المقالة

علي ماهر…

لو لم يكن في رصيده الفني غير قصيدتي «بلد الطيوب» و«قناعك»، لكفاه ذلك ليتصدر كوكبة الملحنين والموسيقيين الليبيين الذين شكّلوا بأعمالهم مدارس خاصة بهم، وتراكما من الأعمال المميّزة الخالدة أثروا بها المكتبة الفنية الليبية والعربيّة، وأسهموا في رقي وانتشار الأغنية المغاربيّة على وجه الخصوص، ولو أن الفنان علي ماهر عاش في ساحة فنيّة أرحب وأوسع وأكثر زخما وحضورا، لكان انتزع موقع الصدارة بين الأسماء التي ارتبطت بالأعمال الكبيرة والأسماء الشهيرة في فضاء الأغنية العربية.

الفنان علي ماهر
الفنان علي ماهر (أرشيفية عن الشبكة)

يمكن تمييز أي لحن لعلي ماهر منذ أول نقرة إيقاع ولحظة الانسياب الأولى لنهر الموسيقى الذي يبدأ في التدفق آخذا طريقه بسلاسة وعذوبة إلى القلب، ومنه يتسرّب شعورا حانيا إلى سائر الجسد.. في أحيان كثيرة يتحول عمل ما من أعماله إلى ما يشبه الكائن الحي، ويجد المستمع نفسه يتعامل مع هذا الكائن كما يتعامل مع عزيز أو حبيب يطرب لحضوره، ويشتاقه حين يغيب، ويتلهف لرؤيته عندما يعود، هكذا ينتابني هذا الإحساس وأنا أسمع قصيدتي «بلد الطيوب» مثلا، أو «قناعك» أو «بعد عينيك، أو «طوالي» و«لا تدبري» و«حنيت» و«سلامي قلّه شيل يا تيار» و«أم الضفائر» وغيرها، ينطبق هذا على العمل على ما نسميه بالأغنية الوطنية، والعاطفية أيضا، وربما هذا ما جعل «بلد الطيوب» تحظى بهذا الإجماع من الانشداد إليها، أضف إلى ذلك جمال نظم قصيدة الشاعر المرحوم علي صدقي عبدالقادر، وروعة أداء الفنان المرحوم محمود كريّم، إن الفنان علي ماهر بالمناسبة، ليس من ذلك الطراز الذي يعد ألحانه سلفا ثم يبحث عن صوت يؤديها، فهو يتعامل مع مشروع لحنه كقماشة خام، ويختار بحسّه الموهوب الصوت الذي المناسب، ليفصلها عليه، مثلما يتعامل النحات أو الرسام مع الـ«موديل»، يقول عن ذلك في أحد حواراته «أنا أختار الكلمة الرقيقة التي تحمل مضمونا سواءً في العاطفة الشخصية أو عاطفة الوطن وفيها شاعرية ورِقة، وهذه هي التي تعجبني، وبالنسبة للمؤدين والمطربين عادة، أنا أفصِّل اللحن، وأمامي من سيغنيه قبل أن ألحنه، وبالتالي كل لحن أبدعه أتخيل الصوت الذي سيبدع في توصيل الرسالة من هذا اللحن، وأدرس طبقات صوت من سيؤديه وأعطيه على قدر إمكانياته في الأداء».

لكلّ ذلك لا نتصور مثلا كيف يمكن أن نستمع إلى «بلد الطيوب» من غير محمود كريم، أو «سلامي قله شيل يا تيار» من غير محمد رشيد، أو «أم الضفاير» من غير محمد السليني، وهكذا.. حين ألقى قنبلته اللحنيّة «طوّالي» في بداية مشواره، وحظيت بذلك القبول والانتشار السريعين في ليبيا وجوارها المغاربي، كان واضحا أنّ مدرسة أخرى في منهج الموسيقى الليبية إن صحّ التعبير قد أطلت على أيديه، وهو ما تأكد من خلال أعماله التي تلت «طوالي»، ثم كانت العلامة الفارقة في المساق تلك المرحلة، بظهور «بلد الطيوب» و«قناعك» الأولى تغنت لليبيا والثانية للحب، وما تجلّى أيضا هو أن علي ماهر سيتسيّد القصيدة المغناة على أثر من سبقه من ملحني ليبيا الكبار، وعلى رأسهم المرحومان كاظم نديم وحسن عريبي، بل إنه ومحمود كريّم شكلا أهم ثنائي غنيا القصيدة العربية، ولو كان المكان غير المكان لتسيّد هذا الثنائي أيضا صدارة ملحني القصيدة الفصحى على امتداد خارطة الغناء العربي، هذا أكدته أيضا أعماله التي تغنى بها كذلك الفنان المغربي المعروف عبدالهادي بالخيّاط.

ولم يدخل الفنان علي ماهر ميدان الفن والتلحين خلسة أو نتاج صدفة، بل دخل عن طريق العلم والمعرفة، فهو أكاديمي درس الفن وأبحر في تاريخه وثقافته، ومن ثم اتسم إرثه الفني بهذا التمكن والرقي والنضج الذي تميّزت به أعماله، من الأغنية العاطفية والوطنية -عاميّة كانت أو فصحى-، إلى الأوبريت والمسرح.. ذلك هو الفنان علي ماهر كما عرفته وأعرفه، فنان شفاف حتى أنه إذا انسجم في حديثه عن الموسيقي، يخال إليك أنه طيف شفاف زاهي الألوان، يتحدث فيشدّ ويمتع.

مقالات ذات علاقة

تُونس من جِلدِ ثورٍ ليبي، وجدارها من رمل!

أحمد الفيتوري

الزهايمر والكُتّاب – الجزء الثاني

محمد قصيبات

ومضات ليبية عابرة – 2

المشرف العام

اترك تعليق