عندما أجوبُ قممَ الجبلِ الأخضرِ ومرتفعاتهِ الشّاهقة، يُطلّ من هناكَ الامتداد الرّهيب لبداية الصّحراء والتّدرّج اللونيّ لنباتات الجبل وتزاوجها مع الصّحراء؛ أرى الشّمس والسّحاب وقطعان الأنعام، يُبهرني جمال القمم العالية بموسم الخريف هذا الفصل الذي يُناصفه الصّيف والشّتاء مستشعرًا دفءَ الصّيف واللّسعات المبتدئة لبرد الشّتاء عند الغروب.
تُباغتك النّباتات البرّيّة الممتدة على حواف ألسن الماء التي لم تجف بعد من موسم الشتاء الذي مضى؛ هذه الألسن الوديعة الهادئة التي تستدعي الكثير من المسافرين لقضاء بعض الوقت بها.
فكلّما تقدّمت بذلك الخط الفاصل بين الجبل وبداية الصحراء كلما عرفت (طريق الماء) ونهجها وانسيابها وانحدارها ومساراتها، هذه الطّرق الّتي عرفها الماء منذ أن عرف الجريان عبر ألسن قممها إلى سيول أوديتها العريقة.
يعلن الماء عن نفسه مع بداية أولى قطراته العذبة التي ينتظرها أهل البادية والحضر فتبتهج النفوس، وتتكون بذلك برك الماء الصغيرة معلنة عن ربيع مزهر. بعد أن ربت الألسن في هذه القيعان التّرابية أو الصخرية.
يزداد زخّ الماء الذي هو من السماء رسالة يفسرها العقل البشري كما يشاء وكيفما أراد.
هنا تجد فعل الحضارات القديمة اليونانية والليبية والرومانية والإسلامية، وكيف تمرّسوا مع هذه الألسن الوادعة وروضوها وكيف يمكن أن تُستغلّ في خدمة القادم من الأيام؛ فنجد الآبار المحفورة والصّهاريج الناقلة والخزّانات الكبيرة التي تقطع سير الألسن برفق للاستفادة من الماء في مواسم الجفاف وقبل لحظات الدّفق الكبير وانهمار الماء المهيب في فصل الشتاء من جديد.
كل هذا الفعل البشري كان هناك عند مصبّ الماء وألسنته الصغيرة والمتوسطة في المرتفعات قبل نقاط الانحدار السحيق وتكوّن السّيول التي لا يقوى الإنسان على صدّ طريقها؛ لكنّه قادر على تخفيف دفق هذا الماء بعمل السّدود الصّغيرة و(آبار العدّ) والخزّانات التي تحفظ الماء طوال العام وتخفف من شدّة السّيول التي قد تصل إلى مدنهم التي أنشأوها على ربوات الجبل الاخضر المطل على الساحل الليبي العظيم،
هنا ندرك بأننا لسنا قادرين على إيقاف الماء عبر مساربه في رحلته الأزلية من الشمال إلى الجنوب حيث مصبه الأخير البحر؛ لتولد العلاقة الأبدية بين العذب والأجاج لتأخذ فعلها الطبيعيّ، مغازلة الشمس للبحر والسحب الراحلة العائدة بقطرها إليه محملة بأرزاق من يعيش بجوفه وعلى شواطئه من كائنات.
نعم لا نستطيع أن نحيد الماء عن طريقه لكننا قادرين على ترويضه والتّخفيف من قوّة تدفقه في رحلته الممتدة من الأزل حتّى الأبد عبر امتداد زمنيّ يرسم خارطةً للحياة، حياة الطّبيعة والإنسان وأن نمنحه الحرية ليسير عبر أنهار موسمية حتى يصل إلى ملتقاه وأداء رسالته الخالدة “الحياة” بل كلّ الحياة.
حتى يعود الينا الماء عبر طريق الماء..