كلمة جميلة ترن في الأسماع وتصل إلى القلوب، ممتدة هي تصل الأرض بالسماء، متسعة لكل جوانب الحياة، ولكن الناس هم الناس لا يكادون يجمعون على شيء. لذا فإنهم حيالها قسمان: قسم يراهن عليها ويتخذها منهجا في حياته وسبيلا إلى نجاته وطريقا إلى نجاحه، يراها قنطرة للخيرات وجسرا للكمالات، بها يصل إلى أنبل الغايات، وغايه هؤلاء السعادة في الدنيا والآخرة، وهم يرون أنهم يشترون ما هو أثمن بعطائهم، ويربحون ما هو أسمى بجودهم، يربحون انسجاما مع ذواتهم وتراحما لمجتمعاتهم، وسكينة في قلوبهم وراحة لضمائرهم، والأهم من ذلك رضا ربهم، ليكون الجزاء من جنس العمل، الدخول في زمرة المحسنين والفوز بجنات النعيم.
أما القسم الثاني: فحدث ولا حرج عن نظرتهم للعطاء، إنها الكلمة التي اجتثوها من قاموس حياتهم، بل يرفضون حتى سماعها من غيرهم .
العطاء عندهم نوع من الهبل – إن صح التعبير – إنه غرم وسلب، تخلي عما نملكه، وهو دليل على ضعف صاحبه وقلة حيلته وهوانه على الناس، فصاحب الأيدي السخية والنفس الرضية ما هو إلا إنسان مغفل، بل هو إلى الجنون أقرب إليه من العقل في نظر إخواننا هؤلاء أصحاب فلسفة الأخذ .
وإذا سألتهم : ماذا ينقمون من إنسان يسارع إلى الخيرات ويسابق إلى أعالي الدرجات ؟
قالوا : دعك من هذا الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، إن على الإنسان أن يحقق مصالحه ويلبي مطامعه، وهو لن يصل إلى مبتغاه ويحقق مناه إلا بتفعيل الفعل خذ في حياته، لذا فهو الفعل الفعال، والأمر الذي يستجبون له في الحال، إنه معيار الدهاء ودليل الذكاء، لا يترددون في تنفيذه وتفعيل كل الوسائل لتطبيقه، إذ الغاية عندهم تبرر الوسيلة.
هؤلاء الأحباب يرون العطاء سلب والأخذ إضافة، العطاء تعاسة والأخذ سعادة، العطاء غباء والأخذ ذكاء. ولأن البقاء للأقوى كما يقولون، والأقوى في نظرهم هو من يسخر طاقاته وإمكانياته ليأخذ من الدنيا قدر ما يستطيع، ويتخذ من مصالح الناس جسرا يعبر به إلى أهدافه، ويجعل من الاستحواذ على حقوقهم سلما إلى مجده الشخصي وكبريائه المزعوم.
أما الحديث عن القيم الرفيعة والأخلاق النبيلة، فذلك ما لا يخطر لهم على بال، وما هو في نظرهم إلا تسلية السامرين ومسكنا للضعفاء والمساكين، فكن واقعيا ودعك من هذه الخرفات وابتعد عن هذه الحماقات واركب معنا فلك المصالح فهو سفينة النجاة.
ولعل أصحابنا هؤلاء يجعلونك تميل إلى أرائهم أو تقتبس ما تظنه نورا من ضيائهم، فحذاري فإنما هو باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، ولن تجد من وهم نورهم إلا نارا تصيبك بشظاياها، وتحرق صفاءك، وتدنس طهرك وضياءك، فإذا أنت في ظلمات بعضها فوق بعض, ظلمات تقلب الموازيين وتلوث الحس السليم، لتتحول طاقاتك إلى فراغ وتجعل نفسك في ضياع .
إن الإنسانية في الإنسان هي العطاء، وهل إنسان بلا إنسانية إلا مارد شيطاني ووحش ضاري تدور حياته حول الابتلاع.
العطاء ليس سلبا، إنه إضافة بكل ما تعني الكلمة من معنى، إضافة إلى أعمارنا فالذكر للإنسان عمر ثاني، إضافة إلى إمكانياتنا لتسمو وتعلو، فننتقل من الركود إلى الإبداع ومن المحدودية إلى الانتشار فإذا بنا نضيف إلى ذواتنا ذواتا أخرى, وتتسع دوائر أنفسنا لتلتقي حبا وإخاء مع دوائر الآخرين، فإذا بها تحقق إتلافا ومودة، وتتجسد تعاونا وفهما .
إنه العطاء لا ينقص النفس من أطرافها بل يضيف إليها أطرافا أخرى فإذا بنهرها الدافق تتعدد روافده وتحلو مشاربه.
العطاء والعطاء والعطاء هو الكلمة السحرية في أس الحضارة وأساس الإنسان, بها تتزكى النفس وتتحرر من قيود شهواتها فتسلك دروب النجاح وتصل إلى الفلاح, وصدق الله القائل: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).
العطاء هو جسر التواصل البناء والتعاون المثمر، هو دفقنا الإنساني وعمق اتصالنا الرباني, به نبني مجتمعا متألقا وأمة متميزة تحقق قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
العطاء ليس أي كلمة, إنه كلمة ليست كالكلمات متى فعلناه وجعلناه منارا لحياتنا فإن الحصاد جوائز مميزة ونتائج مبهرة .
سكينة في النفس وسمو للروح .
تحررا من قيود الشح وانعتاقا من ذل العبودية لغير الله .
لذة في العبادة ورقيا في المعاملة .
استقرارا للفرد وأمنا للمجتمع .
مجدا في الدنيا وسعادة في الآخرة .
وبعد عزيزي القارئ المحترم .. ها نحن في سباق نتنافس فيه على الطاعات، ونقدم البراهين على ولائنا لوطن الخيرات، بعد كل ما بذلناه من تضحيات لتخليصه من أهل الأنانية أصحاب فلسفة الأخذ .
ونحن أولاء بين خيارين: خيار العطاء والبذل, وخيار الأخذ والبخل, وما أحسبنا إلا منحازين لصف الكرماء أهل الخير الفضلاء, فلننطلق ولا نتردد في اللحاق بهذا الركب من العظماء ولنسارع إلى مغفرة رب الأرض والسماء.
وصدق المتنبي حين قال:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم