المقالة

فضل المبروك.. طائر الشعر الأنيق..

الشاعر الغنائي الراحل فضل المبروك (الصورة: عن الشبكة)

قبل سنوات اضطرتني ظروف قاهرة للإقامة خارج الوطن مدة طويلة نسبيا..

كانت أياما كئيبة تحالفت فيها كل عوامل القلق والتوتر والخوف.. وكانت أيضا أياما مليئة بالغضب واليأس لولا الرفقة الطيبة التي انعقدت بأقدار مطوية بين سطور الغيب..

 أغلب الاماسي كنت انفرد بنفسي في تلك البلاد الهادئة أنبش في الشبكة العنكبوتية عن أي خبر يتعلق ببلادي وأهلها.. ذات مساء عثرت بالصدفة في محرك يوتيوب على تسجيل لرحلة نغم بجودة عالية..

رحلة نغم الملحمة الغنائية الأجمل التي طالما سمعناها صغارا على أثير الراديو المحلي “إذاعة الجماهيرية” ثمانينيات القرن الماضي في فواصل متفرقة يتخللها صوت مفخخ بشجن معتق لذيذ وعتاب حار لا مهرب من تقبله: – يا عارف مداين الغير ومش عارف مداين بلادك.. إلخ

ينطلق القطار من محطة إلى محطة.. في كل وقفة يغازل مدينة من مدن الوطن المحبوب يستنطق جمالها وفتنتها ويخلد بالكلمة والنغم صورة لمعلم من معالمها عبر أصوات فخمة خالدة كصوت محمد حسن والسليني وعبير وأشرف محفوظ وتونس مفتاح ووو.. ألحانها سحر الحنين ورائحة الأرض أما الكلمة المرهفة فكانت تضاهيها روعة وأصالة.. منذ ذلك الأوان المبكر خلد في الذاكرة اسم الشاعر الكبير فضل المبروك كعتبة من عتبات الحكاية التي ينسجها الواحد منا عن وطنه المتخيل ويحتفظ بها في حقيبة سفره ليروها مرارا وتكرارا على مسامع غرباء عابرين في مواعيد عابرة..

لم اعرف فضل المبروك شخصيا لكنه ظل رغم المسافة بين البيضاء وطرابلس قريب من العقل والروح كصديق او شقيق..  عندما كنت أبدل أولى خطواتي في مهنة المتاعب بينما مازال هو على قيد الحياة كان يخالجني شعور بل يقين أننا اذا التقينا صدفة في أي مكان فإننا سنشتبك فورا في حديث طويل لا ينتهي عن الشعر والادب والفن والموسيقى والقاهرة وكازا وبيروت ومدن وبلدان لم نزرها وبالخصوص سنتحدث عن هذه البلاد التي أحرق عشقها كبده.. كنت سأسأله في أي واد كان يهيم عندما التقط تلك الجمرات الملتهبة وأعاد إشعالها في مقطوعة باذخة ستشنف آذان أجيال متعاقبة من أبناء هذه البلاد الجميلة برغم بشاعات بعض أولادها..

 فوق العوالـي فوق

عليت شانك

يا وطن يا معشوق

عليت شانك

وصفك بديع ما توصفه لأشعار

عزك ربيع منقوش بنوار..

كنت سأسأله أيضا عن سر التناغم الشفيف بينه وبين العملاق الآخر محمد حسن.. كيف تولد الكلمة ويولد النغم بينهما في آن كأنهما صادران عن سراج واحد.. لا تجرحيني.. وكدا حط الشاهي ع النار.. ومطلوق سراحك يا طوير..

لقد كان فضل المبروك طائر الشعر الأنيق.. عبقرية شعرية سادرة في عذوبتها الخاصة.. وبعيدا عن اجترار المصطلحات المستهلكة في سياقات مماثلة شكل ظهوره صحبة سليمان الترهوني والمذبل وعبد الله منصور واخرون مرجعية فارقة في تاريخ الشعر الغنائي في ليبيا وفي المنطقة عموما..

مقالات ذات علاقة

بين المدنية والتدين 1/3

علي الخليفي

رسالة النظرية الاتزانية: تكامُل المنافع .. وتعاطُل المضار

علي بوخريص

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (3)

عبدالعزيز الصويعي

اترك تعليق