المقالة

التصغير هواية ليبية

من أعمال التشكيلي سالم التميمي
من أعمال التشكيلي سالم التميمي

بينما تكاد الصيغ التصغيرية تتلاشى من فصيح العربية، لا يحجم الليبي في لهجته الدارجة عن تصغير أي مفردة إلا إذا شق عليه تصغيرها، وهو لا يشق عليه غالبا إلا لأسباب صوتية صرف. الحال أنه ليست هناك لهجة عربية تسرف في التصغير كالليبية، وهذه ملاحظة كان نبّه إليها د. علي فهمي خشيم في معرض حديثه عن أصول مفردات لهجتنا. ولأن الأقربين أولى بالمعروف، لا تجد قريبا لم يطله تصغير الليبيين، بدأ من الجدّ والجدّة، ومرورا بالأخ والأخت والابن والابنة، وانتهاء بالعمّ والعمّة والخالة والخالة. ويبدو أن الحفيد، الذي يبدو أنه قد استثني من قائمة تصغير الأقارب، لم يستثن منها إلا لأن قاموس لهجتنا المحلية لا يفرد لفظة خاصة للحفدة أو الأسباط. ولأنه لا يتوقع من الليبي أن يدلل زوجته، ناهيك عن أن تدلل الليبية زوجها، لن تجد في لهجتنا تصغيرا لأي منهما. حتى “احليلتي” (تصغير “حليلتي”) لم تعد تستخدم في الإشارة إلى الزوجة، وعلى الرغم من أن العشاق الليبيين استحدثوا ألفاظ غرام تصغيرية، من قبيل “حبيّب”، فإن صلاحيتها تنتهي غالبا بمجرد إتمام مراسم الزواج. “الصغار”، على صغرهم، يطولهم التصغير، وكذا شأن “البحر”، على وسعه. وعلى الرغم من أنه لا أقل في نفس لاعب الكوتشينة من “الشنكة”، فإن الليبي لا يجد حرجا في ممارسة هوايته.

ولئن كانت العربية الفصيحة تستني صراحة الله والشهور من التصغير، فإن الليبيين يدعون الله باستخدام كلمة “يا ربيبي”، كما أنهم يسمون أحد الشهور العربية بـ “اقصير”، وآخر بـ “تويبعه”.وكما أسلفت، يكاد لا يقف شيء في مسيرة التصغير: الشياطين والملائكة، الأماكن والألوان، الأكلات والمشروبات، النوم والطريق، الأجهزة الكهربائية والملابس، والحيوانات والطيور. أيضا فإن التصغير الليبي يطول الشجر والحجر؛ احويطة، وانخيلة، وانويرة، وانعيمة، واكريسي، واسبيسي أمثلة على قائمة تطول.أسماء العلم ذات الخصوصية الليبية تشكل موضعا مناسبا لممارسة هواية التصغير. ليس هناك شعب آخر يسمي امهيدي، وامويلة، واسويحل، واعويدات، وامبيريكة واوريدة وامعيتيقة وادريهيبة (وهذا الأخير، لمن لا يعرف، اسم أمي). أيضا فإن أسماء العائلات الليبية المصغرة يصعب حصرها، ففضلا عن تصغيرات مملكة الحيوان – السبيع والضبيع والجميل والذويب والطوير والدويك، وعجيل وبوعجيلة وقطيط وحميّر وحنيش وجريبيع – وفضلا عن أسماء العائلات المشتقة من أعضاء الجسد، مثل بورويس، وبوعوينة، وبورقيبة، وبوبطينة، وبوالصويبعات، ولا ننسى بالطبع “خشيم” نفسه؛ نجد أيضا المغيربي، والشويهدي، والشتيوي، والعريبي، والنويري، والتريكي، والسويحلي، والطويبي، والفليليح، والهريش، وإطليل، وكويري، ومنيسي، وارقيق، وارزيق، وسويق.أسماء الأحياء السكنية في المدن تصغّر بدورها، ففي بنغازي مثلا نجد سيدي عبيد وسيدي خريبيش والزريريعية والوحيشي والمحيشي وبوهديمة والفويهات والرويسات.

وكذا شأن أسماء القرى والمدن؛ ففضلا عن العجيلات والعوينات وبويرات الحسون والجميل، لدينا الحريقة والزويتينة والبريقة والعقيلة، وهذه الأخيرة مدن ينبئ تجاورها بأن القبائل التي تسكنها تجد متعة في ممارسة هذه اللعبة البلاغية. في المقابل، وإذا ما استثنينا البحيرة، تكاد لا تجد في بلد كمصر، اسم علم، أو حيّا أو قرية أو مدينة أو محافظة صيغ اسمها وفق إحدى صيغ التصغير. ولكن من يتوقع أن يعنى بلعبة التصغير شعب عرف عنه احتفاءه بالمبالغة والتهويل.حدثني صديقي الشاعر عبد السلام العجيلي أنه حين يشرع في شرح باب التصغير لطالباته، يبدأ بسرد قصة قصيرة تبدأ بقوله “كان فيه اعجيز غلبها الجوع، خشت شويرع، لقيت بويب، طقت عليه، طلعتلها بنية، لابسة قفيطين، وسبيبيط، وعلى راسها محيرمة، عزمت عليها، قالتلها تفضلي يا حويجّة، ومدتلها كسيرة خبزة وطويسة شاهي..”. حين يسمع الليبي قصة كهذه، لا يحس بأي تكلف، بل إنه قد لا ينتبه إلى المبالغة في استخدام صيغ التصغير.غالبا ما يراد من التصغير التحبيب (ما يسمى في العامية بالترجيب). بيد أن غاية التصغير قد تكون التقليل من شأن المصغر، كما في “ارويجل”، و”اعسيكري”. ومادمنا تحدثنا عن الترجيب، نذكر أن الأم الليبية تدفع الحسد عن وليدها بثلاثة أسماء مصغرة دفعة واحدة (احويته، واخميسة، واقرين).يقول بشلار، “إن الشاعر الذي يلمع قطعة أثاث في قصيده إنما يعزز الكرامة الإنسانية ويسجل قطعة الأثاث رسميا في كتيب العائلة الإنساني.” يبدو أن كتيب العائلة الليبي حافل بالكائنات، وأن التصغير طريقة الليبيين المفضلة في إضفاء قيمة إنسانية على الأشياء، عبر بعث الحياة فيها لجعلها تارة موضعا للإعجاب وأخرى للسخرية وثالثة للرثاء. قد تكون اللغة الإيطالية (وربما الإسبانية في حالة الدراونة المغرمين بالتصغير بشكل خاص) مسؤولة نسبيا عن هذه الظاهرة. ولكن لأن شيوع تصريفات الصيغ التصغيرية قد ينبئ بغلبة مشاعر بعينها، لنا أن نتساءل ما إذا كان الليبيون من أكثر الشعوب توددا وتهكما وتعاطفا؟ في المقابل، لنا أن نتساءل أيضا ما إذا كان التماس خصائص سيكولوجية في سلوكيات لغوية عارضة يصغّر من شأن هذه الخصائص؟.

مقالات ذات علاقة

آفاقُ الرَّخَاء

يوسف القويري

من مقالات منتصف اللّيل في بلاغة القران

المشرف العام

لماذا نكتب..؟

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق