ثلاثُ أرباع قصة
محمد دربي
الربع الأول:
دخل البياصة الحمراء المفضية إلى سوق الخضرة العامر بالناس، فارع الطول، وسيمٌ تعشقه حسان المدينة، يأكله الجوع حيث تسير به الأقدام.. هل لفاتنة من أثر، رمقها جالسةً تحت وارف ظلٍ، طرفها كحيل أبهى من عين غزالة، صبيةٌ تبيع “الفلافل الحار”.. صبيةٌ وأيّ صبية، تجلس مزهوة المحيا، فيها حسنٌ وجمالٌ وحياء، تجلس ونسيم رهيف ينساب من دفء عينيها النجدية، صبيةٌ أرق من نسيم هواء الصباح، عينان بديعتان، عينان طافيتان بالسحر والعطر.. تَوقفَ عن المشي قليلاً ثم اقترب منها، حيّاها مبتسماً، حيّته بابتسامة حيية، بصوت هامس، ابتسامةٌ تشي بالفرح، اختلج قلبه بعنف، اقترب حتى أعشته شرارة سحر من عينيها، وأدركت أنّ البياصة الحمراء قد آن لها أن تنثر الشذى المعطر ويمرّ النسيم العذب، كانت تبتسم ووجها سابح في هدوء عميق.. آن للمقهى أن تستعير من القمر ضوء الشمس وتنعنع جدران البياصة حيث نافورة البياصة تعلو وتهبط راقصةً على نغم زمارة عتيقة.
الربع الثاني:
أحسّ بشعلةٍ تضيء صدره، ألقى خلسة بصمته للظل ولنسيم عينيها، سألها: بكم تبيعين الفلافل ؟ قالت بعد أن مزقت عباءة الصمت: أربعةُ فليفلات بقرشين.. حينذاك، بلا تردد طلب ثمانية من حبات الفلافل الحار، أعطاها خمسةَ قروش مصرورة في منديل صغير، أخذ الفلافل، تسلل إلى الخلف، ثمّ دار وطفق يعدو مثل غزالٍ بري، مرق كالسهم إلى سوق الخضرة.. صاحت في رقةٍ وهي تعدو خلفه: نقودك يا هذا، فلوسك، باقي الفلوس، اختفى بلعته الأرض، تلاشى كطيف قطرٍ في بيداء محرقةٍ، تلاشى في غفلة منها، توقفت مذهولةً، رجعت واثقة ُ الخطو إلى مجلسها المعتاد، توقفت مذهولة مرّة أخري، الصحن تلاشى ايضاً، ذُهلت وفزعت، قالت برقة وثقة: سأجيئ بصحن غيره.
الربع الثالث:
دارت حول نفسها مرة أخرى، اختفى الصحن، تيقنتِ إنّه راح، نزل المطر على غير ميعاد، نزل يتناثر فوق كتفيها، أحست بشيء في يدها، تحسست منديلا فيه عبق ماء الزهرً، توقفتِ عن البحث، فتحت المنديل، قرأت كلماتٍ تفر من بين مزاهر المنديل: أيتها الوردة الندية، يا فراشة جميلة تحتمي من المطر، أنا قاربٌ أحنو إلى موج بحرك، يا نسمة ” أرق من طبع النسيم فهل خلعتِ عليه بُردك “، يا خوف فؤادي من رائحة الورد، يا خوف فؤادي من رفيف عينيك، لقد تركتُ الصحن مع سي ميلود صاحب المقهى الذي على يمينكِ، التفتت إلى اليمين، أبصرته يلوح لها بالصحن، دنتْ منه، أخذت الصحن، ظلّ سي ميلود مبتمسا مرحاً.. عادت قافلة إلى بيتها تشعر كما لو أنّها كانت في حلمٍ جميل يطوف بها بين سحابات ستائرتستحمُ بالشذى، سحاباتٌ يقرأ الضوء فيها في جنبات البياصة طيبة الروح وقدّ مسّ جلالها حلم يطوف مغرداٍ مع بهجة النغمِ هنا وهناك:” تمرّ قفزَ غزالٍ بين الرصيف وبيني ×× وما نصبت شِباكي ولا أذنت لعيني”.