قصة

كذبة سمراء

من أعمال التشكيلي المصري محمد حجي، من كتاب (رسوم من ليبيا)
من أعمال التشكيلي المصري محمد حجي، من كتاب (رسوم من ليبيا)

رآها مقبلة يسبقها عبيرها المميز وتتقدم خصلات شعرها المتطايرة…

ولوجها من باب الهيأة مع أنات ساعة الحائط التي تعلو المصعد مشهد صباحي متكرر. وقتها من ذهب. كل شيء فيها من ذهب. قرطاها ذهب، سلسلتها، شعرها، صوتها، كلماتها، كلها ذهب. تلك الدقائق القليلة التي ينفقها معها في مكتبها من ذهب.

واسعة ثقافتها، وكان عليه أن يجاريها. مع أنه لا يفهم أكثر ما تقوله، وجد نفسه منساقا إليها طواعية معللا صمته لها برغبته في الإنصات إليها، وأن لديه الكثير مما يود قوله. حرص على سماع كل كلمة تقولها في اجتماعهم شبه اليومي بكل جوارحه. إذا انتابه عجز في الرد المباشر كان يقول لها ببساطة: انتظري الرد في نصي المقبل.

على غير عادتها، لم تلتفت إليه. لم تلقي بتحية الصباح. لم تقترب منه. قرأ على محياها ملامح ملونة غامضة. لون يعرفه مؤشرا لحالة ما: حزن، غضب، توتر، تعب، سهر؟! لا يعلم، فقط بدا لونها مختلفا عن لونها المعتاد. هل غيرت نوع المساحيق الخفيفة التي تستخدمها؟! ليس إلى هذه الدرجة. ود أن يهرع إلى مكتبها ليستفسر لعل ثمة طارئا استجد، لكنه تذكر أنه لم يقرأ نصه الأسبوعي. لم يسعفه الوقت لشراء المجلة من كشك الصحف. كيف له أن يقابلها وهو لا يعرف ما الذي كتبه؟ كما أن موعد لقائه بها كان دائما في العاشرة صباحا، ولم تنتصف الساعة التي تلي الثامنة بعد.

كانت كذبة بيضاء. هكذا أسرها في نفسه، فقبل أشهر عندما سألته زميلته الحسناء المثقفة ذات الشعر الذهبي السارح عن نصوصه التي ينشرها في مجلة “إبداع” الثقافية. ابتسم ولم يرد. كان صمته يعني الإيجاب. عرف أنه يكذب ولم تعرف ذلك. بخبرته أدرك أنه ترك انطباعا فيها. الأديب الصامت الذي لا يحسن الكلام قدر إتقانه للكتابة. سارع إلى كشك الصحف وسأل عن المجلة واقتناها. ضحك الحاج حمودة صاحب الكشك متسائلا: كيف صار يا شريف؟ خشيت عالثقافة؟ قرأ عناوينها بسرعة حتى وقعت عيناه على ما أزال اللبس. السر هنا. صفحة من صفحات المجلة تنشر نصوصا باسمه. ليس هو تحديدا. الاسم مطابق لاسمه فقط “شريف المهدي”. وهذه الفتاة أعجبت بمضمونه فلم تملك إلا أن تستحسن شكله. شكله ليس سيئا. شاب ثلاثيني غزير الشعر أسوده ذو قوام رياضي وبشرة سمراء. لا يمكن لأي فتاة مثلها إلا ان تقع في غرامه. لكنها غيرهن جميعا. هي مثقفة، قارئة. لا تقرأ الأبراج وتفسير الأحلام والمطبخ والأزياء وحلول المشاكل الاجتماعية. إنها تقرأ كلاما دسما، كلاما عصيا على الفهم. الآن، وبما أن الضحية سقطت في الشراك التي لم ينصبها بات عليه أن يحسن استدراجها، بعد أن كان لا يعرف عنها شيئا سوى اسمها “هيفاء”.

– حضرتك شريف المهدي؟

– نعم.

– الكاتب؟

صمت. نظر في عينيها الجميلتين واكتفى بالابتسام. قرأ في وجهها سعادة بلهاء.

– تعجبني نصوصك في مجلة إبداع. أقرؤها باستمرار.

منذ ذلك اليوم لا يذكر يوما من أيام العمل لم يلتقيا فيه. كانت تخبره عن كل شيء: تاريخها منذ الصف الاول الابتدائي إلى أن تخرجت من كلية الإعلام، حيها الذي تفكر في تركه لأنه أضحى شعبيا للغاية، قطتها الأليفة، بعض محاولاتها الأدبية وخواطرها، وعن أخيها الذي كان لا يريد لها أن تعمل في الهيأة. وكانت نصوصه الأدبية مطروحة للنقاش يوم الخميس فقط. غالبا ما كان يكتفي بأن يشير إلى كلمة سمعها من أحد الكتاب: ” أسوأ شيء يتعرض له العمل الأدبي هو أن يحاول كاتبه تفسيره لقرائه”.

كانت تغضب منه غالبا. لماذا استعملت هذه الكلمة ولم تستعمل تلك؟! أرى أن البداهة هو أن تستعمل الثانية. أم تريد أن تقول إن البداهة عدو الإبداع؟!

– نعم. ها أنت تعرفين أكثر مني.

– لكنني أود أن أتعلم.

– اقرئي وستتعلمين.

– أقرأ لك؟!

– لي ولغيري. أو دعك مني! أنا معتوه. مجنون.

– يقول بيكاسو إن العدو الرئيس للإبداع هو الحس الجيد. الجنون هو أساس الأعمال الإبداعية الجيدة.

– لا تعجبني كتابات بيكاسو بتاتا. لم أقرأ له عملا جيدا أبدا.

– عجبا لك. بيكاسو ليس كاتبا. بل هو رسام. هل تمزح؟!

تلعثم. ابتلع ريقه. صمت. فكر. عبس ثم زمجر غاضبا:

– آه. عفوا. قلت بيكاسو؟! ظننتك قلت نيكاسو. نيكاسو هو الكاتب الذي أعنيه، ونصوصه لا تعجبني.

– إنها المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الكاتب.

ومضت كذبته الثانية من استيقافاتها العفوي بسرعة. يقولون إن حبل الكذب قصير. لا يهمه أن تكتشف كذبه بعد أن يصل إلى ما يريده منها. كل ما حظي به إلى اليوم لقاءات قصيرة تبعث في نفسه مزيجا من الارتياح والانتشاء.

فلماذا بدت اليوم متغيرة؟!

وصل إلى كشك الصحف وسأل سي حمودة:

– هل احتفظت بنسختي.

– النسخ كثيرة. لا تنفد. المجلات الأدبية لا تحظى بالطلب الكافي.

تناول المجلة وسارع يقلب صفحاتها ليصل إلى صفحته الأسبوعية، أو صفحة نظيره أو سميه. لم يجدها. اختفت من المجلة فجأة. عاد يقلبها من جديد بتمعن حتى وصل إلى الصفحة ما قبل الأخيرة. كانت معنونة باعتذار عن أحد محرري الصحيفة، مصحوبة بصورته: صورة لرجل أصلع في العقد السابع يضع نظارات طبية سميكة، مع أطيب تمنيات أسرة الصحيفة بالشفاء العاجل للأستاذ شريف المهدي.

مقالات ذات علاقة

سيـرة الجـد الهـارب

إبراهيم بيوض

حقيقة أبريل

ليلى المغربي

البطاقة الشخصية … والحصان الميت!!!

عطية الأوجلي

اترك تعليق