تراث

بعض من قديم يعاد

نعيمة الطاهر

الميز (الصورة: عن الشبكة)
الميز (الصورة: عن الشبكة)

هذا النهار اللي نبيه … والقلب شاهيه …!!!

هذا مطلع لأغنية شعبية تقال في الأعراس في مدينتي غريان ويعرف صنفها بـــ (غنى بوطويل) هذا الغناء الذي تصدح به حناجر النساء خاصة كبيرات السن عند إشهار الأفراح وبدء مواسم الأعراس التي كانت تستمر طيلة (سبع أيام وسبع ليالي).

العرس الغرياني له صفات ليست في غيره من الأعراس وإن كان يُحسب من ضمن الأعراس الليبية البهيجة.. أول أيامه يُعرف باسم (الكسوة) ويُسمى أيضاً (العطًر) و (الرمي) … فيقال إن بنت فلان قد (رموا) عليها بمعنى أنه قد تم جلب كسوتها إليها في بيت والدها وهو الإيذان ببدء أيام العرس التي كانت تستمر من (الحفظة) إلى (الحفظة) … والحفظة هي أسبوع كامل.. تبدأ بيوم وتنتهي بنفس اليوم..   علماً بأنها مصطلح (عثمانلي) نسبة إلى الدولة العثمانية..

وقبل أن أسترسل في الوصف ويضيع مني الخيط دعوني أبدأ معكم (دُرجة..  دُرجة) على قولة (حناي) رحمة الله عليها..

يوم الكسوة:

هو يوم تجتمع فيه الناس في ساحة القرية فيطعمون ويأكلون من (دار السلطان الكريمة) …  والسلطان هو العريس الذي يكون سيد القوم بدون منازع.. في هذا اليوم   توضع (كسوة العروس) فوق ظهر جمل قوي، ويجلس فوقها طفل صغير يمسك بيده بقطعة قماش بيضاء، يستمر ملوحاً بها طيلة مدة رحلة الموكب، في إشارة إلى الفال الحسن وتتقدم كوكبة من الفرسان المشهود لهم بالكفاءة في ركوب الخيل ويبدؤون في (اللهيد) يتسابقون كوكبة وراء أخرى في (ميز) رائع  فيما تكون الموسيقى الشعبية وهي (المقرونة) و(الدنقة) في عزف ألحان خاصة وترديد أهازيج وأغاني لا تقال إلا في هذه المناسبة يقوم (بضربها) فريق يُسمى (العبيد) وهي تسمية تطلق على مجموعة العازفين وهي التي جاءت من كونهم سمر البشرة يرتدون ملابس خاصة تتمثل في قميص (بدلة  عربية) فوقها (جلوالة) وهي ما يشبه التنورة الواسعة المزركشة الأطراف فيما تكون (الفرملة) هي سيدة الطلة و(الطاقية بالبسكل) تتربع على رأس الراقص أو العازف وحين تأخذه النشوة يظل يدور في مكانه فتفتح طيات التنورة وتتطاير حوله …

بينما تستمر هذه المظاهر تكون كوكبة من النساء خاصة الكبيرات في السن يحففن (العطًر) ويتلاقين اثنتين اثنتين حين ترتفع عقائرهن بغناء (البوطويل) يشق عنان سماء الموكب …

وكلما (شيعت) إثنتين منهن (واطت) الأخرتين.. فيأتي الغناء متداخلاً متناسقاً وغالبا ما ترد الواحدة على الأخرى ليأتي الغناء في نفس المعنى.. مثلاً.. إذا (ما شيعت) امرأتين بالقول:

ــ هذا النهار اللي نبيه.. والقلب شاهيه.. محمد وعلي حاضر فيه … حاضر وناضر ..

ترد الأخرتين بالقول:

ــ جيناك يا غالي جيناك.. أحبابك وقُرباك.. نبوا نقيموا الفرح معاك.. في نهار مبروك..

الجحفة (الصورة: عن الشبكة)
الجحفة (الصورة: عن الشبكة)

وتستمر هذه الجوقة الرائعة … تتهادى فيها الخطوات مع اهتزازة (الكسوة) التي تكون مربوطة بقوة على ظهر الجمل الذي يسير وهو شامخاً برأسه وكأنه على يقين أنه يشارك في ترسيم حياة زوجين اثنين.. ويتباهى بأنه سيعود في نهاية (الحفظة) قادماً من بيت أهل العروسة، لكن في هذه المرة وهي تتربع في قلب الهودج (الجحفة) تحفها النساء والرجال والفرسان.. ويتقافز حولها الأطفال الصغار..

تمر باقي الأيام عادية حتى يأتي يوم (القنديل) وهو اليوم الذي يسبق يوم الزفاف وفيه تكون الحركة و(الزحمة) في بيت العريس أكثر من بيت العروسة.. ففي بيت العروسة ومنذ المغرب يتم إشعال (القنديل) والغناء عليه أثناء تجهيزه وهي العملية التي تُعرف بـ (برم القنديل) وتقوم بها أكبر نساء العائلة فيما تتغنى النساء بأهازيج خاصة تقال في هذه المناسبة فقط.. واللحن فيها يختلف عن غناء (البوطويل) مثل:

يا محمد يا علي … والصلاة على النبي

والصلاة دايمة … على النبي بوفاطمة

وأنا ما عطيتك.. بوك اللي عطاك.. هونه في السقيفة.. يسمع في بكاك!!

ويا نار الجريدة يا دخانها … يا وحش الوديدة على جيرانها..

فيما ترتفع عقيرة المغنيات بغناء (البوطويل):

إن تجعلك شجرة خضرا.. فيك القماري.. يربح البائع والشاري.. هيا عروسة..

أما في بيت العريس فيتم (برم القنديل) بنفس الطريقة.. وهي أن تصر (صرة) فيها سكر وتوضع فيها عصاة رقيقة وتلف بالكتان حتى رأس العصا أين توضع حزمة من (الفتائل) التي تنتج من (برم) خيوط الكتان.. وبعد الانتهاء من (برم) القنديل تتم تسقيته بالزيت ويوضع في وعاء حتى موعد إشعاله ليلاً..

 في منزل العريس تأخذ أمه القنديل المشتعل بيدها وتسير وهي تتقدم (العبيد) وهم (يضربون الزكرة) لملاقاة وفود المهنئين الذين عادة لا تخلوا أيديهم من (صايبة) تتمثل في الغالب في شاة مذبوحة وموضوعة في (منديل) …  وهو قطعة من النسيج تشبه (الجرد) ولكن بمساحة صغيرة يتم صبغها بالصبغة الحمراء والصفراء..

الذبائح ستستعمل في وليمة العرس صبيحة ليلة القنديل التي هي غذاء يكون فيه (البازين) سيد الأكلات الشعبية الغريانية حاضراً و(بازين) غريان مشهور في كافة ربوع ليبيا له طريقة خاصة في الأعداد تقوم فيه النساء (بالعجن) و (التعصيد والتمليك) ووضعه في (التبسي) وهو إناء فخار صناعة غريانية خالصة وخاصة.. فأنت لا تجد عائلة غريانية واحدة لا تستخدم (التبسي) في تناول وجبة (البازين) وفوقه (الطبق) المصنوع من سعف النخيل والذي كان يأتي من منطقة الجنوب.. وبالمناسبة لا علاقة (للتبسي) الذي يعرفه أهلنا في مناطق شرق ليبيا بـ (التبسي) الغرياني..

غناء البوطويل (الصورة: عن الشبكة)
غناء البوطويل (الصورة: عن الشبكة)

في منزل العريس تتعالى أصوات النساء بغناء (البوطويل) مرددات:

ــ مبروك يا غالي مبروك.. على أمك على بوك.. وعلى الدويلة اللي حضروك.. طول عميرك..

ــ يازين ولدي منين ركب … والسرج يلهب … تقول باشا خش عرب..

ــ الكرهبة دارت دورين … فم الدكاكين … جابت وليدي ضي العين.. صونه ونجيه..

في عصر اليوم الأخير تجهز العروس كي تنقل إلى بيت زوجها.. فترتدي رداء (المثقل) وهو نوع من الأردية التقليدية التي تصنع من خيوط القطن وتتميز بلون خطوطها البيضاء والسوداء ويظفر شعرها بعد دهنه (بالجدرة) وتوضع فيه (الصالحة) الحلية الفضية التقليدية الأشهر.. فيما يلف معصميها (الدبلج) وعلى صدرها تنعس (الشعرية) وتُعطر (بالعرضاوي) بعدها يقوم أخيها الأكبر فإن لم يوجد فعمها أو خالها بــ (التحجيف) عليها.. أي يضع طرف (جرده) فوق رأسها ويقوم بمساعدتها للجلوس في (الجحفة) وتوضع على ظهر الجمل ويحف موكبها الفرسان والنساء والأطفال والرجال.. ويزفونها في موكب مهيب حتى تصل بيت زوجها فتجد أم العريس وأخواته وقريباته واقفات على الباب وهن يرددن فيما تومي أم العريس بالمنديل:

مرحبا يالافية.. أجعل خشوشك عافية …

مرحبا باللي لفت.. جابها الغالي وجت..

مرحبا يامرت خوي.. يا معمرة حوش بوي..

وفي ذات الوقت تمسك البنات الصغيرات بـ (الدربوكة) وتتعالى أصواتهن الفرحة:

يامبروك على غالينا …. هذا وين تسمت لينا.

حلوا الباب على وسعيته … هالقمر عمري ما ريته.

وهكذا كانت الأعراس في مدينتي غريان زاهية بهيجة مفرحة تقليدية مائة بالمائة … أما الآن فما ترك التحضر الزائف مكاناً لكل ما ذكرته … لم تعد هناك (جحفة) ولا رداء (المتقل) … لن أسترسل حتى لا أُذهب متعة هذا الكلام…!!

مقالات ذات علاقة

الريح ماجابت اتشيل

أسامة سويق الديب

نقطة ضعف للشَّاعِرَةِ بدريَّة الأشهب (2 / 2)

جمعة الفاخري

الصورة الشعرية في رباعايات “خالد فضل الله” خيّام الشعر الشعبي

المشرف العام

اترك تعليق