طيوب عربية

يا درنة الماء، يا الغريقة

حمدي الصبحي | سلطنة عمان

آثار فيضان وادي درنة في 10 سبتمبر 2023 (الصورة: عن الشبكة)
آثار فيضان وادي درنة في 10 سبتمبر 2023 (الصورة: عن الشبكة)

تأخر الكلام عن دانيال وليبيا، لأن الدمع أغرق الكلمات، تأخرنا لكننا لا نزال في مفاصل الحديث عن درنه ودنيالها، هذه العاصفة التي أبكت الأرض الليبية وناسها وأبكتنا، عاصفة سحبت أمكنة بناسها إلى البحر، والآخر دفن تحت درنة، ولأنها دانيال فأصبحت حديث الناس في كل مكان في العالم، سميت بهذا الاسم لتكون في الرأس قبل اللسان، عاصفة تدمر بلاد في التاريخ الحديث.

العواصف كعادتها تطلق عليها أسماء لسهولة نطقها في اللسان لتعيش معنا، وفي ذاكرتنا، كما حدث معنا في عُمان، ما بين (جونو وفيت وشاهين)، تسمى لتعيش ونتذكر، يقال بأنها لأسماء أشخاص، ماتوا في هذه العواصف، تكريما وتخليدا لهم يطلقون العواصف بأسمائهم، وكانوا سابقا يسمون العواصف أيضا بأسماء كريهة ومكروّه، لكن هذا لا يعنينا، ما يعنينا بأن العالم تصبب دموعا على ما حدث لأهلنا في ليبيا العزيزة، ولايزالون يصارعون الماء، الماء غدار حقا رغم محبتنا له.

يهمنا ناس ليبيا، هؤلاء الغائبين عنا، لا نعرف عنهم أي شيء، فمعمر القذافي غطى على ناسه، وعندما يتذكر العالم ليبيا يحضر إسم القذافي، كما العراق الذي ارتبط بإسم صدام، لا نعرف ليبيا أي شيء، ولا عن ناسه ومدنه، لأن القذافي كان يقول لنا في كتابه الأخضر بأنهم يعيشون في منتهى السعادة، ولا يوجد مواطن ليبي يعيش بالإيجار، أو ليبي يهاجر، كان يقول لنا في مقابلاته المتلفزة ومن خيمته بأن ليبيا هي الكون كله وفي عهده محصنة حتى من الزكام، كان يقول كل شيء، فصدقناه، لكن من يزور ليبيا سيرى بأن الليبي منزوعة حقوقه، لا يعرف ما يدور حوله، فالستلايت مثلا في قائمة الممنوعات، مسموح لك بأن تدخن الحشيش، لكن أن تفكر، فهذا سيعرضك للخطر، حتى أحلامك ممنوعة من السرد، أو ممنوع أن تحلم.

هكذا كان يقال لنا، وعبر ما يبث في عهد معمر القذافي، صدقنا القذافي، بما يراوحه من كلام رنان، عاطفي، يدغدغ به مشاعر الناس، في الخارج، يسرب لنا بيانات القمم العربية قبل اذاعتها، يناطح أمراء البترول، فنعجب به، وحدثني مرة المخرج مصطفى العقاد بأن معمر القذافي حارس التاريخ العربي ونضاله، وكان لديه مشروعا سينمائيا ضخما يموّله القذافي لإعادة الاعتبار للإنسان العربي ووجه التاريخي، صدقنا كل هذا، لكن ننثر هذا الكلام، كالملح في الهواء.

ليبيا، هي ليبيا بدون وصاية وزعامة، نعرفها جيدا خارج لسان القذافي، عرفنا المختار ورفقاه في الثورة، وعرفنا ناسها الطيبين، التقيت بهم في بغداد وعمّان ومسقط، لكنهم قلة، عندما تسألهم عن الوضع في ليبيا يهزون رأسهم، ورأيت أحلامهم تتطاير في فجرهم أمام قوارب مهجورة، تمنوا لو إنها تعبر بهم إلى الضفة الأخرى، ناس يحملون جرحهم أينما ذهبوا، لكنهم لا يتكلمون، و”لأن ليبيا كانت دائما بلدا ثريا على المستوى الروحي وبلدا تلاحمت فيه مختلف الثقافات ومختلف الديانات والأعراق، ولهذا فإن تسامحه الذي عامل به القذافي كان نابعا من هذا التاريخ العريق والغني والقيم”، هذا ما جاء على لسان إبراهيم الكوني الذي دائما ما يأخذنا إلى الصحراء الكبرى وناسها، ولكن “من صغائر الأمور أن يهز رجل ضعيف مدينة بأسرها”، لكن ليس المدينة فقط يا بنداروس بل بلاد بأكملها، وكلما فكرنا زيارة ليبيا، قالوا لنا بأن لا علاقة مع هذه البلاد لشرر القذافي ومزاجياته وتقلباته، هذا فقط على الشاشات والراديوهات والجرائد، فحقيقته خبيثة يلعب بالبيضة والحجر، لذلك بقينا ننظر إلى ليبيا من بعيد، وكأنها جزيرة  معزولة، وهي كذلك، نعرف مهدمها وعاصمتها طرابلس وعمر المختار في السينما، وفي حصة التاريخ، لكن لا نعرف عن درنه والمدن الأخرى، واليوم وبعد أن هدمتها وهددتها وشردتها العاصفة دانيال، عرفنا درنة وعرفنا أسرار درنة والأرض الليبية الهشّة في السؤال، وعرفنا بأن ضربة الربيع العربي كانت تحت الخاصرة، وعرفنا كيف تصوب الطلقات لإبادة الناس وحضارته.

الماء جاء ليكشف هشاشة ما بعد الثورة، وما بعد القذافي، كيف إنهم أرادوا قتل الناس عن عمد.

مذ الاطاحة بنظام القذافي، وكل يوم حكومة، وكل يوم هزيمة، وكل يوم ينكسر الناس، فقر وعوز ومرض وعدم استقرار، ومع كل هذا كانت الشعارات الرنانة تقرع في كل بيت، كما حدث في كل قطر عربي، بأن الثورة من أجل الناس، وجاء من يقطف ثمارها، هذه درنة اليوم تعيش مأتمها الكبير، من ـنقذها، من ساعد ناسها، ومن كان يعرفها في هذا الزمن وفي زمن القذافي، إلا دانيال الذي سبق ظل شريانها.

مقالات ذات علاقة

معرض فني لدعم الحق الفلسطيني بأتيلية القاهرة

عبدالسلام الزغيبي

دنيا تغربل صحبها

زيد الطهراوي (الأردن)

في تأمّل تجربة الكتابة

فراس حج محمد (فلسطين)

اترك تعليق