المقالة

الحوار .. وامتلاك الحقيقة

 حسن المغربي

أول شروط الحوار في أي صراع سواء أكان فلسفيا أم سياسيا أم دينيا..إلخ  هو التخلي عن تصور  امتلاك الحقيقة ، والاستئثار بالحديث عن المبادئ العامة المتمثلة في القيم الأخلاقية والدينية على السواء ، وإزاء هذا الشرط العقلاني المنفتح على كل الآراء والاتجاهات السياسية  يظهر بوضوح عمق  الاختلاف الحاصل بين الكتل السياسية والمذاهب الدينية  في جميع حقول المعرفة الإنسانية ، وبمجرد تقديم بعض التنازلات ، أو لنقل بصيغة أخرى مستعيرين تعبير محمد أركون ” بعض  الترضيات ”  لأحد الطرفين أو الطرفيين معا ، يتم التواصل والاتفاق على بطلان أو مشروعية القرار ، سواء أكان في مجالات الحرب أم السلام .. هذه من الناحية التنفيذية  المتعلقة بالحروب والصراعات الداخية ، أما الناحية التشريعية – وهنا لا اقصد السلطة التشريعة للدولة المدنية المؤسسة على مبدأ الفصل بين السلط – فإن حده التناحر والخلط بينالسياسي والفكري ( الديني بصفة خاصة ) الذي يحول الأحكام السياسية إلى ما يشبه الأحكام الدينية ، يعرقل مسيرة الحوار والتصالح بين الطرفيين المتضاديين ، لكون كل واحد منهما  يظن  أنه يمتلك الحقيقة ، وذلك من خلال فهم أو تأويل خاص قد يستند على شروط خارج نطاق النصأو سياقات المنطق ، هذا التفكير  حاضر ومتاح  في الثقافة العربية  بصورة تدعو إلى الدهشة منذ مقتل ( الخليفة عثمان )  وهو – أي التفكير –  لا يقضي على الأزمة حتى لو ضعنا في الاعتبار امكانية غلبة أحد الأطراف ، عسكريا أو شعبيا أو حتى دوليا ، لان الشخص المضطهد – كما يقولون – يفكر دائما في الانتقام .. فما بالك  من اضطهاد طائفة أو أقلية قائمة بمساراتها المتعددة على تاريخ وعادات ثقافية واحدة  وخير مثال لذلك نموذجي ” الشيعة والخوارج ” ..ومن هذا المضمار الذي يشترط في  بنيته الاساسية على نزع  كل ما هو غير مستساغ من  الأفكار والآراء المطروحة ،  سنقف عند أول مسألة طرحت منذ محاكمة ( سقراط ) الشهيرة ، وهي مسألة الفضيلة.

ما من شك إن هناك فلاسفة أقوياء قبل ” سقراط” منهم ( طاليس ، وهرقليطس ، فيثاغورس ، امباذقليس ) لكنهم كانوا بالدرجة الأولى فلاسفة طبيعيين ، يبحثون عن طبيعية الأشياء الخارجية ، وهي فلسفة  حسنا كما يقول ” سقراط ” ، لكن هناك فلسفة اجدر بالفلاسفة ان يدرسوها اكثرمن جميع هذه الأشجار والكواكب ، وهي عقل الإنسان ، أي التي تتعلق بفكر الإنسان ، لذا اتخذ سقراط في  مساره المعرفي أدوات تحيل كلها إلى الافتراض والاستطلاع عن طريق الحوار الاستنباطي القائم على التهكم والتوليد وذلك من أجل الوصول إلى تحديد الماهيات .. هذه هي فلسفة  سقراط التي تلجأ إلى  ما يعرف بالمنهج الاستنباطي  أو الفلسفة التصورية ( conceptualisme) ، ومعناها أنه لا يكفي لمعرفة شيء ما الاقتصار على وجوده المحسوس ، بل لا بد من معرفة ماهيته والوصول إلى حده الكلي ، بتعبير آخر ، حينما يتحدث الناس مثلا عن العدالة المتعارفة ، كان  ” سقراط ” يسألهم بهدوء ، ما هي هذه العدالة ؟ وماذا تعنون بهذه الكلمات المجردة التي تحلّون بها بمثل هذه السهولة مشاكل الحياة والموت ؟ ماذا تعنون بكلمة فضيلة ، والأخلاق ، والشرف ، الخير ، التقوى ، الصدق ..إلخ وقد تناول بالبحث والسؤال عن كل الكلمات المعنوية والنفسانية التي لا تعنى استمرارية الموافقة و القيام بالواجب فحسب ، بل تعني فرض حقيقة معينة ثابتة لا يمكن الاعتراض عنها .. وقد وصل من خلال هذه  آلية  إلى نبذ قانون تعدد الآلهة وهو الدين الضعيف الذي آمنت به آثينا ، وعندما فاز الحزب الديمقراطي المناهض لمشروعه الفكري ،  تقرر مصير ” سقراط ” منذ تلك اللحظة ،  بوصفه الزعيم العقلي للحزب الثائر ، حيث تقدم إلى القضاء ثلاثة من خصومه يتهمونه بإنكار آلهة المدينة والاستهزاء بهم وإفساد عقول الشباب ، فضلا عن انتقاده الدائم للديمقراطية والاستناد إلى مبدأ القرعة لا للكفاءة والأهلية في الانتخاب .. وكان من بين هولاء الثلاثة شخص من اثرياء مدينة أثينا  يدعى ( انيتوس ) كان شديد الحقد على سقراط لاعتقاده أنه افسد عليه ابنه .. وبقية القصة يعرفها الجميع لأن أفلاطون سجلها في نثر أشد روعة من الشعر على حد قول ” ول ديورانت ” .

 قد يرتاب البعض ويقول ليس هناك ثمة علاقة بين قصة ” سقراط ” وصراع الايدلوجيات ، خاصة وأن سقراط نفسه اعلن  في محاورات كثيرة له  إن كلمة ” الخير ” على سبيل المثال تعني ” عاقل ” والفضيلة هي الحكمة ، أليس هذا التحديد يخالف من الناحية الإبستمولوجية ما يثار بين المذاهب  والأحزاب السياسية التي تطرح – في العادة – حلولا عملية لشؤون الناس ، لا حلولا أخلاقية متمثلة في خرافات ميتافيزيقيا بالمعنى الفلسفي لميتافيزيقيا الدكتور زكي نجيب محمود ؟ بالطبع الجواب على هذا السؤال من شأنه أن يدخلنا في موضوعات لسنا بصدد مناقشتها هنا ، لكن استدعاء مأساة ” سقراط ” في هذا السياق ،تكشف على الاقل مدى إمكانية التقارب بين وجهات النظر التي تستند هي أيضا في الأساس على كلمات قريبة جدا من كلمات الخير والفضيلة ، لان كل حزب أو تيار سياسي يفترض شروط تحقق بطبيعة الحال السعادة للناس ،  والسعادة  لاتكتمل على مستوى الفرد أو الجماعة كما هو معروف  إلا من خلال نشر قيم الخير والفضيلة وغيرهما من الأخلاق التي تحد من أعمال الظلم والفساد ، وبالرجوع إلى تاريخ الأحزاب السياسة منذ العصر الجمهوري- الروماني إلى العصر الأوروبي الحديث ، يلاحظ  هذا جيدا.. حتى الأحزابالتي قامت على الرؤية القومية كالنازية مثلا ، هي أيضا  لها مرجعية فلسفية تتمثل في أفكار نيتشة وتفسيره الجينالوجي لكلمتي ( الخير ، والشر ) ، فنيتشه بالرغم ما اشتهر به – على المستوى الشخصي – من أخلاق خيرة تحنو حتى على الحيوان ( انظر قصة الحصان ) إلا أنه في آخر حياته أغلق على نفسه باب غرفة باردة في طابق علوي واحكم ستائرها ، وقام بتأليف كتابين أولهما ” ما فوق الخير والشر ” وثانيهما ” تاريخ تسلسل الأخلاق ” ، وكان يرجو من وراء هذين الكتابين تدمير الأخلاق القديمة ، وتمهيد الطريق لأخلاق الإنسان الأعلى ( السوبرمان ) ، باعتبار أن الأخلاق هي إرادة القوة ، لا العجز والخضوع ، وقد اعتبر  أن الأخلاق  عند الروماني العادي تعني الرجولة والشجاعة والجرأة وهي ( أخلاق السادة ) ، أما الأخلاق الثانية  ، الضعف والسلام والأمن فهي ( أخلاق العبيد ) ، وقد جاءت من اليهود أيام خضوعهم السياسي  ..

هذا المثال البسيط يفرض علينا مناقشة نموذج ( السوفسطائيون )، فمن منطلق عبارة ( بروتاجوراس ) الشهيرة  أن ” الإنسان مقياس كل الأشياء ” أعلن السوفسطائيون بنسبية القيم ، وإستنادا إلى هذه النظرية فلا يوجد شيء يمكن أن يقال عنه خير أو شر بصفة مطلقة وبدون تحفظ ، ذلك لأن رؤية أي شيء تتأثر بالظروف المحيطة بالفرد ، فالشيء الذي يعتبر خيرا بالنسبة لجماعة ما ، قد يكون شرا بالنسبة لجماعة أخرى ، وحينما يقول أحدا ما بأن الخير شيء نسبي ، فقد يعني أنه لا يوجد خير أو شر ، ولكن العقل يجعله كذلك ، من هذه الرؤية التى  تؤكد على المنفعة الذاتية للفرد ، وتضع في اعتبار سيادة التعدد والحركة عن طريق تفسير أي شيء ، يكون مفهوم القيم ( العدالة ، والجمال ، والحقيقة ) خاضعا لحسابات الزمن والبيئة الضاغطة على تفكير الفرد والجماعة على السواء ..

لذلك ، فإن كل  رؤية ايدلوجية لها هدف  سياسي تحاول أن تنشره أكثر من غيرها ، هي رؤية تستند على مرجعية خاصة تمثل مشروعها الفلسفي فقط ، ولا تمثل الحقيقة  وأن كانت الحقيقة كما يقولون عنها تغير أثوابها دائما ( مثل كل سيدة ) ، لكن على الرغم من شطحات السفسطائيين وغيرهم من اتباع نيتشة ، فإن جميع الأراء الأخلاقية تدور حول مصلحة الجميع .. لقد قال  عنها ” أفلاطون ” هي الأنسجام الفعال للكل ، وقال عنها المسيح  ” هي ابداء اللطف نحو الفقراء ” ، وقال عنها رسولنا الكريم  حينما سئل  بعدما هاجر إلى المدينة ( إنما بُعثتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاقِ) .

مقالات ذات علاقة

الرسالة التي انتظرتها لإثنين وعشرين عام

المشرف العام

ســتــــــوب

المشرف العام

شريك الحياة

المشرف العام

اترك تعليق