المقالة

شلقم والتقّول على الملك إدريس !

الرد على مقال نُشر في جريدة الشرق الأوسط

الملك إدريس السنوسي (الصورة: عن الشبكة)
الملك إدريس السنوسي (الصورة: عن الشبكة)

هالني ما قرأته في مقالة عبدالرحمن شلقم التي نشرها في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ السبت 27 ربيع الثاني 1445 هجري الموافق 11 نوفمبر 2023م، تحت عنوان: «أيام ليبيا الرَّخوة في وزارة الخارجية الأمريكية»، والتي توصل فيها إِلى استنتاجات لا يقبلها عقل ولا منطق، ويعتبرها بمثابة الحقائق الدامغة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، إلاّ أنها مخطئة ومتجنية في الوقت نفسه !!. فما توصل إليه من استنتاجات يرجع إِلى تكوينه الثقافي الذي نما في زمن الشعارات المخادعة والادعاءات الكاذبة، وترعرع في كنف الزعماء الذين لا يستحقّون التعلق بهم ولا ينتظر تحقيق الأحلام في وجودهم، كحلم قيام الدولة القومية الجامعة لكل العرب، فأولئك الزعماء صادروا الحريات وسلكوا طريق هدم «الدولة القطرية» وكأن بناء دولة الوحدة العربية لن يقوم إلا على حطامها، بينما الأساس هو بناء الدولة الوطنية على أسس سليمة وصحيحة، لأنها هي القاعدة الصلبة لقيام الاتحاد العربي أو وحدة الدول العربية، على غرار ما تم في أوربا «الاتحاد الأوربي» والذي تأسس بناءً على اتفاقية معروفة باسم «معاهدة ماستريخت» الموقعة العام 1991م، ويضم «27» دولة أوربية التحقت على دفعات أو تباعاً، وكانت كرواتيا آخرها حيث انضمت في 1 يوليو 2013م. ويرجع أيضاً إِلى أربعين عاماً قضاها في ظل نظام فاشٍ متخلف، كان قائده شخصاً ظالماً متجنياً استولى على السلطة وتمسك بها وتشبث، بغية قهر الليبيين وطمس تاريخهم وتغييب هويتهم وتشويه سيرة الآباء المؤسسين وكل ما كان سائداً قبله.

روّج شلقم في مقالته المُشار إليها آنفاً لما كان رائجا في سنوات العهد الملكي الأخيرة دون حجج وبراهين، كاتباً عباراته ببراعته الصحفية المعروفة ليؤكد من خلالها أن الملك إدريس السنوسي كان قد أبرم اتفاقاً سرياً مع واحدٍ من ضبّاط جيشه والمقربين منه «عبدالعزيز الشّلحي» لإزاحة نائبه وولي عهده الأمير الحسن الرَّضا المهدي السنوسي، وإلغاء الملكية وقيام النظام الجمهوري !؟، وهذا الأمر لا يمكن التسليم به أو قبوله، وهو يتنافى كُلياً مع أخلاق الملك وشخصيته، فهذا الأمر يعني أن الملك خان شعبه ونكث بوعده، وأنه لم يحافظ على البيعات التي في عنقه ولا على الأمانة الّتي كان يتعين عليه الحفاظ عليها، فكيف يكون ذلك والملك إدريس – طيب الله ثراه – لم يسجل عليه طيلة سنوات عمره المديدة أنه خان الأمانة أو نكث بالوعد والعهد، علاوة على أن ذلك يتعارض جذرياً مع ما عُرف عنه من أمانة وصدق وتقوى، وحرص على سيادة القانون وحكم الدستور، والتزام بالمواثيق والعهود وكل ما يصدر عنه أو يصرح به، فلا عمره خان الأمانة أو تملّص من عهد أو خدع أمته وباع قضاياها بأيِّ ثمن من الأثمان.

قال شلقم إن الملك كان داعماً لاستيلاء عبدالعزيز الشلحي على السلطة؛ وإن هذا الأمر كان معلوماً ومحسوماً، حيث قال بنص العبارة ما يلي: «كان استيلاء عائلة الشلحي على السلطة في ليبيا بدعم من الملك إدريس أمراً معلوماً ومحسوماً. لكن السلطة كانت ملقاة على قارعة المجهول، سنرى مَنْ تمتد يده القوية لأخذها بعد أشهر قليلة». وقال فهمت ذلك من الكتاب الذي صدر حديثاَ عن «دار الرواد الليبية» والذي جمع فيه الدبلوماسي الرَّاحل نبيل محمّد حميمة عدداً من الوثائق التي تخص السنة الأخيرة من العهد الملكي في ليبيا وترجمها إلى اللغة العربية، ونشرها في كتاب، وتحكي عن لقاءات السفير الأمريكي لدى ليبيا في أواخر العهد الملكي، ديفيد نيوسوم، بكبار السياسيين الليبيين، نيوسوم الذي ربطته علاقات قوية مع كامل الطيف السياسي الليبي، وارتبط بعلاقات مباشرة مع الملك إدريس وولي عهده الحسن الرضا، ورؤساء حكومات المملكة، بمن فيهم من غادر المنصب، ونقل ما سمعه من تلك الشخصيات وما دار من أحاديث في لقاءاته معهم في تقارير دورية إِلى وزارة الخارجية الأمريكية.

اعتبر شلقم هذه التقارير حقائق دامغة وليست مجرَّد كلام ردده بعض المسؤولين الليبيين في ذلك الوقت والتقطه السفير الأمريكي، وأرسله في تقارير إِلى بلاده ترصد المتداول بين الليبيين وقتئذ، وما قيل ويُقال، سواء كانت الأقوال صحيحة أو غير ذلك !!.

ومن المعلوم أن التقارير المرسلة من السفارات الأمريكية إِلى الخارجية الأمريكية عبر مندوبيها المستشارين الدبلوماسيين، يتم تداولها في أروقة الدولة الأمريكية وإداراتها المختلفة على أساس أنها وثائق ترصد ما يدور في البلاد المرسلة منها. وبعد فترة زمنية تفرج الإدارة الأمريكية عن تلك المراسلات أو التقارير «الوثائق» بدون القرارت أو التأشيرات من قبل المسؤولين الأمريكان الذين قاموا بالإطلاع عليها بحكم مواقعهم في دوائر اتخاذ القرار. ولكن، ما يجب أن يُوضع في الحسبان، أن تلك المراسلات ما هي إلاّ مجرَّد تقارير يرصد فيها موظف السفارة ما سمعه وما فهمه من أحاديث مَنْ اجتمع بهم.. تقارير يؤخذ منها ما يؤخذ ويترك منها ما يترك، ولا يمكن أن تكون بحال من الأحوال مرجعاً يستند إليه في تحديد المواقف وإصدار الأحكام وتكوين الرأي.

والحقيقة التي تنسف الادعاء القائل بأن الملك اتفق سراً مع عبدالعزيز الشّلحي لإزاحة ولي العهد وإلغاء الملكية !، ما قام به الملك نفسه في شهر أغسطس من العام 1969م، وقبل أسابيع فقط من انقلاب سبتمبر. أرسل الملك إدريس في 21 جمادي الأوَّل 1389 هجري الموافق 4 أغسطس 1969م استقالته من اليونان إِلى مجلس الأمّة، معلناً تمسكه بالنظام الملكي، والدستور، وولي عهده، فقال: «قد مارست هذه القضية وكان عمري سبعة وعشرين سنة والآن في الثانية والثمانين ولله الحمد أتركها في حالة هي أحسن ممّا باشرت في بلائي بها، فأسلمها الآن لوليّ العهد السيد الحسن الرَّضا المهدي السنوسي، البالغ من العمر ثلاثة وأربعين سنة هجرية، الذي يعتبر مِن اليوم (الملك الحسن الرَّضا المهدي السنوسي الأوَّل) على أن يقوم بعبئها الثقيل أمام الله وأمام أهل هذه البلاد الكريمة على نهج الشرعية الإسلامية والدستور الليبي بِالعدلِ والإنصافِ فاعتمدوه مثلي ما دام على طاعة الله ورسوله والاستقامة، وبعد اعتماده من مجلس الأمّة يحلف اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة قبل أن يباشر سلطاته. وإنّي إنَّ شاء الله عقدت العزم الأكيد على اجتناب السّياسة بتاتاً والله على مَا أقوله وكيل».

وما نستنتجه من نص الاستقالة، والتي هي وثيقة رسمية وليست مجرد تقرير لمحصلة آراء، وثيقة يعتمد عليها، ويرجع إليها لإحكام أمر وتثبيته وإعطائه صفة التحقق والتأكد، أن الملك إدريس كان يرى في الأمير الحسن الرضا أهلاً للمسؤولية، وشخصاً متزناً ورزيناً، وأن ما كان يقال عَن انقلاب عسكري يدبره الشّلحي باتفاق معه، ما هو إلاّ مجرَّد إشاعة وفرية، وأن هذه الفرية صناعة مخابراتية بامتياز ومن دوائر أجنبية، قد رددها الانقلابيون الذين استولوا على السلطة لحاجة في أنفسهم، والذين اعتمدوا الغش والتزوير والتضليل أسلوباً في عملهم، والذين أرادوا؛ ومنذ اليوم لانقلابهم؛ الإساءة للملك إدريس وولي عهده الحسن الرَّضا، حيث وصفوا ولي العهد ظلماً وبهتاناً بالضعف وعدم الكفاءة، وعرضوا على الصحافيين خلال الأسبوع الأول من انقلابهم، خزانة الملك الخاصة، وبعدما وضعوا فيها زجاجات الخمــر، بغية تصوير الملك في أذهان الناس على أنه رجل مجون وفسق ولا يعرف حدود الله، وهو ثبت نسبه إِلى بيت رسول الله، والذي عُرف بورعه وزهده والتزامه بشرع الله.

أخيراً، أهمس في أذنِك يا شلقم سائلاً: لماذا جماعتك الانقلابيون الذين سجنوا كل رجالات العهد الملكي وكبار الضباط بمن فيهم العقيد عبدالعزيز الشلحي بعد نجاح انقلابهم مباشرة، والذين شكّلوا محكمة خاصة لهم، أطلقوا عليها اسم: «محكمة الشعب»، ترأسها بشير هوادي عضو مجلس الانقلاب، وأدى عمر المحيشي عضو المجلس الآخر دور المدعي العام، لم يسألوا الشلحي عن الانقلاب المزعوم، وأن الملك اتفق معه سراً للاستيلاء على السلطة وإزاحة ولي العهد وإلغاء الملكية في ليبيا !!؟؟.

سؤال مهـم، وبالإجابـة جديـر.

ولله الأمــر من قبـل ومن بعـد

مقالات ذات علاقة

المصراتي القلب والوجدان

محمد الزوي

لماذا نحن هنا؟ – الحب

فتحي محمد مسعود

الأرض يا إنسان !

علي بوخريص

اترك تعليق