملك الكوبة، حالمة ومتعالية.

– هل أنت متأكد يا سقراط؟ لا أعتقد أن الجديد بإمكانه فهم قواعد لعبتنا هذه بالذات. أعني، اللية ليلة الحصلة في الريّ، ليلة المغامرات الخوالي! وهذه بالذات ليلة مهمة جدا لنا! بإمكانه الانتظار خارج الحلقة، ألا تتفق؟ قال أفلاطون.

– لا لا! بإمكان الجميع أن يلعب بالتساوي ما دام لديهم أدمغة وعلامات استفهام. أجاب سقراط.

التفت أفلاطون لفيثاغورس، كأنه يريد ربح جانبه، فأعاد عليه ذات الاستعلال

– فيثا! أنت وأنا نعرف أن بعضنا، ببساطة، ليس مقدرا لهم أن يكونوا لاعبين جيدين، أليس كذلك؟ من ثم، ألا تجد اللعب كأربعة أمر مثالي!

لكن فيثاغورس صاح فجأة قبل أن يغلق فمه بيده. وتحول لشبيه مخبول في ثانية

– حقا، أربعة! يا إلهي! ستكون اللعبة عادلة جدا، أقول لك! ستكون عادلة جدا! مربع داخل مربع! الزوايا! الحقيقة! ربما وأخيرا سنكتشف أين يهرب الريّ المخادع! على أحدنا أن يبقى خارج اللعبة ليراقبه جيدا. لا يمكنه هذه الليلة أن يفلت من قبضتنا يا رفاق! لا يمكنه!

اتجه فيثاغورس ناحية الجالس الرابع. الوحيد الذي لم يتعرف حميد عليه بعد، كان يسدل غطاء الجرد فوق رأسه، ويعتمر نظارتين هالكتين تسكن خلفهما عينان غامضتان لم تهدآن منذ دخل حميد المربوعة. عندما سأله فيثاغورس ناداه باسم أرسطوطاليس

– أستاذنا أرسطو! أتقبل أن تتنازل عن دورك هذه المرة وتراقب لنا اللعبة من الخارج؟

– أوه يا فيثا. رد أرسطو هامسا وبشكل مريب. تعرف أني لا أحب الميتافيزقيا.. ولكن لا بأس، علينا أحيانا، من أجل أن نُجرب ظواهر ما بعد الطبيعة، أن ننحي للطبيعة قليلا. دعونا نبدأ الشوط دون تعقيدات أخرى..

وهكذا، رغم اعتراض أفلاطون سحب سقراط الأوراق من علبة مهترئة، قديمة وطلب من حميد أن يشكّبها. قال له بابتسامة متفهمة أنه عندهم حظ المبتدئين فأل مُقدس.

حميد، الذي ترك أراءه المتخبطة داخل دماغه الصغيرة منذ دخوله المربوعة أراد أن يقول لهم أنه يعرف جيدا كيف يلعب الحصلة في الريّ. لقد كان يلعبها دائما عندما كان صغيرا. ولكنه لم يقل شيئا، لم يرد أن يعطي للعجوز المتكبر – كما كان يرى أفلاطون – عذرا لمضايقته. فشكّب الأوراق جيدا بعد أن أخرج جواكر الورق؛ المهرّجين الاثنين، الملون والصامت، وثلاثة من الملوك جانبا. هذا يعني أنه قد بقى ملك واحد داخل المجموعة. الريّ. ثم وزع الورق اثنا عشر ورقة للاعبين الثلاثة حول الحلقة. وبقت مجموعة من ثلاثة عشر ورقة. ومجددا ،من أجل حظ المبتدئين، طلب سقراط من حميد أن يتحصل عليها.

وشاهد حميد رفقائه الثلاثة وقد بدءوا يستبعدون الأوراق المتجانسة، وسمع أرسطو الوقور يتمتم بجملة ما ناظرا لقفا أوراقه كأنه يخترقها: التعرف على الأنماط، الذكاءُ هو التعرف على الأنماط. ولم يكن عند حميد فكرة عما يقصد أرسطو بتمتماته تلك. لقد شعر لوهلة أنه يشهد ميلاد طقس غريب. ففي نهاية الأمر، كانت المربوعة عادية جدا كأي مربوعة شيابين أخرى قد سمع بها من قبل، لكن الشيابين أنفسهم! يا الله! فكّر حميد والشعيرات أسفل قذاله تنتصب مرعوبة، الشيابين لابد أنهم قادمون من الجحيم!

ثم تذكر أنه بانغماسه في ملاحظة طريقة تنقية المتشابهات عند جلسائه، قد نسي هو نفسه أن يستبعد الأوراق المتشابهة. ففرق أوراقه في راحة يده وبدأ يضع الستة فوق الستة، والتسعة فوق التسعة، وهكذا حتى تبقت له ورقتان، هي مجيرة وسبعة، وكلاهما ديناري. ولكن ألم يكن عنده بداية رقمٌ فرد يمن الأوراق؟ كيف ينتهي الأمر به بورقتين اثنتين، عدد زوجي؟

رفع ورقاته اليتيمة أمام عينيه. لقد تخطّاه الريّ على كل حال، هذا حقا ما يهمّ. وهذه كانت أجمل لحظة عند حميد لمّا كان يلعبها صغيرا. هربت ابتسامة ضئيلة من فِيه لاحظها أرسطو فهمس له

–  نعمة الجهل. هنيئا لك نعمة الجهل يا حميد!

ولم يبدو عليه أنه قالها من شفقة أو تكبر. قالها فقط دون أن تظهر أية مشاعر على وجهه ذي الملامح الحادة المستقيمة. ولم يدرِ حميد بماذا يجيب، مرة أخرى. صحيح أن حميد نجّار ليس إلا، لكنه قد أكمل تعليمه حتى معهد الحرف والفنون، فماذا يقول أرسطو؟ أيستهزأ به. ثم كيف تتغير قوانين الطبيعة هكذا هنا؟ لو علم حميد أن الانضمام لهذه المجموعة سيكلفه إهانات كثيرة وأسئلة عقيمة لما أتى. ولكنه جالس الآن بينهم، وعليه أن ينهي اللعبة بشروطهم شاء أم أبى.

انهمك رفقائه الثلاثة يتناقشون فوق أوراقهم. قال سقراط

– تحصلت على أربعة وعشرة وكوالي ومجيرة.

قال أفلاطون

لدي أنا أيضا أربعة وكوالي بالإضافة لواحد وثلاثة. –

صاح فيثاغورس بجنون

–  أيها الملاعين! دائما أحدكما أو كلاكما يتحصل على المجيرة أو الأربعة! طيب، لا أحتاج المجيرة الغنجاء في شيء ولكن الأربعة! ماذا أفعل أنا بهذه المهزلة التي عندي؛ الواحد والسبعة والعشرة والثلاثة!  لو كانت هذه المجموعة عندك يا أفلاطون لكنتَ تزوجتها! أنا متأكد..

ثم نظر لسقراط وأضاف

-لا يمكنني معرفة طول وتر مثلث دون معرفة مجموع مربع طول الضلعين المقابلين له. مُربع، وليس الطول نفسه! هذه قاعدة ثابتة، ألا ترى! الأربعة مهمة في مجموعتي لألاحق الريّ! اللعنة عليكم وعلي هذا الحظ البائس..

ألا تكبر يا فيثا! رد سقراط عليه، أقول لك دائما أنه لا يمكنك فهم ظاهرة مريبة كتواري الريّ عنا بحشوها في معادلة رياضية!

ولكن فيثا أزبد وأرعد ولم يسكت للإهانة، فانتفض معتكزا على ركبتيه عاطفا ناحية سقراط حتي كاد ينزلق الجرد عن جسده العاري دونه

سقراط يا رفيقي! هذه إهانة لا أتقبلها أبدا، اسحبها فورا بحق المنطق الذي بيننا!

تدخل أرسطو في الجدال الذي كاد أن يستمر إلي ما لا نهاية

– عزيزاي، لا يمكننا تغيير مدخلات اللعبة ما دامت قد تشكبت وانتهت عشوائية توزيعها! فيثا، إننا نعتمد على عبثية الطرحات لنفهم عبثية اختفاء الريّ، أليس كذلك؟ سقراط، الأرقام مهمة أيضا، لا يمكننا تجاوز مرحلة التشطيب دون بعض الرياضيات.

وبدا أن الجمع راض عما قاله الأستاذ، فالتفتوا نحو حميد وكأنهم ينتظرونه لإخبارهم بشيء مهم عن أوراقه، والذي بدا بدوره أنه قد أساء فهم كلّ شيء، فتكلم لأول مرة تلك الليلة

– أعتقد أن فكرتي عن هذه اللعبة تختلف كليّا عما تفعلونه الآن، لا أفهم ما الذي يجري! ثم لابد أن الريّ عند أحدكم، لقد وضعته بيدي داخل المجموعة!

لكنه ليس عندنا كما تعلم، قال أفلاطون بترفع. أم أنك لا تسمع جيدا أيضا أيها المسكين! قل لنا، أليس عندك الواحد والسبعة؟ يبدو أنه لا أمل لنا مجددا أن نجد الريّ من أول جولة!

التقط حميد نبرة قد قلت لكم في صوت أفلاطون ولوهلة تفاجأ بمعرفته لأوراقه، هل شاهدها خفية عنه؟ رغم أنه يقابله تماما، ثم تذكر مقولة أرسطو عن الأنماط، فباستبعاد المتشابهات مجددا عند الأخرين لا تبقى من ورقات غير الواحد والسبعة، والريّ بالطبع. ولكن أين هو؟ كيف اختفى هكذا من بين يديه؟ هل سها عنه عندما ألهى نفسه بالأرقام الأخرى؟ أتكون كل هذه الجلسة مزحة سمجة؟

وقبل أي رد فعل أخر من حميد سُمع دقٌ على الباب. من الذي يأتي بعد أن يبدأ الشوط؟

نهض أرسطو ليفتح الباب، دخل رجلان أخران في مثل عمرهم، أحدهم كان يرتدي الجرد إزارا حرا حول خصره ثم مرميا فوق كتفه اليسري بغير اكتراث، تماما مثل فيثاغورس، ويحمل في فمه سيجارا طويلا، وكان يدعى الحاج أبيقور. والأخر يرتدي الجرد بشكله العادي ويدعى بيرون. وأكد هذا الأخير، وبوضوح أنه لا داعي لمناداته بالحاج بيرون، لقد ظهر لحميد من مكانه أنه بالفعل قد يكون أصغر منه حتي.

اتجها ناحية الحلقة وجلسا كلاهما بجانب أرسطو، الذي طلب منهما أن يساعداه في الاستقراء العام لتفاصيل اختفاء الريّ. وافقاه بعد مناقشات بسيطة

– لا أرى المتعة في ما تفعلونه هنا. امتعض الحاج أبيقور، وزمّ شفتيه حول سيجاره الملتهب. لقد صرتم شيوخا بشيباتكم الوقورة وكل ما تحصلون عليه من مُتع هو التحديق في المجيرات الأربع!  لو كان صاحبي فرويد هنا لأتهمكم بالقصور الجنسيّ!

سمع حميد تمتمة وهمسات حول الحلقة من الجميع، بعضهم يضحك ويغمز صاحبه، وبعضهم أستعاذ من فرويد ذاك المذكور.

فأضاف بيرون:

– لا بأس يا صديقي الحاج أبيقور، دعنا لا نغرقهم في سفسطتنا الزائدة. فسقراط وأفلاطون هنا، وحتي الأستاذ لا يحبوننا أن نتكلم عن المشاعر والنسبيات العامة وهذه المفاهيم التي لا تخضع للعقل، بل وأعتقد أن لأفلاطون هنا حساسية تجاه كل ما هو قاصر عن الاكتمال. أنظر! فوجه صديقنا صار أحمرا بالفعل!

ثم قهقه الجميع مجددا. حتي حميد ضحك وقهقه معهم، كانت تلك أول مرة يبتسم فيها منذ دخوله المربوعة الملعونة تلك الليلة. وإذ هو ينظر لوجه أفلاطون الممتقع أستوضح مقصد بيرون تماما، فها هو وجهه المدوّر كفطير العشيّة يزاخمه الدم الذي فرّ إليه بوفرة. بدا كأرستقراطي ناقم.

ولكن أفلاطون لم يرد بشيء. وعندما لم يجد بيرون من يعارضه وأبيقور قررا أن يساعدا أرسطو في الاستقراءات الطبيعية. إلا أن أبيقور وضح أنهما لا يستطيعا البقاء كثيرا، فوراءهما حفلة هامة عليهما أن يحضراها، وإذ ذكرها ضحكا الاثنان لشيء لم يعرفه البقية. ثم أكدّ أيضا أنه شخصيا أتصل بباقي الرفقاء ليأتوا تباعا للمربوعة متي ما تسنت لهم الأوقات والعافية.

سأل أبيقور: إذا، متي أخر مرة شوهد الريّ بينكم، أه؟

فأشار الجميع نحو حميد. لقد شعر حميد كما لو أنه في مركز للشرطة أو القضاء، أو في سيرك مسوخ، يُساق اتهامات لا يدري عنها شيئا.

– دائما ما يختار القلوب الجديدة، الطازجة، هذا الري الكوبةّ الماكر. أضاف أبيقور مفكرا.

– إذا نظرنا في الأوراق ذات الأرقام التي تبقت عندكم، تدخل بيرون؛ والتي تبين نمطا معينا لا أستطيع أن أجد له قاعدة عامة، بسبب تواجد الصور بين الأوراق أيضا. أقول هناك احتمالية متساوية عند الجميع أن يكون الريّ عندهم.  هل فتشتم جيوبكم جيدا؟

ولماذا برأيك نلبس جميعا الجرود؟ دمدم فيثاغورس، ألم نتفق أن لا أحد منا يلبس الإفرنجي يوم الحصلة في الريّ، حتي إنني كما ترى ألبسه دون أي شيء أخر! لا يمكنني تحمل فرصة لاختبائه فيزيائيا! لا! لا!

وكان يجلس بجانب فيثا أبيقور، فتسللت يده داخل صدر فيثا المكشوف وقال ماجنا

– أما أنا يا خلّي فألبسه عاريا دونه حتى أكون جاهزا دائما، للسيد الريّ و.. لأشياء أخرى. وراح يضحك وبيرون عاليا قبل أن ينهرهما الجمع، فيسكتا.

نهض أرسطو من فوره وصار يلف حول الحلقة من الخارج، منحنيا فوق رؤوس أعضاءها كأستاذ بالكتّاب. وصار يهدي كأنه يصليّ معقبا على كلام بيرون

– لا يمكننا تفويت النمط، عزيزي بيرون! أعلم أن لك عقلا مفتوحا كقِربة خمر مثقوبة، أيها الشكاك الصغير، لكن لا يمكنني أن أهضم استنتاجا فضفاضا كهذا. أنظر!

وقف فوق رأس فيثاغورس وأعلن

– عند فيثا ثلاث أرقام فردية، ورقم زوجي واحد. إذا جمعنا اثنان منهما، السبعة والثلاثة صار عندنا عشرة، الرقم الزوجي!

ثم وقف فوق رأس أفلاطون وأعلن أيضا

– ولأفلاطون هنا رقمان فرديان ورقم زوجي واحد وصورة. إذا جمعنا اثنان منهما، الثلاثة والواحد صار عندنا أربعة، الرقم الزوجي!

ثم وقف عند رأس سقراط مليًا، حائرا

– أما لسقراط عددان زوجيان، الأربعة والعشرة، وصورتان. والعجب أن مجموع أوراق فيثا الفردية، وهي عشرة، وأفلاطون أيضا، وهي الأربعة، كلاهما عند سقراط!

ثم ترك سقراط ووقف فوق رأس حميد. شعرُ هذا الأخير وقف أيضا خلف رقبته، أي طقس مجنون يشهده حميد وقتها؟

قال عندها أرسطو، أخيرا

– أما أوراق حميد فلا أدري النمط الذي يجمعها تماما، كل ما أراه في المجيرة والسبعة هو أنهما كلاهما ديناري! ألم تلاحظا أن للمبتدئين غالبا علاقة ما بالطفرات! أو.. ربما نترك الأرقام والأشكال الدينارية المُربعة لفيثا! ثم جلس.

ولكن بيرون تدخل قبل أن يجيب فيثاغورس، قائلا بملل واضح وفجّ

– أوه يا أرسطو، يا أستاذنا القدير! لقد كانت لك هفوات عظيمة في هذا الاستقراء الفذ لا تغفرها لك نظّاراتك ونظراتك الخبيرة هذه! ففي مجموعة فيثا أسقطت الواحد كأنه لا يوجد! يحدث لك دائما في مجالسنا أن لا تكترث بالبسيط من الأشياء. وكأنك نفسك تكفر بالإسكولائية التي هي منك وفيك، وباتفاقيتنا القديمة؛ نصل أوكام: ينبغي أن نجعل كل شيء بسيطا قدر الإمكان. ثم إن في مجموعة أفلاطون كواليّ لم تُدخله القسمة، ألا تعلم أن الشاب هنا يساوي رقما أيضا؟ أوه يا أستاذنا أرسطو لطالما نسقط، نحن وأنت، في تمجيد مشيخة الريّ دون أن نبالي بالكوالّ والمجيرات الحسنوات. أقول لك مجددا كما نبّه عليه عزيزي أبيقور، لو كان فرويد هنا لأتهمك بالقصور أو بالمِثلية!

وأراد حميد أن يسأل من هو فرويد هذا الذي يجيء ذكره ويذهب، كما أنتظر أرسطو أن يردّ على بيرون. ولكن إذ لم يجب أرسطو استمر بيرون مخاطبا إياه

– أعلم أنك مولع بالتصنيف أستاذنا، ولك تاريخ عتيد مع التنميط، والجدولة. ولكن هناك أمور نسبية دائما ما تفر من الخط الذي ترسمه لها. إنه لا معنى في الأرقام والأوراق ما دامت الاحتمالات الوجودية وراءها متساوية. وهنا تقبع الميتافيزقيا التي لا نستطيع الوصول إليها، مهما ادعينا! إن سُلمنا ذاته مشكوك في دَرجاته!

علم الجميع أن لفيثا كلمة دفاع في وجه بيرون، حتى حميد بدأ يرى أين يقع شغف فيثا، وجنونه.

– تفلسف ما شئت يا بيرو، ولكن كما يقول الأستاذ هنا؛ إن شكلا مما هو إلا مجموع خصائصه المميزة! والريّ بهروبه منا دوما يكون طرف المعادلة المجهولة. الآن، لو أننا سويّنا طرفا واحدا بجمع الخصائص المميزة فيه أو بالقسمة، بالتربيع أو بالإزاحة، بجبره أو بهندسته نكون قد تحصلنا على القيمة المجهولة في الطرف الأخر! الريّ! الريّ المخادع! الأمر بسيط كما تريده أنت، هو فقط يلبس الحُلّة الرياضية!

وذهب النقاش جيئة وذهابا بين فيثا الممسوس بالمنطق الرياضي، وبيرو المتشكك فيه حتى داخ حميد ولم يعرف من يصدق بعدُ. كان لكلاهما كلاما موزونا، ودفاعا حكيما. أما ما أقفل النقاش فهو مقاطعة بيرون له إذ قام أبيقور فجأة من مكانه، معتذرا أن عليه وبيرون أن يتجها لوجهتما الأخرى فورا، ودون تأخير. قال لهم قبل مغادرتهما أن الليلة عنده أثمن من أن يصرُفها في لعب الكارطة، ثم خرج. رغم أن بيرون أظهر امتعاضا ما لانتهاء النقاش الذي بدا وكأنه يتلذذ به، إلا أنه لحق بأبيقور تاركا الحلقة فارغة المراقبة إلا من أرسطو، مجددا.

ولكن دخول زائر أخر للمربوعة، شيخا للدقة، عادل الموازنة من جديد. سلّم هذا الزائر وجلس هو الأخر حول الحلقة بجانب أرسطو دون سؤال أو استفسار، وكأنه يعرف البروتوكول مسبقا.

لم يحالفكم الحظ هذه المرة أيضا؟ هكذا قال.

عرّفه أرسطو على أنه الشيخ توما الأكويني. قال إنه يشتغل بوزارة الإفتاء، لكن فتنته الكبرى هي الكارطة وله فيها صولات وجولات في هذه المربوعة بالذات، ومهما غاب عنها أو تاب فإنه يعود للياليها، دائما.

– أقول لكم في كل مرة أنه لا داع لتحصيل الريّ. فكما ترون، كل مسعانا الذي نخيب فيه بشكل متواصل في هذه الطرحات أن نحصل نحنُ في الريّ! ولكن ما دامه يفضل أن تكون له إرادة حرّة في الاختباء عن، أو الظهور لمن يشاء فعلينا أن نرضخ لأساليبه الخاصة! وهذا القُربان هنا، هذا الرفيق المبتدئ لن يحصلّ عنكم ريّكم. عليكم أن تكتفوا بمعرفة أنه موجود في مكان ما في هذه المربوعة وكفى! ومتى ما أراد أن يحصلَ فينا فأهلا وسهلا به. فلنلعب بنزاهة بقيّة الشوط، هذا رأيي.

– لقد أثرّ عليك كيركجارد يا توما، قال سقراط بعد سكوت طويل. لقد سمعت أنكما كلاكما ذهبتما للحج سوياً الشهر الماضي. ربما عليك أن تخفف من صداقتكما قليلا.. إني أحذرك، لقد كاد أن يقنعني بالقفز من فوق المربوعة أخر مرة تسكعنا معا، أنا هو. كان يقول أن الريّ لا يوجد داخل حيّزها المنطقيّ وبالتالي علينا البحث عنه في الخارج! قفزة من أجل الريّ، كان يقول.

– اتركنا من محاولة تبرير نزعتك الإنتحارية يا سُقراط! ردّ توما الأكويني. كلنا نعرف أن بمساعدة صديقي كيركجارد أو من دونها لك ذوق دموي ما! دعنا لا نكون مثل النساء ونغتب ظهور بعضنا بعضا! من ثم، وبالرجوع إلي أوراقكم يا سادة، أرى أن في طبيعتها نمطا معينا، كما يقول عزيزي أرسطو هنا، مساقا من الأسباب والنتائج إذا تمّ تتبعها قد نصل إلي العلّة الأولى! الريّ!

رفع أفلاطون يده في الهواء وطلب من الجميع أن ينصتوا له، فالتفتوا تجاهه، بمن فيهم حميد، الذي إلي تلك اللحظة لم ينفك يبحث بيده في جيوب صدريته عن ورقة الريّ الضائعة، أملا أن يكون قد أخطأ في التوزيع من البداية، ولكنه لم يجده بعد.

– يبدو أنكم نسيتم تماما أن الورقة التي كانت عندنا ما هي إلا صورة واحدة من أربع نسخ موجودة في العلبة! وهذا الريّ الذي نختاره دائما ويهرب مناّ ما هو إلا ريّ واحد من أربعة. ذلك أنه يا أعزائي لا يوجد عندنا، ولا حتي ذاك الريّ الماكر، ريّا متكاملا هو في مجموعه الريّ المثالي! كل ما عندنا صورا منقوصة كلٌ على حدى عن جوهر الريّ الكامل المتكامل الذي لم تحالفنا جولاتنا في مقابلته حتى الأن. إذا، وأصرّ أنه علينا ملاحقة الفِكرة لا الصورة.

وتذكر حميد وهو يشاهد أفلاطون يتكلم بلكنة فِرنسية خفيفة، ربما هي قد تبقت له من أيام دراسته بالسوربون، أن أفلاطون قد يكون محقا ولكن بطريقة مغايرة لما كان يقول، فصاح فجأة فيهم

– كلام الحاج صحيح! لدينا بالفعل ثلاث من الريّ حتي وإن فقدنا واحدا! فلنأخذ ريّا أخر من المتبقيات ونحشره في أحد مجموعاتنا، وتنتهي البلبلة!

وعندما سكت حميد، وجد أن عيون الجالسين أمامه، كلهم، تنظر إليه في استحقار واستنكار، وتكسّر صمتهم ووجومهم عن مناقشة مباشرة وحادة بينهم، بدا لحميد منها أنهم يقصدونه بها. وشعر أنهم ربما أرادوا أن ينهضوا من مكانهم، ويقذفوه في الشارع. فعرق جبينه، ونزّ حرجا وقلقا.

قال أفلاطون

– كيف تجرأ أيها العاميّ!

قال توما الأكويني

– ليس هكذا تُلعب الحصلة في الريّ أو الكارطة يا سيّد!

قال فيثا

– أوتحسب أن الريّ الكوبة الذي نختاره دائما كمثله من أوراق الشيوخ الأخرى!؟

قال سقراط معقبا عن فيثا

– بل هو الذي يختارنا يا عزيزي فيثا، هو.

قال أرسطو، وبان أنه متفهم بعض الشيء

– حميد، يا صديقنا الجديد، لو كانت الحصلة في الريّ تُلعب بأربعة من الريِّ لكانت لُعبة جامحة، وفوضوية. إنه من المنطق أن يكون هناك ريّ واحد داخل المجموعة، وأن يبقي هو هو ذاته واحدا حتى وإن لم يظهر لنا لاحقا. المعضلة ليست في اللعبة إذ نبدأها، ولكن فيما بعدها!

ثم أضاف بعد هنيهة، بنبرة هادئة، وغائبة في صدره

– هناك متعة ما في اللحاق به، أنا الإبتسمولوجي الجلدُ لا أستطيع إنكارها.

فراح يتمتم الجميع: أمين، أمين. حتي حميد استشعر خفقانا لذيذا في قلبه، وأمنّ معهم دون أن يُلاحظ نفسه.

واسترجعت المُحاولات مرة أخرى. ونهض النقاش، وترعرع أكثر رغم أن الأكويني غادرهم هو الأخر لتصادم الساعة مع موعد صلاته الليلية.

– دائما تتصور أنه هناك مُثلا ما في أفقك الأوليمبي يا أفلاطون، استأنف أرسطو مُعلقا. أفكارا ناضجة، وتامة في الخلفية البعيدة عن فيزيقيتنا المحسوسة. تقول، مثلا، لو أنه هناك أربع أوراق متشابهة عموما ولكن مختلفة، كل منها تحمل صفة متفرعة، ودقيقة تختلف بها عن مثيلاتها فهذا يعني أنه هناك، وأستلف من فيثا مصطلحه المفضّل، قاسما مشتركا ما بينها هو في مجموع ذاته وكلّه شامل لخصائصها، ممثلا لها؟ ألا تنظر للأمر من ناحية أخرى؟ ألا يكون هذا المُثل، الفكرة الشاملة والتامة مجرد عملٍ خيالي من أعمال دماغنا الذي لا يرتاح ولا يكلّ له بال حتي يجد النمط المحدد للأشياء من حوله؟ حتى وإن كلفه ذلك الإيمان بأشياء غير موجودة، ولا حقيقية. آه.. لقد قلت لكم إني لا أحب الميتافيزقيا!

– إنه ليس ما يحبه المرء أو يبغضه ما يعطيه شرعيته الوجودية أستاذنا، علّق سقراط. ربما لو نعود لوضع خطة عملية لإيجاد الريّ يا سادة..

– هذا كلام ممُتاز يا سقراط.

كان ذاك الداخل الجديد للمربوعة، رغم أنه لا يُعتبر غير حميد جديدا عليها. فها هو يسلم، ويعانق الرفقاء حول الحلقة ثم يجلس أخيرا بجانب أرسطو، بوجه يكاد يكون جامدا مثله. فوضّح أرسطو قائلا

– هذا فرانسيس بيكون، متقاعد مثل أغلبنا، لا شغلة له غير لعب الكارطة، والبحث عن الريّ في ليالي الكساد!

واعتقاد حميد كان في محله، إذ ظنّ أن بيكون هذا سيبدأ مِثل غيره في تحليل المسألة، وقتلها قولا، وتفسيرا، وتعليلا.

– عندي رأي قد لا يعجبكم يا سادة المربوعة، صرح بيكون بصوت يكاد لا يخرج إلا من أنفه. أعتقد أننا لو شرّحنا الأوراق الموجودة عندنا نصفين فربما نجد الريّ هاربا داخلها. أعتقد أننا لم نجرب ذلك بعدُ، أليس كذلك؟ لقد تعلمت من تجربتي القديمة في قسم الجنائيات أن أغلب الموتي يحملون سرّ موتهم داخل أجسادهم! هلّا بدأنا بالجواكر رجاء؟ تستفزنيّ، تينك الورقتين الخائبتين..

ويبدو أن للفكرة وقع حسن في نفس أرسطو، فأخد إحدي الورقتين من حميد، الجوكر الصامت، وشرع يسحب زاوية مكشوطة بعيدة عن بعضها البعض بأظافره الحادة، والمستقيمة كسكينة. وأخد بيكون الجوكر الأخر وعمل فيه ما عمل صاحبه في أخيه. تشلّحت الورقتان كوردة مغصوبة على أن تنضج سريعا، ولكن لا بدرة داخلها. لم يجدوا الريّ هناك أيضا.

وعلي هذا الخبر المؤسف ولج زائرين جديدين، فأشغلا أرسطو وبيكون على تشريح بقية الأوراق. لقد فكر حميد أن هذه الليلة لن تنتهي أبدا، وخُيل إليه في عينه الجوّانية منظر سريره الدافئ، وحُضن زوجته الحنون. ماذا يفعل هنا؟ يلعب كارطة سحرية، ويُفعّل طقوسا غريبة لا تليق بشيباته اللاتي أراد، أولا وأخيرا، بمجيئه للمربوعة أن يوقرها، ويحتفل بها! فتذكر علبة الرياضي التي تقبع مع القدّاحة وسط طاقيته الصوف بجانبه. وانتابته إرادة قويّة، ومُبررة ليشعل سيجارة هنا والآن، يُطفأ بها زخم هذه الهلوسة المجنونة، هو الذي أقلع عن التدخين منذ الخامسة والعشرين! ولكنه، ربط جأشه ولم يفعل.

كانا الزائران – رغم أن حميد وحده الزائر الحقيقي – الجديدان رجالا كبارا أيضا، يزيّن شِكيمة أحدهم، والذي عرف حميد فيما بعد أن اسمه ديكارت، لحية خفيفة بيضاء، وشاربا طويلا أبيضا أيضا. أما صديقه الذي يتأبط ذراعه، متكأ عليها فقد ظهر لحميد رجلا طويلا، ووقورا، تحمل ملامحه، وخطواته علّة مرضية ما. ترقد على عُرف أنفه زوج من العدسات القديمة، وكان يدعي سبينوزا. وإذ هما يجلسان محاذاة الحلقة بعد تفرغهما من السلام والتحية بجانب أرسطو وبيكون حتي نهض هذا الأخير معتذرا، ومتكلفا لعذرٍ لم يصل منه كلمة لأذن حميد، فارتدي شبشبه، ولفّ قطعة جرده الحرّة جيدا حول رقبته ورأسه حذر البرد، وخرج.

– أرى أنكم على ضلالكم الأول يا أصحاب، استهلّ ديكارت. ما زلتم تتبعون الطرق القديمة بفحصها بذات الاستدلالات القديمة!

تنحنح الربعُ داخل الحلقة وخارجها، عدا حميدُ، وبان على وجوههم أنهم شعروا ببعض الحرج. فقال سقراط

– جربنا طرائقنا جميعا، كل ليلة، مرة وراء الأخرى ولم نفلح بأيها. وإلا لما ما زلنا نلعب برأيك، يا ديكارت. أما كونك ثوريٌ وعسكري سابق لا يعني أن تقسم رؤوسنا بأفكارك الحداثية!

– ولكن، اعترض ديكارت، لا زلتم تخفون الريّ بأنفسكم! بتقاعصكم! فلو كنت مكانكم لوجدته من البدء! لا تنقصكم الرياضة فها هو فيثا معكم، ولا تنقصكم الميتافيزقيا فها هو أفلاطون أيضا معكم، وأنت الأخر يا سقراط بين ظهرانيهم فلا تنقصهم لا الأسئلة ولا الأخلاق، وها هو الأستاذ أرسطو سيدّ الفيزقيا الطبيعة! كلكم لعبَة مهرة، وأدواتكم كرماحٍ مسنونة، غير أنكم تُفتنون دائما بالقوانين المكتوبة مسبقا! أو ما رأيك صديقي سبينوزا؟ ألست على حق!

ولكن سبينوزا كان ينظر نحو الجواكر المسلوخة داخل الحلقة كأضاحي العيد، وفي عينيه نظرة حزن، وقتامة.

– ما ذنب قلوب الدراويش تطاردونها لو كنتم أنفسكم قاصرين أن تحملوا في قلوبكم ما توهمتم أنه لديهم!

وعندما أكمل كلامه نظر في عينيّ حميد نظرة لم ينسها حتي اللحظة. نظرة قد تكون تحذير، أو هي نظرة حسد أو مقابلة. لم يكن متأكدا تماما. ثم إذ تنبه سبينوزا أن الأخرين لا زالوا ينتظرون منه تعليقا ما على كلام ديكارت، أسقط نظراته أرضا وقال

– كلامك كلّه صحيح، رفيقي ديكارت. لكنك تنسى دائما أنك نفسك تستخدم كلّ هذه الأدوات معنا وأكثر عندما نلعبها باكرا ومع هذا تفشل أنت الأخر في الحصول على الريّ. لا تزعل من كلام صديقٍ مهتمّ؛ ولكنه من السهل أن ترى المُشكلات عند البقية عندما تكون لك نفسا تواقة للتصنيف، والتأطير، وخلق حدود للأشياء المطلقة! أوه، لا إهانة لك أستاذنا الفذّ أرسطو..

– لا لا.. كلامك صحيح أيضا، ردّ أرسطو. لقد اشتغلت عشرين عاما في السلك التعليمي ولم أقدر حتي الأن أن أقول أني استطعت تصنيف كلّ طلابي في أفرقة محددة، وواضحة. فبين السنة والأخرى يتملص تلميذ أو اثنين عن القاعدة العامة من الطلاب، ويشدّوا في صفة أو مجموعة صفات جديدة! إن هذا يعطيني شعورا مريضا لا أستطيع مقاومته إلا بتقريبهم لأقرب فئة مناسبة!

ثم سكت قليلا، وأضاف بقلق

– لا تخبروا بيرون أني قلت لكم هذا! لو درى لوشاني لفرويد ولاتفقوا على لإضافة الوسواس القهري لقائمة الأمراض النفسية التي سبق وقذفوني بها!

فضحك الجميع بمن فيهم سبينوزا الهاديء. ثم أكمل ديكارت كلامه، عن الريّ هذه المرة

– لو أرجعنا كل ذي تابع لمسببه، قد نصل لحُكم مثمر. تقولون أن الريّ يختفي بعد التشكيب والتوزيع مباشرة، حسنا، هذا يعني أنه هناك فجوة ذِهنية لا يمكننا ملؤها بمزيد من الطرحات. ربما يقفز لبعد أخر، الريّ أقصد، هو البعد النفساني، بينما نبقى نحن هنا نبحث عنه بلا جدوى داخل البعد المادي! وقد تقولون إذا كيف نعلم بوجوده وقت غيابه، ذلك أننا لا نعود نحسّه بين أيدينا، أو نراه بأعيننا، ولكننا نستشعر وجوده الخفي عناّ باستخدام الوسيلة الوحيدة الممكنة للاتصال بالبُعد الذي هو فيه، بُعد النفس والذهن والأفكار. أقول ما دمنا نفكّر فيه، إذا هو موجود!

ولكن العلّة تكمن في كيف نتحصل عليه، وجد حميد نفسه يُفكر. لقد فزع لكونه يطرح سؤالا خطيرا كهذا داخل عقله، وللمرة الأولى تلك الليلة. أهي عدوة هذه العادة التي يتشربها القوم هنا؟ ومن فزعه لم يقدر أن يقول كلمة مما يخطر في باله وقتها. وقرر أن يحتفظ بملاحظته لنفسه.

ولكن، والظاهر، أن بعضهم فكّر مثل ما يفكر فيه حميد، فلم يتركوه وحيدا. انحنى سبينوزا داخل الحلقة من فوق كتف سقراط، وقال قاصدا ديكارت

– لصديقي هنا كونجيتو مقنعة، وباهرة. ولكن ما يفوتك يا ديكارت هو أنك تحسب أن للعملة وجهين اثنين، وتتعامل بها على هذا الأساس، وتنسى أن قيمة العملة في كونها عملة واحدة، قائمة بذاتها وإن تعددت أوجهها. فلا تستطيع شراء أي شيء بوجه عملة واحد. كذلك صاحبنا الريّ هنا، تعتقدون أنه يهرب لبعد أخر هو منفصل عن بعدنا هذا؟ فكرّوا معي، ماذا لو كان كل الوجود في المربوعة بعدا واحدا! ألا يصير الريّ أنتم، وتصيرون أنتم ريّا! وتكون المُعضلة إذا، ليس أين الريّ، ولكن كيف نكون، نحن في أنفسنا، أفضل ريّ ممكن!

– كفاك من هراء سارتر الوجودي! قال له ديكارت. يعتقد أنه فهم الكارطة عندما صنع منها برجا ورقيا، وهدمه بنفخة! يكفينا ثرثار وجودي واحد في المربوعة! وبالمناسبة أين هو؟ لم أعد أره مؤخرا..

– أو تحسب أنه مغفل مثلنا ليضيّع كل لياليه مع عجائز، نخرة؟ وضّح سقراط. سمعت أنه تزوج المدام دي بوفوار أكتوبر الماضي. قد يأتي أخر السهرة على كلّ حال.. لكنّي لا أدري ما الذي يجمعك دائما باسبينوزا يا ديكا، تبدوان لي متنافرين على الدوام؟

– ذلك أنه كما قلت لك يا سيدي، أجاب اسبينوزا بدلا من ديكارت، أنه للعملة وجهين اثنين، ومن دون واحدهما تفقد قيمتها! في هذه المرة قد أكون ثنائيا مثل صديقي، ولكن في هذه المرة وحدها!

ودام الجدال الأزلي بين السبعة منهم، بينما اكتفي حميد بمشاهدتهم يتقاذفون العلل والغائيات بينهم ككرة طاولة. أما فيثاغورس فبين الكلمة والجملة كان يختلس ثانية أو اثنتين ليدون على ظهر أوراقه معادلات رياضية وأشكال هندسية معقدة عقل حميد البسيط لم يتعرف إليها برقم.

ثم ومن جديد دخل زوّار أخرون للمربوعة. ليبتنز، لوك، هيوم، بيركلي، وكانط. هكذا دعاهم الرفقة عندما أحاطوا بالحلقة دون أن يجلسوا إليها. فاشتعلت المربوعة زحاما لأول مرة، تلك الليلة.

تكلم ليبتنز معتذرا، وكان رجلا له قدّ نحيل يلفّه جردٌ بنيّ داكن

– نوينا أن نأتي باكرا الليلة لننضم للعبة معكم منذ انطلاقها، ولكن للأسف اضطررنا أن نقف عند منزل نيوتن قليلا. الرجل ذبح خروف بمناسبة صدور كتابه الأخير، المبادئ الرياضية، وقد كنّا من المعازيم.

قال لوك -العجوز ممتقع الوجه- مضيفا، من فوق نظرته المتعالية، وأنفه المجعّد

– الرجل وشلّته لم يعودوا يلعبون معنا الكارطة مؤخرا، لقد كفروا بالوسيلة التجريبية لتمضية الوقت! هذا يكتشف الجاذبية، وصاحبه ذو الشعر الهائج يكتشف النسبية، والأخر يقول أنه اخترع ميكانيكا الكم. وكلّها وسائل مُجردة! فيثا، منذ صِرت تهدي بالرياضيات يا عزيزي حتى أصابت الحُمي جماعتنا من الفيزيائيين، فتركونا خشية أن يتركهم المرض فيرجعوا أصحاء مثلنا مجددا! وأتجرأ فأقول حتى ديكارت هنا معرّض للإصابة!

– بل كلنا يا لوك العزيز، كلنا. صحح أرسطو معترفا. ولو أن للجاذبية من مقدرة سحرية على إسقاط الريّ من برجه المجهول في سقف المربوعة لصِرت له بنفسي غانية! ولكن لا الجاذبية نفعتنا من قبلُ، ولا النسبية! إنها أمور مفيدة خارج هذه المربوعة وحدها..

ثم دعاهم جميعا أن يدلوا بدلوهم داخل الحلقة. فوضّح لهم مساق استقراءاته، وعلله، وما تقدم لهم من نتائج فاشلة، ومحاولات.

– بالطبع ستفشلون، ابتدأ هيوم، الرجل صاحب الجثة الضخمة، بنغمة صوتية جبليّة، وهازئة. وأقول ستفشلون، بصيغة الاستشراف لأنه قد يكون الاستقراء الوحيد الصحيح الذي سنخرج به من هذه اللعبة اللعينة! إنكم تستخدمون أداة قاصرة أصلا لفهم شيء اخترعته عقولكم! أين الريّ، ولماذا يختفي كلما بدأت اللعبة؟

سكت هنيهة، ثم استأنف دون حذر، أو وجل

– حسنًا، فلنأخذ الأمر بما تسيّره تقاليدكم؛ بوضع استقراء منطقي للمعضلة: بمقدمة صغرى، الريّ ورقة لعب. وبمقدمة كبرى، ورق اللعب موجود هنا، والآن. وبنتيجة هي، إذا الريّ موجود هنا، والآن. ولكنكم تغفلون، إذ تحشرون استدلالاتكم في أفق ضيّق للغاية، عن رؤية الأمر في صورته الكليّة. فليس هذا الاستدلال سوى انسياقٌ لرغبتكم الجامحة في تصديق أن هناك أمور فوق طبيعية، ميتافيزيقية الظروف، تحصل بينكم. وإلا، فتتبع الأسباب معتقدين أن لها محركا أولا، مربوعيّ الأصل، هو علتها الحقيقية فهذا وهمُ جهور من حضراتكم المترفعة عنه! لا أبالغ إن قلت أنكم باختراعكم لهذه السببية الصمّاء تقودون كلّ اللعبة نحو مصير تافه! ومن يهتم أين يختفي الريّ؟ أقسم أن أحدكم يغشنا ويسرق الورقة كلّ مرة!

وحتى تلك اللحظة، كان حميد يتابع كلام هذا الذي يسمونه هيوم بشيء من النفور، والكدر. لا يدري لم انتاب قلبه شعورا معمم بالإهانة من هذا الرجل. ليس لنبرته الجريئة، ولكن لأنه تكلمّ في شيء لم يخبره بنفسه. وبنفيه للريّ بشكل مؤكد، ظنّ حميد، يقع في نقض مقاله ذاته. من ثم، إن حميد كان شاهدا على اختفاء الريّ، كان هناك لمّا اختفى. والقول أن اختفاء الريّ من بين يديه عمل سابق الترصّد كان أمرا شخصيا بالنسبة لحميد، إلا أن كانط لم يتركه لحال خواطره كثيرا، فقال مردفا

– إننا معشر اللاعبين هنا نبغضك لجرأتك، ونحبك من أجلها في ذات الوقت، عزيزنا هيوم. ولكن الأفكار من دون مضمون فارغة، والحدوس دون تصورات عمياء! فلو أنك اعتقدت أننا نخلق مُشكلاتنا بنفسنا فأحب أن أقول لك أنك مخطئ يا سيدي! أولا لأن التجربة تقف معنا إذ نحن نفقده دائما، هذا الريّ السريّ، في نقطة معينة من اللعبة. ثانيا، العقل يصدقنا أيضا. إذ أن وجود منطق تتابعي في عقولنا يقودنا من النقطة ج حتي النقطة ب وصولا للنقطة أ هو ضرورة عقلية. غير أني لا أنكر، أمامك وأمام السادة الكرام، أن التجربة والعقل كلاهما لم يقودانا بعدُ للريّ المنشود، ذلك أنه برأيي نلجأ لحلول حسيّة فيما أن الحدس وحده من يخبرنا أين الريّ، وكيف نجده! وهذا ربما تتفق فيه معي، أما قولك أننا نتلاعب بالأوراق فهذا خُلق لا أغفره لك، صديقي هيوم، لأنه وإن غاب الريّ عنّا لا زال بمقدرتنا أن نتصرف بروح رياضية سليمة!

اطمئن حميد لكلام كانط، وحسّ أنه اقتنع بما كان يقوله، قبل أن يفيق على نفسه ويجدها متورطة في التفسير، والتحليل حتى توافق على أحدها، أو تعترض على أخر! لقد انزلق حميد نحو هذا الجرف الغريب، وبدأ يتتبع معهم ملابسات قضيّة اختفاء الريّ دون أن يشعر. لقد استحى أن يضرب نفسه أمامهم كفّا ليصحا، فاكتفى أن قرص إصبع قدمه الصغير.

سرقه من تفكيره مجددا الرجل الذي يرتدي عباءة المشيخة فوق بدلته العربيّة دون جردٍ كالبقية، ارتأى حميد أنه كان يدعى الشيخ بيركلي.

– كل تبريراتكم خاطئة للأسف، يا سادة، تنحنح بيركلي. لا يمكن التأكد من حقيقة شيء واحد داخل هذه المربوعة، ولا شيء واحد! إننا نعتقد أننا نفقد الريّ لأنه كان أصلا في حوزتنا؟ ما هذا الهُراء! بل كلنا أشباه حزم في حوزة أحلامه! فلو أنه بقا كالأخرين داخل اللعبة لمّا تشككنا في وجوديتنا بتاتا، ولكن ما دامه يختفى تحت ظروف غامضة، وميتافيزيقية تشكك في مشروعيّة حواسنا إذا فالأخيرة باطلة، وخائبة!

ثم رفع يديه أمام صدره كأنه يحرك خيوط دمى لا مرئيّة عند قدميه

– أتخيل الريّ وهي يلعب بنا الكارطة كأننا أوراق لعب مسطحة، وغبيّة. بعضنا كبّا، وبعضنا ديناري، وبعضنا ذبّانة! فيحركنا كيف يشاء ومتى يشاء وللأسباب التي يشاء. أتخيله وهو يقذف في عقولنا أفكارا عن اللعب به هو نفسه فنفتنن بوجودنا ونصدق أننا محركي دمى قادرون على طرح السؤال، ومطاردة إجابته!

صفق الجميع لمداخلة بيركلي، عدا نفرُ منهم فيثا، وهيوم. قال فيثا

– لا تخفيه في حوزة عباءتك هذه وكلّ شيء سيكون على ما يرام! ألم نتفق يا شيخ أن لا تحضر إلا في جردٍ حتى نقتل الفُرص الفيزيائية؟

– إن لي حياة خارج المربوعة يا فيثا، لا يمكنني تسلّق المنابر بالجرد الرزين يا أخي! انظر لميكيافيلي وروسو وماركس وباقي أصدقائنا القدامى، أتحسبهم يأتون بعد اليوم للمربوعة ليلعبوا الكارطة معنا؟ يقولون أن الحياة خارجها أزخم، وأرحب ولم يعد لهم هنا من مصلحة تُذكر.

وبعد العتب، والمشادات الجدلية الأخرى خرج الجمع كلّه لقضاء حوائجهم، وتفرقوا أمام باب المربوعة مفتوح المِصرعين، دون أن يحلّوا المعضلة، بل ظنّ حميد أنهم قد زادوها عُقدا. ولم يبق غير حميد والثلة الأولي: أرسطو وسقراط وأفلاطون وفيثا، حتى دخل عليهم بعد ربع ساعة أخرى ثلاث رفقاء أخرين: هيجل ذو الابتسامة الصامتة، والوجه الخشن. وشوبنهور ذو الجبهة العالية، والسوالف الطويلة. ونيتشه ذو الشارب الطويل، والنظرة الثاقبة. وهذه أسمائهم سمع حميد أرسطو يناديهم بها.

حدث ما حدث مع البقية من تقديمهم للمناهج والحوارات السابقة، فقال هيجل

– من الصعب أن تصير مؤرخا دون أن ترى أن هروب الريّ هذه الليلة نتيجة معقدة من أحداث متوالية أخدت مكانها منذ أن بدأنا اللعب هنا كل ليلة. فأولا أتت فكرة أن الريّ مهمّ، ثم فكرة أن الريّ الكوبة أهمّ، فتولدت فكرة اختيار الريّ الكوبة ليكون الحصلة. ثم أتت هذه الأخيرة المركبة وامتزجت بالفكرة البدائية أن الريّ مهم فتولدت فكرة أكبر حتى من غيرها في عقولنا أن له أهمية تفوق باقي ورق اللعب وتفوقنا! وهكذا توالدت الأفكار، وتمازجت، وتكاثرت كفئران المخازن. ونحن اليوم نبحث عن الريّ كفكرة هي نتيجة عن غيرها، ولو أننا أُعطينا وقتا لحولناها لسبب ولربما وجدناه في أخر المطاف كحتمية لهذه العملية التطويرية، والمعقدة. ولا أقول أننا سنجده الريّ الذي عرفنا، فمن يدري أيّ ريّ، وبأي شكل يكون، فكما تدرون كل شيء يتغير. يتغير، كنهرٌ جارف يبدلّ مياهه ثم يقودها حتى النهاية.

– أرى نقطتك الرئيسية يا هيجل، قفز شوبنهور للحوار. ولكن ايمانك بأن للشجرة جدع ففروع فأغصان لا يعني أن الأغصان ستنتهي في شكل جذور لشجرات أخريات! كل ما في الأمر أن الأمر تدافعي محض، فالريّ يبقى مختفيا ما دمنا نتدافع، ونتجادل حوله باستمرار. كل من في هذه المربوعة مشغول بالحصول على الريّ لنفسه. لذلك لا يمكن للنهر أن يصل لنهاية، بل سيتدافع الوجود داخل هذه المربوعة يصادم بعضه بعضا، فنتكدس أكواما فوق بعضنا ومن يبقى أخيرا قد يتسلقنا ليجد الريّ! ولكن لا إرادة لنا فوق هذه المدافعة، والمقابلة. إننا نأتي هنا كلّ ليلة نبحث عن الريّ الضائع وكأنه يوسوس لنا في مناماتنا! يغازل رغباتنا الدفينة! قد أغيّر كلامي وأقول أننا مدفوعين به، وليس عليه!

وشارك الكلّ في هذا الحوار الذي استمرّ يتحرك في اتجاهات كثيرة، تدخّل نيتشه فيه فلم يزده إلا بنزينا!

– اسكت يا شوبنهور بالله عليك! أتقول أن ورقة صنعناها بأيدينا تأتي لنا في أذاننا، وترقص هناك رقصة إغواء؟ لقد مات الريّ تماما وإلّا أين هو بعد كل هذه المحاولات العقيمة، بل أكاد أقول أنه يريدنا أن نصنع له جنازة، ونقيم الصلاة عليه! هلمّوا نأخذ الورق ونرسله للجحيم، علّ وعسى يخرج من بين رمادها من تدّعون أنه يهرب منكم دائما! علّه، إن خرج، أن يكون ريًّا كاملا! ريّاً أعلى! سوبر ريّ! إني إن كنت أتفق مع هيجل في شيء فهو حتمية التطور. وإن كنت سأتفق في شيء مع شوبنهور هو أن هذا التطور لن يحدث إلا فوق أكوام أجسادنا البالية!

– إنك تسرقُ من داروين سطره المُفضل يا نيتشه، ابتسم سقراط. لا تغفر لك شهادتك العتيدة في اللغة والنحو أن تسرق كلمات الأخرين! أعلم أنك تفضل مجالسته علينا، ولكن لا أستطيع أن لا أتشمت في كونه هناك على ظهر البيجل يخدم البحرية، وأنت هنا حاصل معنا، وحاصلون فيك! ألا تكون أنت الريّ المنشود يا نيتشه.

فضحك الجميع بعد تلك المجادلات الساخنة، ولم يسطع حميد إلا أن يُعجب بتمازج الأمزجة المتنافرة داخل هذه المربوعة. فرغم توالي الأفكار المتضاربة، وتلاكم الردود بين الحاضرين، والرائحين إلا أنهم بقوا جميعا محافظين على استرخاء ابتساماتهم، وتجدد صداقاتهم قبل أن يغادروا. وحين فكّر في المغادرة وجد أن هيجل وشوبنهور ونيتشه قد أقاموا متاعهم، ونهضوا متأسفين لاضطرارهم للمغادرة في تلك الساعة المتأخرة.

وهمّ حميد أن ينفض يديه من هذه اللعبة المليئة بالشعوذة، وأن يقوم هو الأخر يرى حاجاته، ويسيّر ليلته فيما تبقى منها على النحو الطبيعي الذي اعتاده، غير أن زائرا أخرا اقتحم المربوعة لاهثا، ومختنقا. وها هو أرسطو يرّحب به على أنه كيرجارد.

– مرحبا، مرحبا بالجميع! قال كيركجارد خلف لهاثه المتواصل، ألم يأت سارتر بعد؟ سأل أرسطو

فأجابه أرسطو مستغربا

– لا. ولكننا سمعنا أنه ربما ياتي الليلة لزيارة قصيرة، اتريده في حاجة؟

– هذه نسخة من روايته قد نقحتها إملائيا. قد تركها عندي مطلع الأسبوع الماضي ولم أصادفه من حينها. اتركها عندك تسلمها له متى ما أتى.

– ألا تشاركنا اللعب يا كيركجارد؟ طلبه سقراط. وقل لي، ما سبب لهاثك هذا؟

– أعاني من الأزما التنفسية أم أنك لا تدري؟ على كلٍ، لا أستطيع البقاء واللعب معكم، سبق وأن أخبرتك أنت بالذات يا سقراط أنه لا مجال من اكتساب خبرة قطعية داخل هذه المربوعة. يظلّ الوجود هنا قطعة بازل حائرة، ومحيّرة. أما الريّ، الريّ هو كل ما أستطيع أن أتصوره مكملا لتلك القطعة الناقصة! أما أين هو فلم أعد قادرا على تحديده تماما. قد أقفز من فوق المربوعة الليلة القادمة محاولا الدخول لحيّزه الخفيّ، فهل تقفز معي؟

رفض سقراط طلبه هذه المرة بثقة تامة، واكتفي بأن يبحث عن الريّ مع البقية عن طريق لعب الورق ليلة بعد ليلة، وإثر هذا الإعلان المخيب لأمله خرج كيركجارد بعد أن نبه على ضرورة تسليم الأمانة لسارتر.

ولم يغب طويلا، حتى دخل المربوعة ثلاث رجال أخرون يرتدون البدل العربية وحدها. نهض أرسطو يرحب بهم، ويضعهم في الصورة مما يجري من ترتيبات ووقائع وأراء. هيدغر، وسارتر، وكامو، كانت أسمائهم.

قال هيدغر، معلقا على ما وصلوا إليه من نتائج

– ولكن ما هو الوجود؟ تظلون تقولون إن هناك سرا في الوجود داخل المربوعة ما يُعطي الريّ مظهرا مقدسا، ولكن ما هو الوجود؟

قال سارتر، يرّد على صديقه، وكان رأسه لا يزال يحتفظ بشعره، رغم بعض الشيبات المتفرقات هنا وهناك

– لا يمكنك تفسير الماء إلا بالماء، فالوجود وجود والعدم عدم. إن قفز الريّ من الوجود للعدم خياره الخاص. علينا احترامه، الفكرة هي في الانطلاق نحو منهج يكفل لنا حريتنا نحن أيضا كلاعبين داخل الشوط.

ولكن المدعو كامو تكلم بصوت خفيف يتماشى والعينين النعستين التي يحركهما في كسل يمينا ويسارا نحو أصدقائه

– كلّ هذا عبث. اللعبة بأكملها عبث. أقول، إن كل ما نفعله بلا معنى؛ فإننا نظل نرفع الحجر حتى قمة الهضبة ثم بوم! يتدحرج الحجر ويعود لحجورنا في شكل أبديّ. إن اختفاء الريّ المتواصل حقيقة تشي بعبث هذه اللعبة.

سكت قليلا ثم أضاف

– ليس ثمة مُشكلة هنا جادة وحقيقية غير الانتحار. اللحظة التي نتخلى فيها عن اللعبة، ونقوم.

وإذ ذاك لم يستطع حميد على تحمل المزيد من هذه المفارقات. فرأسه يدقّ كساعة حائط، وجفنيه كادا أن ينغلقا على عينيه. ربما أثرّت فيه عيني كامو الذابلتين ولكنه لم يعد يحتمل مقاومة الليل أكثر من هذا. فنهض ينصرف لحال سبيله.

ورأى أن الجميع وقف له ليودعوه. فقام فيثا المجنون يعانقه بحرارة، وأرسطو وسقراط يبادلونه مصافحة الوداع. أفلاطون أيضا أخبره أن يحضى بليلة سعيدة. أما سارتر فاعتذر عن تصرف كامو المشين، إذ اعتقد أن لنظرته الغامقة سببا وجيها ليُنفر حميد عن مواصلة الجلسة، وألحّ عليه هيدغر أن يبقى لينتظر باقي الرفقاء من مناطقة ولغويين ورياضيين وكتّاب، وأكد عليه أنه سيستمتع أيما متعة بمشاهدة فرويد بالذات وهو يسلخ حضراتهم فوق سيخ تحليلاته الهاجسية. ولكن حميد لم يجد في نفسه قدرة على المواصلة تلك الليلة، وأراد أن يقول لهم أنه يودّ لو يعود مرة أخرى للعب شوط أخر، غير أنه لم يكن متأكدا تماما من صحّة تلك النيّة. فاكتفى أن تمنى لهم حظا موفقا مع الريّ، ولبس طاقيته الصوف، وعنقر فوقها قلنسوة جرده، ثم خرج.

وعلى طول الطريق راح يراجع كل ما قيل في حقّ الريّ، وفي مشروعية تعدد الطرق الموصلة إليه. فلم يجد رأيا فيما قيل من مرتادي المربوعة ما يُشفي توقه النابض لمعرفة مكان الريّ الحقيقي. ولكن، فكرّ وهو يعدو سراعا تُجاه بيته في الطرف الأخر من الشارع، كيف أُكذب هذا الشعور الداخلي كلما فكرت في الريّ. إذ استشعر حميد أن الريّ كان أقرب إليه مما اعتقد الجميع. وعندما وصل لباب بيته منهكا، مأخوذا بتكاثر الأفكار داخل جمجمته الصغيرة، التي تكاد تتفجر، أولج يده داخل جيب صدريته من أجل القُفل، فالأولاد نائمون. ولكن ما وجد حميد القفل، إن ما وجده داخل جيب الصدرية، مباشرة فوق قلبه كان أغرب شيء يحدث له تلك الليلة. لقد وجد الريّ الكوبة. وجال في صدره زحامٌ من الكلمات أراد أن يصيح بها. أراد أن يعود جاريا للمربوعة ليقول للرفقاء أنه تحصّل أخيرا على الريّ، ولم يستطع. فقدماه تسمرتا وامتلأت جفنيه يقظة، ودموعا غزيرة لم يقدر على حبسها.

تلك الليلة لم ينم حميد حتى الفجر. لأول مرة منذ سنين سهر حميد في فراشه مثل المراهقين، وشعر بشبابه بل وبطفولته مجددا بعد قتر وكدر عمرٍ طويل.

خلال كل الأيام التي تلت تلك الواقعة الغريبة، لم يدر حميد كيف يتصرف بالريّ، فالمربوعة اختفت بعد تلك الزيارة، وامتنع هو أن يتكلم عنها أبدا حتى لا يُتهم بالدروشة. لكنه احتفظ بالريّ في جيب صدريته، مباشرة فوق القلب كوبة من أجل كوبة، كان دائما يقول.

مقالات ذات علاقة

دار الغولة

رشاد علوه

خديجة وزينب

عزة المقهور

الثور

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق