قصة

أمواج بلا شاطئ

تصوير: الشاعرة ليلى النيهوم.
تصوير: الشاعرة ليلى النيهوم.

قبل قليل، في الصباح الباكر، توقف هطول المطر. هبت رياح باردة منعشة…

انتشر الصغار يجوبون الأزقة الضيقة ابتهاجا بالماء الغزير الذي شكل بركا هنا وهناك.

وشرعوا يغتسلون فيها، يأسرهم دفء مياهها…

على مقربة من التلة التي تطل على القرية، تبان قطعان الأغنام وهي ترتع… سريعا مر ذلك اليوم… في المساء انقشعت الغيوم هاربة إثر ازدياد سرعة الريح. حل المغيب. استكملت الشمس رحلتها. فتوارى ضوء النهار… خيم الليل المرصع بالنجوم. أرخى سدوله مغطيا الكون بعباءته السوداء… فأضحى الجو صحوا… جلس “جهاد” ينظر إلى عقارب الساعة الحائطية… ويستمع في هدوء إلى موسيقاها (تك… تك… تك…) من جهة الباب الذي كانت والدته أوصدته قبل أن تندلف إلى حجرتها لتنام، كان مواء قطتي ابنة أخته “خولة” يكاد يطغى على صوت عقارب الساعة (مواه ه ه… مواه ه ه) انتفض واقفا ليتبين الأمر. فإذا بالقطتين تصارعان أفعى صغيرة في محاولة منهما لاصطيادها… كانت أحداهما تضغط على رأسها بمخالبها… والأخرى تصارع ذيلها الذي راح يتماوج يمنة ويسرة، ما يوحي بان الأفعى في خطر محدق بها… تناول فأسا وهوى بها على الأفعى المسكينة التي لم تحتمل قوة الضربة… فشطرتها الفأس إلى نصفين… انقضت كل قطة على حصتها… وراحتا تلحسان فروهما الأملس. تنظران إلى “جهاد” في نشوة وكأنهما ترسلان إليه رسائل شكر وامتنان لأنه أراحهما من عناء تقسيم صيدهما بالتساوي…

في تلك الهنيهة، أدار “جهاد” ظهره عائدا إلى حجرته، غارقا في أفكاره، يقص شريط ذكرياته…

فتذكر “حليمة” ابنة جارهم بائع اللبن الذي يعرفه كل سكان القرية… ويحبه الأطفال الذين تعودوا زيارته مع بزوغ شمس كل نهار قبل ذهابهم للمدرسة لشراء الاجبان الطازجة…

كان زوج “حليمة” التي لم ترزق منه بأطفال، توفى في حادث سير أليم وهي في أوج أنوثتها… عاد بذاكرته إلى أيام الطفولة والصبا… فقد كانت “حليمة” أول فتاة يتجاذب معها “جهاد” أحاديث الحب والغرام… ويهمس لها بكلام رقيق، عندما كانا يلتقيان على البئر لجلب الماء ويغمران الفخاخ بالتراب لاصطياد الحمام… فقرر في تلك اللحظة زيارتها ومفاتحتها في أمر زواجهما… طق… طق… طق… ويفتح الباب… كانت “حليمة”، ببريق عينيها اللامعتين وابتسامتها الصافية التي تجعل حتى البرق يختبيء وراء السحاب خجلا من جمالها… كانت ترتدي ثوبا ورديا يبرز مفاتن جسدها الرشيق النحيل، إلا أنها لم تستطع إخفاء حزنها العميق… إذ بدت قسماتها شاحبة… وكالنجوم الباهتة وكما الضوء المنبعث من بعيد، تلاشت أحلامها ورغباتها المخبئة… ألقى عليها التحية… مرتجفا قائلا:-

– أنا آسف لمجيئي في هذا الوقت المتأخر…

– بقيت للحظات ساهية في حيرة من أمرها… فقد مضت سنوات عدة ولم ترى “جهادا”… خفق قلبها بقوة… شعرت بشيء ما يتسلل إلى جسدها… ارتعدت شفتيها…

متلكعة قالت:- لا عليك… تفضل…

– كيف حالك يا “حليمة”… لم تغيرك السنون… ما زلت فتية…

– شكرا لك، لكن ما الذي قذف بك في هذا الوقت؟

– في الحقيقة جئت أعلن لك رغبتي في الاقتران بك… تسمرت في مكانها… ولم تعد قدماها تقويان على حملها… أسندت ظهرها على الحائط… أحست أنها ولدت لتوها رغم فاجعتها بموت زوجها… حاولت أن تقول شيئا لكن الكلمات غصت في حلقها… استجمعت قواها بعد أن مررت يدها على جبينها وقالت:-

– لكنك تعلم أني أرملة… وحزني على فراق زوجي لم يزل يقطع أوصالي. ثم ماذا سيقول عني الناس؟؟ خائنة العهد… بالأمس مات زوجها… واليوم ها هي

وبكل بساطة تتنصل من عهودها له… وتبحث عن زوج آخر لترتمي في أحضانه… أيرضيك هذا؟؟

– مقاطعا، لقد أشرقت شمس الأمل بعد غسق الحزن ولم يعد هناك ما يمنعنا من الزواج…

ثم أن حزنك على زوجك لن يمنحه حياة جديدة… فلماذا تصرين على دفن شبابك وأنوثتك وهناك ألف من يتمنى مجرد النظر إليك وتقبيل يدك؟؟ ألا يكفيك أني أحبك حد العبادة؟؟- أرجوك يا “جهاد” اذهب قبل أن يكتشف الناس امرنا… فما تطلبه مني ضرب من المحال… فان كنت تخشى على سمعتي، ارحل من هنا… أرجوووك…

– حسنا، حسنا، كما تشائين… إني ذاهب… لكنني سأعود إليك… فكري بروية واتخذي قرارك بتأن

وحكمة. وبعد أسبوع، كانت الإشاعات تلوك “حليمة” دون رحمة… لم تعد قادرة على الخروج حتى للدكان الملاصق لبيتها… نظرات الجيران والمارة تطاردها في خسة ومكر مبطنين… حتى الأطفال خلعوا ثوب البراءة ولبسوا أثواب الدهاء والخبث وهم يهمسون لبعضهم: أنظروا إنها الأرملة العاشقة…

لم تنقضي عشرة أيام حتى عاد “جهاد” وعبثا حاول استعطافها… صدته وتحاشت لقاءه… ولما أصر على مقابلتها قالت:- الجميع على علم بملاحقتك لي، حتى أن شائعات مغرضة بدأت تطفو على السطح يؤكد مروجيها أنني استقبلك في ساعات متأخرة من الليل في بيتي وأواعدك…

أي إننا نمارس… أعوذ بالله… قال:- لكنني أحبك… أحبك… فمالنا وكلام الناس…؟ ثم انك كنت لي دائما القمر الذي يضيء ليالي الظلماء… ورغم طول هذي السنين بقيت على عهدي ووفائي لك… أتذكرين يوم كنا نلهو بالحمامة التي اصطدناها تحت جذع شجرة الطلح بالقرب من البئر حين قلت لك:- سأبقى أحبك ما بقي الحمام والطلح على الأرض… واليوم تقابلينني بالجفاء والصد؟ يا الهي!! كأن الحياة كانت تعبث معي وتتسلى بي…

– قالت:- كل الحكايات كانت ولم تزل تأتي على ذكر اسمك ولو صدفة

وتنتهي بي إلى باب قلبك…

لكن عاطفتي يا “جهاد” صدئت ولم اعد أجرؤ على مقارعة الحب… فأنت تطلب مني السعادة وأنا لا أستطيع منحك حتى أحزاني… كان يسمع صراخ قلبها وسط لهب نيران شوقها المغلف بالكآبة… تألم كثيرا ودق آخر مسمار في نعش حبه… راح يبكي تعاسته… يرثي خيباته… يمني نفسه بجرعة حب… يطفيء بها نيران رغبته المتوهجة… وجد نفسه كمن تتقاذفه أمواج بلا شاطيء… عاد إلى بيته واختلى على سطح داره يرسم وجهها على الهواء الطلق ولم يزل على تلك الحال حتى جرفه النعاس… استلقى… على ظهره ممددآ مصالبآ يديه على صدره وغاب في سبات عميق…


(من مجموعة شيء مما في القلب)…

مقالات ذات علاقة

ثورة.. دهشة.. وشاية

إبتسام عبدالمولى

موجة حب إلى غرناطة

رضوان أبوشويشة

هذه المدينة.. ذلك الضَّباب

محمد المسلاتي

2 تعليقات

حسين بن قرين درمشاكي 29 سبتمبر, 2023 at 08:33

شكرا نبيلا للطيوب على سخاء النشر و بهاء التوثيق

رد
المشرف العام 30 سبتمبر, 2023 at 17:40

الشكر موصول لك

رد

اترك تعليق