النقد

النـثر يقــود الثـورة .. الشـعر يطلق أصواتـهن – ج1

قراءة تحاول رصد أثر النص الحديث (قصيدة النثر بشكل خاص) في التجربة الشعرية النسائية في ليبيا، من خلال قراءة عامة لهذا النتاج دون تخصيص مجموعة معينة، إنما الحركة من خلال النص وقراءته.

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.

1/ مقدمة (في العموميات)

الشعر الجنس الأدبي المجلي.. ولقد وضعته العرب لسانها وكلامها، فتحول الشاعر إلى لسان القبيلة وصوتها الداعي، ونفيرها في القتال، وأجمل ما تتزين به المرأة لتمامها الشعر، فهو من أمور الفطنة التي يريدها العربي فيها، بغية الكمال.

والشاعرات العربيات كن يصدحن بشعرهن، وينازلن به الشعراء ويُحتكمُ إليهن، والشعر كحاجة للتسرية والبوح والانطلاق والصراخ، بمعنى أن يكون الصوت المطلق، يتحول إلى ممارسة في الغناء والشكوى، وتحميس الرجال للقتال، والسيرة الشعبية تشير للدور الذي كانت تقوم به أشعار وكلمات “الجازية” في تحميس الرجال والدفع بهم، كما فعلته “هند بنت عتبة” في قولتها الشهيرة: (نحن بنات طارق) إلى آخر النص، أو أن تغني المرأة وليدها فرحا (يا حبذا هذا الولد) إلى آخر النص، وفي أدبنا الشعبي يؤكد الباحثون أن لشعر المرأة خصوصية تعكس دائرة اهتمامها وأمانيها وشكواها.. ويعود الأمر ليتحول إلى مطالبة بالحق، عندما يقصى هذا الصوت، ويحكم على المرأة أن تظل حبيسة جدرانها، مسلوبة الحق في كلماتها، خاصة في المجتمعات شبه المدنية، فالمرأة في المجتمعات البدوية كانت تتمتع بقدر من الحرية قياساً للمرأة في المجتمعات شبه المدنية1.. وبتقدم الحياة المدنية خطوة باتجاه الشكل المثالي للمجتمع المدني، كان من المنصف المطالبة بحقوق المرأة، ومعالجة الظرف الذي تحياه، ناحية إعطاءها المزيد من الحقوق/الواجبات، لتكون قادرة على بناء الجيل القادم.

مثَّلّ صوت السيدة الفاضلة “خديجة الجهمي” عبر أثير الإذاعة الليبية، مواجهة حقيقية، مواجهة حقيقية لمجتمع لا يعترف بالمرأة عضواً فيه، مجتمع يتعامل معها بطريقة مجحفة، تنزل بها منازل دنيا، ومن الجميل تـفطن الكاتب “صادق النيهوم” _رحمه الله_ مبكراً في كتاباته لهذه المفارقة في حكايته عن (الحاج الزروق)، عندما يقارن بين المرأة والبقرة، ومعيار القيمة المستفادة الذي يحكم منطق (الحاج الزروق).. وهذا يعني أن الطبقة المثقفة كانت تهتم بهذا العضو المعطل وتنادي بدوره المهم في الحياة، على جميع المستويات، حتى قدر لها أن تدخل معترك الحياة وتمارسها رغم الكثير والكثير من الصعاب والمشاكل التي حاولت التشكيك فيها كامرأة، وفي المجال الإبداعي تحمَّل الجيل الأول من الرائدات آثـار الصدمة الأولى، لكن إصرارهن وعزمهن على المضي في الدرب الذي اخترنه، كان الداعم الحقيقي لتواصل هذه المسيرة، وهذا يعكس صورة استقبال المجتمع الثقافي لهؤلاء المبدعات واحتفائه بهن، ونتاج هذه المرحلة هو الصورة الحقيقية للواقع الذي كن يعشنه، ويتواصلن معه، لقد قدمت كتابات تلك الفترة صورة المشاكل التي كانت تتعرض لها المرأة بقلم المرأة بعد أن كان الرجل المبدع لسان حالها، وفي أحيان متقمص لشخصيتها واسمها.

ولنعترف أن الشعر لم يكن بصاحب الحظوة عند مبدعاتنا كما القصة.. وبالتدقيق نرى أن هذا يخالف القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الليبي، حيث المرأة لا تكف عن قول الشعر وترديده، فهي تهدهد به وليدها وتسليه، وترفع به تعبها منكبة على الرحى، وتسلي بها نفسها في فـقدها لغال، وحتى تدعو بها، وتناجي به من تحب وحيدة.. الأمر مع الفصحى اختلف، وهذا يعكس بوضوح ما تعانيه المرأة من إهمال، انعكس في قدرتها على التعاطي مع فن الشعر الفـصيـح، كون الأمر يستلزم قدراً من الثقافة والمعرفة، تمكن من التعرف على أبجديات الكتابة الشعرية، من قواعد اللغة والأوزان، التجربة الكفيلة في استمرارها تحقيق النص الشعري القادر على الاعتماد على نفسه، والرفرفة ومن بعد الانطلاق، لذا كانت القصة أقرب فنون الإبداع للمرأة، كون القصة القصيرة (أو القصة القصيرة الطويلة)، لا تحتاج إلى ما يحتاجه الشعر من إلمام بعلم العروض والقافية، فالمطالعة والثقافة الشخصية تمكن المرأة صاحبة الموهبة من تحويل ما يعتمل داخلها إلى حدث تتفاعل فيه أحداث، يكون في النهاية قصتها.

وربما كان هذا الاتجاه هو نتيجة الثقافة الشعبية، القائلة بقدرة المرأة على السحر بالكلمات، وتزويقها، وتخييل الفضاء بها، وهو الموروث في حكايات الأمهات والجدات، إذ كانت المرأة تقوم بوظيفة الحكّائَة، المنتجة للحكاية، الموكل لها سرد هذه الحكايات إلى الصغار، الذين ستكون منهن أمهاتٍ ومن بعد جدات، يحملن خيط السرد والإضافة له، وتسليمه لمن يأتي من بعد.. ولعل سحر الكلام، وغواية القص كانت الخلاص لأكبر الحكّاءات، “شهرزاد” التي حولت الحكاية الصغيرة، إلى سردٍ لا ينقطع، قادرٍ على عبور الزمن، وشغله.

إن الواقع يؤكد غلبة القصة على الشعر في تجربة الإبداع النسائي في ليبيا، فالمجموعة القصصية (من القصص القومي) هو أول كتاب يصدر لكاتبة ليبية2، كان سنة 1958 للسيدة الفاضلة “زعيمة الباروني”3، والكتاب مجموعة من الحكايات التي غلب عليها الجانب التوجيهي (التربوي)، في خطاب مباشر، بعيداً عن فنون القصة وتجاوزات اللغة والسرد، حتى صدور (أماني معلبة)/ 1977 للكاتبة “لطفية القبائلي” كأول مجموعة قصصية، تقدم تجربة قصصية نسائية، لتأتي من بعدها (شيء من الدفء)/ 1972، رواية الكاتبة “مرضية النعاس”4، كأوَّل رواية لكاتبة ليـبـية.

أما الشعر فكان عليه الانتظار 26 عاماً، ليصدر في إعلانٍ صريح (في القصيدة التالية أحبك بصعوبة)/ 1984، ليكون السبق للكاتبة “فوزية شلابي” كصاحبة أول مجموعة شعرية تصدر لشاعرة ليبية5.

وفي ذات المقام لابد أن نذكر الفسحة التي أتاحتها الصحافة الليبية للأقلام النسائية، بحيث مكنتها إضافة للنشر من ممارسة العمل الصحفي، الذي ساعد جيل الكاتبات الرائدات على تخطي الكثير من الصعاب، ومواجهة المجتمع بقوة، والفضل يعود للسيدة الفاضلة “خديجة الجهمي”، المؤسسة لمجلة (المرأة) عام 1965، التي احتضنت الكثيرات، وكانت هذه المجلة دافعاً قوياً لهن، ولقد كان لحضور “بنت الوطن”6 الإسهام الكبير في النظر للمرأة بطريقة مختلفة، خاصة وهي تقدم برنامجها الناجح (أضواء على المجتمع)7 الذي ينطلق من المجتمع ويعود إليه حاملاً الحلول لما يشتكي. كما نشير إلى أن السيدة “خديجة” كانت تكتب الشعر الشعبي، ولها العديد من القصائد، والنصوص الغنائية التي من أشهرها (الجوبة بعيدة)، التي لحنها وغنّاها الفنان “محمد مرشان”.

2.1/ الخـطوة الأولى (بداية).

الرجوع إلى الصحف والمجلات الصادرة فترة الستينيات والسبعينيات _إذ لم يسجل صدور أي مجموعة شعرية لأيٍ من الشاعرات الليبيات_، يكشف لنا حجم الإسهام الشعري للشاعرات الليبيات في المشهد الإبداعي _هنا نخص الشعر_، كما يقدم لنا صورة عن شكل التجربة في مرحلتها، ونعني المرحلة الأولى لهذه التجربة _إذ لا يسجل حضوراً لأي من الشاعرات الليبيات قبل هذه الفترة_، والتي قدمت لنا مجموعة من الشاعرات.

ولو عدنا للمصادر لاكتشفنا هذه القلّة، فمثلاً كتاب (الشعر الليبي في القرن العشرين)8 وهو يقدم لـ100 شاعر ليبي، لا يقدم في متنه إلا 5 شاعرات، أسبقهن في التجربة الشاعرة “ليلى صفي الدين””، حتى في النقد كانت التجربة النسائية بعيدة عن التناول، وعلى سبيل المثال نشير لكتاب (قصائد وتجارب للشعراء الليبيين الشباب) للأستاذ “الطاهر بن عريفة” والذي قدم قراءة لتجربة 11 شاعراً منهم شاعرة واحدة هي “فوزية شلابي”.. ويشكر الأستاذ “عبدالله مليطان” على جهده الذي قدمه في كتابه (معجم الكاتبات والأديبات الليبيات)9، الذي قدم فيه ثبتاً لـ84 كاتبة ومبدعة ليبية، من بينهن 50 مبدعة تمارس كتابة النص الشعري10، ويمكننا القول أن الشاعرة “ليلى صفي الدين” هي من أولى الشاعرات ترتيباً _بحسب العمر_ لكن المتن المنشور في الصحافة يؤكد حضور أكثر من اسم شعري، كـ: ثريا الفقي، رجاء بن ناجي، حليمة بسيكري، صبرية عويتي، سامية المسماري، عواشة حقيق، وغيرهن، وهن وإن كنَّ قليلاتٍ إلا أنهن برزن كتجارب شعرية خاصة _شخصية_، وكمتن يضاف لمتن التجربة الشعرية الليبية، بما قدمن من نصوص شعرية كانت:

1- مرآة صادقة للتجربة الشخصية، بحيث عكست هذه النصوص داخل الشاعرة، ودائرة واهتماماتها، واتجاهاتها، بمعنى رؤيتـها الخاصة للواقع الذي تعيشه، وانعكاسه من خلال تجربتها.

2- صراحة الصوت العاطفي في النص، والبحث عن الآخر _الرجل_ البعيد دائماً، المنشود في صورة مثالية، قد لا تتحقق معطياتها في الواقع.. وهو بالتالي يقدم صورة واضحة عن الفجوة بين المرأة والرجل كطرفين مكونين للمجتمع، إذ في ذات الاتجاه كان الرجل _المبدع_ يخاطب ويبحث عن مثالٍ لا يجده.

وبنظرة أكثر شمولية، نقف على الواقع الذي كرسته الثقافة المحلية، في الخوف من التقدم ومواجهة حقيقة الآخر بأكثر جدية، فظل الفعل مرصوداً في الكلمات _في النص_ بعيداً عن التجسد.

3- صورة عن التجربة الشعرية في تلك الفترة، في انحياز النص الشعري للشكل التقليدي أو العمودي، وتقديم بعض الشاعرات لتجاربهن في كتابة الشعر الحر (التفعيلة).

نص: أغنيةُ حبٍ للعامِ الجَديد/ الشاعرة: صبريّة عويتي11:

لا أقـصد بثورتي هـجرانـا
لا والذي مـلا الفؤاد حنانا

أني فـطرت على هواك ومهجتي
لولا التسلط ما جفت أنسانا

أني أقاسمـك الحـياة مشـيئتي
ما ضـر لو نهل الحياة كلانا

خذني إلى معبد للـعدل نطرقـه
لينـجب الحب إثر الحب قلبانا

سألتك القرب أن تـأتيه مقتنعا
أن تفتح القلب أن تعنيك شكوانا

ومن بعد سارعت الشاعرات لخوض التجربة الشعرية الحديثة، وكن سبّاقات، فلقد وفرت هذه التجربة لهن قدراً من الحرية القادرة على فتح الأبواب للانطلاق، وهي حرية معنوية أكثر منها فنية، بمعنى إن الشاعرات لم يلجن هذه التجربة من باب السهولة والاستسهال في التعامل مع النص _كون لا ضوابط_، إنما الحرية في المغامرة وتجاوز الحدود، فالنص الحديث محاولة لإثبات الذات، وإثبات واقع التجربة الإبداعية للشاعر/الشاعرة، وهي مغامرة ترى الشاعرة إنها تضعها في تساوٍ تام مع الشاعر _الرجل_، فهي _أي الحداثة_ حدثٌ يؤثر فيها بذات القدر، وذات الفاعلية: مجايلة، وتجربة، وتحدياً.

4- وصورة تحمل خصوصية الكتابة النسائية، بمعنى التجربة لا بمعنى التصنيف. فالأدب النسائي له خصوصيته التي تعكس حال المبدعة، وبالتالي يكون النص الإبداعي صورة الداخل، أو صورة منغلقة بما تحيل إليه من مرجعيات، تجد جذورها في الثقافة الاجتماعية والموروث الذي تعيشه المبدعة.

لقد أنتج واقع العزلة الذي تعيشه المرأة (الارتداد الداخلي)، إي الاتجاه إلى ذاتها، فإلى أين والرصيد تركة معبأة بعاداتٍ وأفكار تثقل الكاهل، وتمنح العقل محدودية التفكير في البحث عن طرق لصنع طبقٍ كفيل بسد حاجة وعاء لا يفتأ يفتح فمه. فالمرأة الكاتبة مرتدة جيدة لداخلها، عاشت من خلال تلك الحدود الضيقة، تـتـنـفـس إرثـاً صنعته إرادة ذكورية12.

من جهة أخرى، حجّـمت هذه المعاناة حدود التـعبـير، وحجمت انطلاقة الشاعرة (الموضوع يهتم بالشعر)، بالتالي تحددت مساحة حركة الشاعرة، وذائقة مطالعاتها، الأمر الذي انعكس على النص، فلا نعثر في نصوص هذه الفترة على نصوص جريئة، صاخبة صارخة، إنما الصوت الهادئ المعبر عن حاجته للآخر (الرجل)، كما لا نستطيع القبض على نصوص مهمة، أو لنقل عالية الفنية، ينطلق فيها الصوت بحرية تامة، دون حاجة للوزن الذي قبل أن يفترضه الشعر العربي، تفترضه ذائقة المتلقي (الرجل) كمقياسٍ للجودة.

نص: رفيقة/ الشاعرة: حليمة السعيطي13:

دعيني أجوس خلال الدروب
وأنشر في الكون ضوع الطيوبِ

دعيني أغوص ببحر الضـياع
وأُغرقُ في شاطئـيه كُـروبي

دعيني رفيـقة دربي الطـويل
أسـير لأبلـغ قبل المغـيب

رفيـق يا شمـعة في طـريقي
ويا كاهـناً حـاملاً لذونـبي

أنـاملك بين ظـفر ونـاب
جنـاحاه تحنو لمـوت رهيب

فإن تـتركيني أعيش لشـعري
لأنجـو وينجـو معي عندليبي

وإلا هـلكت وضاعت كنوزي
وحـطم قيـثار عمر الحبـيب

وعند هذه النقطة، نتوقف لندخل متـن بحثنا عن أثر هذه التجربة الحديثة، في التجربة الشعرية النسائية، في قراءة عامة لتجربة مجموعة من الشاعرات، ورصد هذا الأثر.

2.2/ الخطوة الثانية (الحركة باتجاه النص الحديث).

الحداثةُ (كفعل) أكبرُ من رصدها في الإبداع، إن الواقع يفترض أن تتوافر الظروف لتكون الحداثة (كـفعل) قادرة على التغيـير، فإن كان الغرب في نهضته سار في توازٍ ضمن له اتزان سيره كمجتمع في صورته العامة _ككل_، فإن الوطن العربي لم يكن ليحظى بهذا الاتزان، وكذا بلادنا التي لم تحظ بالقدر الكافي من النهضة التحقق شرط أن تكون الحداثة عنصراً مكملاً لتجربتها الحياتية في إبداعها، فكانت المسافة بين ما يتطلع إليه المبدع وما يتحقق واقـعاً، كفيلةً بفصله عن المجتمع وبالتالي ما يبدع، وربما فسر لنا هذا الجفوة التي يجدها المبدع، فذائقة المتلقي مازالت متوقفة عند لحظة (قفا نبكِ)14، بينما المبدع تجاوزها إلى (أيتها الذئبةُ خذيني من فمي)15.

في ختام أمسية الشاعرات، علق الكاتب “منصور أبوشناف” بقوله: (الأصوات الشعرية في بلانا بخير… إن ما يميز هذه القراءات الاهتمام بالتفاصيل والاشتغال عليها، وقول الذات صراحة، حتى وإن كانت جميع الشاعرات يضعن الحجاب، فهن أكدن أنهن غير محجبات عقلياً، لتكن أكثر معايشة لليومي والواقعي بحق، رغم نبرة الحزن.. وما سمعناه اليوم يقدم وثيقة حقيقية عن المرأة الليبية)، ويعقب: (إن الشاعرات الليبيات استطعت الولوج للحداثة أكثر جرأة من الشعراء)16.

هذا الكلام حقيقةً يؤكدها النتاج الشعري للشاعرات في متن التجربة الشعرية الحديثة، وهو متن قادر على تقديم الكثير للدراسة والبحث.. أما ما يمكن ملاحظته كملاحظة أولى بدايةً لهذا المبحث، هي (ظاهرة الانقطاع)، بمعنى عدم الاستمرار، ونعني به هنا الاستمرار _في التواجد من_ خلال النشر، ونرصد هذه الظاهرة في شكلين:

أول: وهو انقطاع تام، بحيث تنقطع الشاعرة عن النشر فجأة، وفي المجمل تكون الأسباب اجتماعية، فنحن نلاحظ أن مجموعة من الشاعرات اللواتي بدأن النشر في الستينات والسبعينات، انقطعن عن النشر ولم يعد لهن حضور في المشهد الشعري، كـ: ليلى صفي الدين، ثريا الفقي، حليمة بسيكري. في حوارٍ معها لصحيفة (الزمان) اللندنية، تقول الشاعرة “كريمة الشماخي”*: (خاتـم الخطوبة هو نهـاية إبداع المرأة).

ثان: انقطاع غير تام (مذبذب)، وهو الانقطاع عن التواجد من خلال النشر لفترات ومن ثم العودة، أو الظهور المفاجئ لاسم ومن بعد انقطاعه.

ونضيف إلى هذه الملاحظة، عودة بعض الشاعرات (والكاتبات) عن أسمائهن المستعارة، بحيث عدن للكتابة بأسمائهن الحقيقية، وهذا ربما قرب صورة حركة المجتمع، وانفتاحه باتجاه قبول المرأة المبدعة كأحد العناصر الفاعلة فيه.

يمكننا القول، أن نهاية السبعينيات وعشرية الثمانينيات كانت المحك الفعلي لتجربة الشعر الحديث في بلادنا، للتجربة الشعرية عامة، وتجربة الشعرالنسائي17 بشكلً خاص، وهو ما يمكننا رصده من خلال  ما نشر عبر الصحف والمجلات الصادرة، التي احتفت في عمومها بالنص الحديث (الشعر الحديث/ الجديد)، ونعترف أن النص الشعري النسائي كنص خالص لتجربته الحديثة، بدأ مع عشرية الثمانينيات، بمعنى أن النص الشعري النسائي حتى أواخر السبعينيات لم يتخلص من حسه الرومانسي، وكذا المباشرة في الخطاب، إضافة لبعض محاولات الخروج عن نسق التفعيلة، التي أوقعت بعض الشاعرات في فخ النثر المرسل، ليكون النص أقرب منه للخاطرة، التي غالباً ما ترصد حالة بوحٍ ومناجاة. وأعيد هذا لسببين:

1- استسهال النص، وهو ما يوحي به شكل النص الحديث، كونه لا يعول على أياً من قواعد كتابة الشعر التقليدي.

2- الاندفاع لكتابة نصٍ مغاير، بأمل أن تجد فيه الشاعرة بغيتها في الانطلاق عبره.

لا يمكن فصل تجربة الشاعرات عن التجربة الشعرية الليبية، كونها متن واحد تجتمع فيه الشعراء، وكذا الحقيقة بأن التجربة النسوية ظلت تعمل على الخط الثاني من تجربة الإبداع مكتفية بدور التابع دون المبادرة. بذا تـكون عشرية الثمانينيات التاريخ المهم في الحركة الشعرية النسائية، من خلال:

1- كم الأصوات التي ظهرت في هذه الفترة، ولم تنقطع تجاربها إلا في مجموعة محدودة من الأسماء18. نذكر من هذه الأسماء (كمرحلة أولى: فوزية شلابي، خديجة بسيكري، عائشة المغربي، زاهية محمد علي،…/ كمرحلة ثانية: حواء القمودي، مريم سلامة، دلال عبدالصمد، تهاني دربي،…)

2- خصوصية هذه العشرية، كفترة مهمة في تاريخ ليبيا الحديث، في كثير من مظهر التحول الاجتماعي، والتبدّل الثقافي.

3- احتضان هذه العشرية لأول مجموعة شعرية لشاعرة ليبية. أما المجموعة فهي (في القصيدة التالية أحبك بصعوبة)، للشاعرة “فوزية شلابي” الصادرة في 1984. وهي نموذج يمثل بجدارة الشعر النسائي الحديث، ويقدم تجربة تدعم متن التجربة الشعرية الليبية.

4- المساحات المفتوحة والمتاحة للنشر، التي احتفت بالأصوات الجديدة، خاصة في النصف الثاني من هذه العشرية.

5- ويمكن القول أن الأسماء الشعرية التي بدأت وهذه العشرية، بدأت بكتابة النص الحديث، بحيث شكلت ما نسبته 90% من مجل النتاج الشعري المقدم19.

لم تكن الحرية التي أوجدها النص الحديث (لا نعني الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة) حرية شكلية، قصدت إلى التخلص من بحور الشعر وتفعيلاته، رغبة في كسر ما اعتبر قيداً يغلُّ الشاعر عن الانطلاق في سماء الشعر الرّحبة. إنما كانت حرية نابعة من إيمان بما يمكن للشعر أن يكونه دون الحاجة للقوالب والطبوع الجاهزة، الشعر هنا يبحث عن جمالياته الخاصة به، جمالياته النابعة من داخله، الجماليات القادرة على أن تكون علامة مسجلة للنص، دون أدنى اشتراك ونصٍ آخر. لقد وعت الشاعرات هذه الفكرة، وآمن بها، فلم يعد الشعر الحديث (أو النص الحديث) علبة تفريغ الصدور والعيون، إنما صورة يؤكدن فيها قدرتهن، وانطلاقتهن، وبذا:

1- يتحول النص إلى عمل يجسد رغبة المرأة في تكسير ما يكبلها، ويحد من انطلاقتها، فهي عندما تكتب لا تكسر التقليد الشعري، بقدر ما يتمثل لها التقليد الاجتماعي.

2- هذا العمل في جانبه الإيماني، يتحول إلى منهج وطريقة تكرس لها المرأة ما تستطيعه حتى تفي بما عليها تجاهه. وهو العمل الذي ينعكس في الإخلاص للنص.

3- كما وإنها تجتهد وتدفع كل ما تملكه، مقابل الحرية المتحققة في هذه النص. (هذا يفسر ما أشار إليه الكاتب “منصور أبوشناف”).

4- وهذا دمج لما سبق، لقد اكتشفت الشاعرة أن هذا النص، يحققها كأنثى (مرأة) وكشاعرة (نص)، فكانت أن وهبته كل ما يريد.

2.3/ الخطوة الثالثة (الحركة في داخل النص).

ما مضى كان عملاً استقراءياً، مهمته تقديم صورة عامة ومحددة للشعر الحديث النسائي والشاعرات، حتى نكون قادرين على تحديد الأرضية التي نعمل عليها (حدودها، طبوغرافيتها، مناخها، حوادثها، تواريخها،…)، والبعد الزمني الممكن لنا الرجوع إليه/فيه. وهي العدة التي سننتقل بها للدخول إلى النص.

وأشير بداية إلى أن هذه القراءة موجهة للنص20، لا لمنتج النص (الشاعرات)، لأن النص قادر على تقديم الكثير، أكثر مما يمكن رصده في منتجه (الشاعرة)، وبالتالي نوجد مساحة أكبر للبحث، في مجموع النصوص الشعرية بما يخدم قضيتـنا محل البحث، وهي رصد تفاعلات النص الحديث (قصيدة النثر بشكل خاص) في التجربة الشعرية النسائية في ليبيا، بما منحه من أفق انطلاق وتجاوز، منطلقين من سؤالنا:

– هل حققت قصيدة النثر ما أرادته الشاعرة؟.

والذي يمكن صياغته بطريقة أخرى:

– هل وجدت الشاعرة ما تريده في قصيدة النثر؟.

وفي شكلٍ آخر:

– كيف مارست الشاعرة ذاتها في النص؟، أو: كيف قالت الشاعرة ما تريد؟.

ولا اختلاف بين هذه الأسئلة طالما تبحث في العلاقة بين الشاعرة والنص، طالما النص صورة الناص (الكاتب/الشاعر) انفصلت عنه، واستقلت بذاتها، فهي تحمل الكثير، في التواطؤ الحادث لحظة الكتابة، ومن بعد لا تعمل كما يريد بعد انفصالها واستقلالها، لتمارس لعبها مع شخص آخر هو المتلقي.

الخلاصة أننا سنحاول اقتناص مجموعة من العناوين أو الملامح (الثيمات) التي تمثل النتاج الشعري النسائي، دون إغفال خصوصية الشاعرة.

يتبع في الجزء الثاني…

مقالات ذات علاقة

الذاتُ والآخر في (عندما التقيتُ بي)

يونس شعبان الفنادي

القيم في ديوان الهوني

المشرف العام

الحكاية من ثقب الصمت

المشرف العام

اترك تعليق