دراسات

أَسَاسِيَّات التأليف في الأدب العربي – ج2

الرواية العالمية الحديثة بتقنيتها وأسلوبها وبنائها الجديد فقد بزغت عند مؤلف «موبي ديك» وهو الكتاب الوحيد الأكثر شهرة من مؤلفه ، وفي بريطانيا «مارسيل بروست» و«برونتي» مؤلفة “مرتفعات ويذرنغ” و«جوناثان سويفت»، و«هربرت جورج ويلزم» و” فرجينيا وولف” و«تشارلز ديكنز» وغيرهم. وفي أميركا عند «أرنست همنغواى» و«جون شتاينبك» و«هيلين كيلر» و«هوارد فاست» و«آرثر ميلر» و«وليام فوكنر» وغيرهم ، وفي روسيا «ليو تولستوي» و«إيفان تورجنيف» و”ديستويفكسى”، و”ماكسيم جوركى” و«إيليا أهرنبورج» و«باسترناك» وغيرهم ، وفي إيطاليا «بوكاشيو» و«دانتى أليجيرى، و«ألبرتو مورافيا» وغيرهم، وفي فرنسا «فكتور هيغو» و«أندرية موروا» و«ألبرت كامو» و«موريس لبلان»، مبتكر شخص «أرسين لوبين» الخيالي والمغامر الظريف وذلك من ناحية بناء روايات تعتمد على تقنية التشويق وليس اعتبارًا للقيمة الأدبية، وغيرهم.

ويكون الأمر أقل صعوبة بشأن ميلاد القصة القصيرة الحديثة الخالية من شوائب الحكاية، فيكفي لذلك إيراد اسمين فقط أولهما من روسيا وهو «أنطون تشيكوف» الذي يحتفلون بذكراه في أميركا كل عام..وثانيهما من فرنسا وهو الكاتب المعروف «موباسان» وغيرهما.

ونستدرك أنه في بلدان أخرى، بصدد الرواية الحديثة، لابد أن نذكر أسماء «فرانزكافاكا» و«استيفان زفايج» و«جورج أمادو» و«أجاثا كرستى» و«غابرييل ماركيز» مؤلف رواية «مائة عامة من العزلة» والروائيان البولنديان الكبيران الفائزان بجائزة «نوبل» للآداب «هينريك شينكيفيتش» و«فواديسواف ريمونت» مؤلف رواية «الفلاحون» العالمية.

ويبقى المسرح ـ أحد أقدم الفنون الأدبية ـ واضحًا بكل ما طرأ على سياقه من تحولات وتعديلات منذ فترات المنشدين الجوالين، ومعلوم أن أشهرهم وأكثرهم مقدرة هو الضرير “هوميروس” وفترات المؤلفين اليونانيين القدماء أمثال «سوفوكليس» و«أربيدس» و«إسخيلوس» الذين كتبوا عن القدر وسطوته ونسجوا حول ذلك درامات قوية تعبر عن مفهوم «القدر» بأصوله القديمة في الفكر الوثني والأسطوري كمسرحية «أوديب ملكًا» التي اشتق منها عالم النفس الشهير «فرويد» مصطلحه الذائع «عقدة أوديب» مثلما اشتق من مسرحيات يونانية قديمة أخرى مصطلح «عقدة إلكترا».

ومرورًا بعصر سيادة الديانة المسيحية صار المسرح في أحضان الكنائس الكاثوليكية كأداة تعليمية مرشدة، ثم جاء «ويليام شكبير» بروائعه وإضافاته منذ أربعمئة سنة، وبعد ذلك استمر تطور المسرح في الأعمال الدرامية لـ «هنريك إبسن» و«يوجين أونيل» و«جورج برناردوشو»، و«نقولاي جوجول» و«تينسي ويليامز» و«برتولد بريخت» و«رومان رولان» و«موليير» وغيرهم وصولاً إلى العصر الحديث بأسمائه اللامعة وانشغالاته الأدبية المستمدة من الحياة. وفي الأزمنة الغابرة قبل ميلاد المسيح كانت المسارح الرومانية تؤدي كثيرًا من الأغراض. بمدرجاتها ذات المحيط المستدير والركح الأرضي الفسيح. وكمثال ففي مدينة ” صبراتة” بليبيا دلنا الخبراء الأجانب – ذات مرة- على قنوات خفية تقوم بنقل الصوت إلى آذان جميع المتفرجين.

وكانت تلك المسارح تستعمل في المحل الأول للتمثيل – وهو أنقى وأجمل ما قدمته ـ لكنها كانت تستعمل لرياضة المصارعة الحرة السمجة يقوم بها مصارعون محترفون تستجلبهم الدولة بهدف التسلية، وتستعمل أيضًا كمكان تتم فيه مصارعة البشر للأسود المفترسة، حيث كان المتفرجون ـ من وراء سياج حديدي قصير وموت ـ يشاهدون المحكوم عليهم جنائيًّا بالإعدام وهم يناورون على الركح الأرضي بيأس، محاولين النجاة من هلاك حتمي بين مخالب وأنياب أسد من الأسود الضارية التي يتردد صدى زئيرها المرعب بين جنبات تلك المسارح.

وفي أزمنة غير نائية تسنى لتوفيق الحكيم أن يكون رائدًا بإدخاله المسرحية الحديثة إلى الأدب العربي، ولم يكن «الحكيم» يستهدف أن يكون رائدًا بل كان يؤلف كسائر الأدباء الكبار في أرجاء العالم تلبية لموهبته وثقافته، ومن يقرأ مجلد «مسرح المجتمع» وغيره من مجلدات الفصل الواحد لتوفيق الحكيم سيلاحظ أنه أرسى أولوية النص المقروءة كأحداث في حوار دافق يتناول الشؤون الجارية في الحياة. ومن المحتمل أنه لهذا السبب وصفه بعض النقاد والمخرجين المصريين بالتجريد والذهنية غير المهتمة بمقتضيات الدراما المقدمة على المسارح، يدخلها متفرجون بيد أن توفيق الحكيم في مسرحية «أهل الكهف» كان قد ألف دراما مؤثرة وأنه ـ اقتطع في مسرحيات أخرى ـ من الفلكلور المصري وأخذ منه مختارات سوريالية مثل:

يا طالع الشجرة

هات لي معاك بقرة

تحلب وتسيقيني

بالمعلقة الصيني

وحين نسترجع أمور الرواية الحديثة ونتأمل نقطة الاستشفاف النمطي مجددًا نرى أن النمطية بالرغم من وفرة وجودها ورسوخها في آداب الأمم فإن الآداب الغربية العالمية لا تؤوب إليها في جميع المؤلفات، وتأكيدًا لذلك نذكر أن الكاتب السويسري المعاصر «هوغو لوتشر» الذي ألقى محاضرة في قصر الثقافة المطل على البحر في مدينة طرابلس الغرب بلغة إنجليزية إسكولائية لا تخلو من الطلاوة، فهو لا يعرف اللغة العربية لأنه ليس مستشرقًا ولا يتحدث بالعربية أو بأي لهجة من لهجات بلدانها. وقد أهداني كما هو مألوف في تلك المناسبات كتابه القصصي المترجم إلى اللغة العربية «حدبة الظهر» المطبوع في القاهرة وإثر قراءتي للكتاب كان تصنيف القصص ميسورًا، حيث اتضح لي أنه قد انضوى بتلك القصص إلى اتجاه أدبي أو تيار أو مدرسة اسمها الاصطلاحي «Bekirest» كانت تنعت منذ القرن السادس عشر بأنها «تقليد أدبي أو مواضعة أدبية لتقديم ملاحظات وتعليقات هجائية ساخرة في قصص شبه هزلية»، وفي تعريف المراجع الإسبانية العامة لتلك المدرسة نطالع ما يلي بتصرف:

«إن قصص البيكاريست هي نماذج من المجتمع الأسفل، وهي أدب يسلط الأضواء على الصعاليك، والأوغاد ولا يدعي هذا النوع من الأدب أكثر من كونه يقوم بتسجيل الحياة الواقعية!».

وعند الإياب إلى موضوع تأليف الشعر فمن نافلة القول إن الشعر بكافة طرائقه ولدى جميع الأمم هو الأقدم من أي إبداع أدبي آخر، وقد شملته بلا شك ـ مثلما شملت غيره ـ التغيرات والتطورات الحقيقية التي لا ينقطع فعلها في جميع العصور وسننتخب إحدى الفترات الشعرية الأصلية والصافية في تطورها وإشعاعها المؤثر في الإبداع الشعري باللغة العربية. ويرتفع أمامنا في هذا النطاق أمير الشعراء «أحمد شوقي»، ومن المهم هنا الانتباه إلى الظروف العامة داخل مصر فقد كانت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية حينذلك ناصعة. وكان أهالي مصر يحكمون بلدهم وقت «شوقي» وكانت الخبرات منذ ـ آماد بعيدة ـ في الحقول والدكاكين من كل المهن في الحكم، ولم يكن هناك تمايز إطلاقًا بين الأقباط وبين المسلمين المصريين، فالجميع عاشوا في أوج التآخي والمحبة والتضامن. إنها فترات مزدهرة تركت لنا سلسلة روايات «جورجي زيدان» وهو المثقف المسيحي مؤسس مجلة «الهلال» المصرية وهو أيضًا الأديب المسيحي الذي كتب مختارات من التاريخ الإسلامي في قالب روائي يأخذ بالألباب، وقد تركت تلك الفترات فيما تركت من مآثر جهود المفكر «سلامة موسى» التنويرية وجهود علماء اللغة من المسيحيين المصريين في قواميس وأبحاث لغوية رائدة. وتشف إحدى قصائد أمير الشعراء «أحمد شوقي بك» عن تلك الروح الإنسانية السارية في وادي النيل في ذلك الزمان وهي القصيدة التي أبدعها أمير الشعراء «أحمد شوقي» وألقاها في محفل لتكريم «واصف غالي باشا» وهو عالم مسيحي الديانة ومتبحر في اللغات أشاد فيها «أحمد شوقي بك» بالباشا.. نقتطف منها البيت التالي:

وإلى الله من مشي بصليب

في يديه ومن مشى بهلال.

وفي الكتاب النثري القيم لأحمد شوقي الذي إختار له عنوان «أسواق الذهب» وأسواق هي جمع من جموع النحو ابتكره أمير الشعراء كتوليد مجازي تجنبًا لمفردة «ساق» وجمعها المعروف في القواميس، وذلك نتيجة لرهافة المعاني التي يوردها المؤلف في فصل الطلاق كالآتي:

«أولئك أمم النصرانية أصحاب الحضارة، حرَّم الطلاق دينهم، ثم حللته قوانينهم، ولكن في دائرة الحق ووجوه الرفق وبإشراف قضاة يحمون نظم الزواج من عبث الخاصة وجهالة العامة».

وجدير بالإشارة أن كلمة «أدب» ـ حسب علماء الاختصاص ـ توجد أصولها خارج مجموعة اللغات السامية وتكون بالحرف اللاتيني adaba بلا تنوين وفق نطقها السومري، وبالحرف العربي «أدبٌ» أو «أدبْ» بالسكون، وقد عثروا عليها أثريًّا كعنوان لقصة تشبه الملحمة في بنائها، وتدور حوادثها حول البطولة الأسطورية، أما وقت تأليفها وكتابتها فيناهز خمسة آلاف سنة مضت.

مقالات ذات علاقة

قراءة في ديوان.. جلال عثمان: يحي الشعر المحكي بحفلة موت

المشرف العام

هل حقاً الإسلام في الأسر؟

علي عبدالله

ليبيا واسعة – 47 (هريسة)

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق