هناك.. من بعيد.. يظهر الأكروبوليس ناصع البياض.. البارثينون.. المدخل.. كلها من الرخام.. !!
ـ أنت كلب صالون.. تنبح ولكن الزوار يعرفون أنه ليس بإمكانك أن تعض.
ـ وأنت غريب الأطوار.. تحرر طيور الكناري من أقفاصها لكي تأكلها القطط، رغم أنك تعرف بأنه ليس بمستطاعها العيش خارج الأقفاص.. الحرية تعني عدم الشعور بالأمان.. أنت تعذب نفسك دون مبرر.
ـ وأنت مسافر على ظهر مركب نصف غارقة.. تميل بك على نحو خطير.. مرة ترى السماء، وأخرى ترى قاع البحر من نافذة قمرتك. تلغي الأفق وتجمع بين السماء والماء.
ـ أنت مثالي على نحو لا علاج له.. نزعتك هذه لأن تعمم.. أن تنطلق من الجزء إلى الكل دون أن تأخذ في اعتبارك الزمان والمكان، لينتهي بك المطاف إلى أفكار شبحية صغيرة، تحاول بها أن تبتز واقع الأشياء.. تنبح.. تفتح الأقفاص ولكنك لا تستطيع تغيير الأشياء، لأنها هي التي تحدد لك طريقك في النهاية، ولذا فإنك تتعثر بها على الدوام، مثلما تفعل وأنت تمشي عبر ممر السفينة متبعا مسارا متعرجا بسبب ميلانها، تحد حركتك جدران الممر.
ـ كف عن التذمر والشكوى، الأرض موجودة تحت قدميك على الدوام، ثمة قطعة ما لتقف عليها ولتكون موجودا، توقف عن التظاهر بأنك منزوع الجذور، وفي نهاية المطاف، فإن التاريخ هو ما حدث لا ماتريد أنت أن يحدث.
ـ أقبل بأنه يوجد حولي مكان من كل بدّ، مكان من نوع ما، صورة مصغرة للخريف، مساحة مترامية الأطراف، بأشجار صنوبر صدئة ومليئة بأكياس البلاستك واليرقات.
ـ أنا أقبل بشكل عام بأن ثمة طريقا ما، فلقة على أسفل القدم، رجم بالحجارة بلا حدود، طريق مزروعة بأحجار حادة تدمي أصابع القدمين.
ـ لقد أنفقت زمني كله من أجل تجميل الأشياء التي تتحدث عنها، وقضيت عمري بأسره لكي أفتح طريقا إنسانيا من نوع ما، لينتهي بي المطاف وأنا أرجم الريح بالحجارة.
ـ سنوات بأسرها في خضم هذه الحرب التي لا طائل من ورائها، وأنا ما زلت أنبح بالرغم من أنني غير قادر على العض، أكتب شعارات الغضب على الجانب الخلفي من أبواب دورات المياه، وأنا تحت رحمة هذا التأرجح الخطير الذي تتعرض له السفينة، إلى جانب تأرجح أعصابي الذي يفتح لي طريقا آخر أمامي، ويفتح أقفاص طيور الكناري في الشتاء، والتي ستكون مجرّد عظام في جدول أحلامنا، وأجنحة تسافر فوق مختلف الساحات المفتوحة، فوق الأسقف والشوارع.. مثل زغب الطير.
والآن.. هناك في البعيد.. يبدو معبد الأكروبوليس، رمادي اللون، وسور من الأحجار بلون الاسمنت، في حين يكون معبد النصر الأثري القديم مجرد قبر لأجنحتنا المتكسرة.
________________________________________________________
قصة أبيض وأسود لماريوس خاكاس
ولد ماريوس خاكاس عام 1931 بإحدى قرى محافظة (فثيوتيذا) في وسط اليونان، ثم جاء مع والده المهاجر إلى أثينا صغيرا عام 1935. سجن عام 1954 لأسباب سياسية.
أول مجموعة قصصية له صدرت عام 1965 بعنوان (صيف جميل). وله مجموعات قصصية ظهرت بعد ذلك تباعا، مثل (العدوّ المسلح) 1966، (المغسل وقصص أخرى) 1970. أصيب بالسرطان ولم يتسن له أن يعيش طويلا. وكتب خلال فترة مرضه ثلاث مسرحيات من فصل واحد، وهي (الذنب)، (مطاردة)، و(المفاتيح). توفي عام 1972.
تعكس أعمال ماريوس خاكاس تجاربه الشخصية، سواء السياسية منها، أو تجربة صراعه مع المرض في سنواته الأخيرة. خلق أسلوبه المتميز الخاص به في كتابة القصة القصيرة في الأدب اليوناني الحديث، رغم قصر مساحة الزمن التي منحت له في هذا العالم.
ترجمت له قصتين في الماضي.. هما حالة وفاة.. وفراق عن اليونانية.. !!