النقد

صـوت الـراوي الـسـاحـر في روايـة (الـكـلـب الـذهـبي)

أحلام عمار العيدودي

رواية الكلب الذهبي للكاتب منصور أبوشناف عن دار الفرجاني
رواية الكلب الذهبي للكاتب منصور أبوشناف عن دار الفرجاني

إن الكاتب الليبي مبدع، يستطيع بكل مهارة أن يخلق لنفسه مجالا ونطاقا جديدا وواسعا ينطلق منه، ليعبر به عن كوامنه وقدراته، ليبهر الجميع برؤيته الواسعة، وعقليته الخلاقة، هو قادر على استفزاز القارئ بكل مهارة؛ ولكن اتمنى أن يكون قادر ايضاً على تقبل وجهة نظر القارئ الناقد.

في الحقيقة ما يدفع بي كطالبة ماجستير لدراسة وتحليل هذا النص بالذات، هو الأسلوب الروائي والتقنية السردية الصعبة التي استخدمها الكاتب (منصور بوشناف) بحرفية عالية ، وهي تقنية سردية تدل على اطلاع واسع ؛ حيث تعتبر الظاهرة التي تشير إلى ظهور صوت الروائي فقط في الرواية من الظواهر الأدبية المهمة، وهي نوع من أنواع الروايات، يطلق عليها اسم (الرواية المنولوجية)أو رواية الصوت الواحد، وهي رواية تقوم على تشكيلٍ سردي مبني على أحادية السارد، وهيمنته على الخطاب، وتتميز الرواية المنولوجية بعدم تنوع لغتها واتسامها بالرتابة والتكرار وفرادة أسلوبها وتتميز أيضاً بتحكم الكاتب في توجيه مصير الشخصيات بشكل علني وصريح، ويضع الكاتب استطراداته وتعليقاته وتفسيراته للأحداث وما ستمر به الشخصيات.

الــــغــــلاف:

لا أستطيع قراءة رواية أو الكتابة عنها دون أن أتمعن جيداً في العتبة الأولى منها؛ وهي الغلاف، وما يحويه من دلالات مهمة بالنسبة لي – فقد اهتم النقاد والكتاب العرب القدماء بهذه العتبة بوصفها طريقاً لولوج القارئ للنص، والتعرف عليه من الداخل مستكشفاً من خلاله كل مساحاته وجوانبه، وقد شهدت الدراسات والأبحاث السردية في العصر الحديث أيضاً اهتماماً ملحوظاً بالعتبة الأولى(الغلاف). (1) .

جاءت الرواية ـــ وهي الإصدار الروائي الثاني للكاتب الليبي منصور بوشناف ـــ “الكلب الذهبي” والصادرة عن دار الفرجاني بألوان تعبر عن الثقة والاتزان من خلال استخدام اللون الأخضر على غلافها، وهذا يدل على الهدوء وعدم الانفعال والاكتفاء بالذات وثقة الكاتب بنفسه، بصراحة اختياره لهذا اللون تحديداً يدل على تسامحه وتصالحه مع الماضي حتى أصبح جاهزاً نفسياً للكتابة عنه بكل ما يحوي من قسوة وظلم كان قد تعرض له، عموماً يرى أرسطو أن اللون الأخضر يرمز إلى الأرض والماء. كما يرى صاحب كتاب (سيكولوجية الألوان) أنه يُشعر الإنسان بالأمان. (2) دمج اللون الأخضر بالذهبي جاء كلاسيكياً جدا، ولكنه عبر جيداً عن عمق المحتوى، وقد صاحب هذان اللونان صورة لأدمي برأس كلب يرتدي معطف أسود معتمرا قبعة سوداء، ملامح وجه “الكلب أدمي” كانت خليط بين ملامح كلب وتقاسيم وجه إنسان بل وتطغى على تعابير وجهه التعبيرات والإيحاءات البشرية.! وفي الحضارة المصرية استوحى المصريون القدماء صورة لإنسان برأس كلب في تجسيدهم للإله “أنوبيس” إله الموتى (3). لاعتقاد المصريين القدماء أَن الكلب هو الذي يقود الموتى في رحلتهم إلى الحياة بعد الموت، أما في الأساطير اليونانية والرومانية كانت الكلاب بمثابة الراعي والحارس بالنسبة لهم. أما في الثقافة العربية فإن للكلاب مكانة مهمة أيضاً فالعرب في العصر الجاهلي كانت تشتق أسماء بعض أبنائها من اسم الكلب مثل: كلب، وكليب، وجرو، وقد ورد في أشعار العرب وأمثالهم الكثير عن الكلب وصفاته وقد اشتقوا من نباحه كلمات وتسميات ونظموا على شاكلتها اشعارا أورد الجاحظ الكثير منها في كتاب “الحيوان”(4) .حسناَ سأسجل هنا انطباع لما تركته صورة الكلب في نفسي: تأملت كثيراً صورة الكلب الذهبي كما صوره صانع الغلاف وكما أراده كاتب الرواية، هو يشبه كثيراً رواد المكتبات وعشاق الكتب، وصانعي الثقافة، ويشبهني أيضاً.! بحرفية عالية استطاع أحمد فرج صانع الغلاف أن يقنعني بوجود صلة قرابة بيني وبين هذا “الكلب”.!! صورة الكلب والألوان المحيطة به كانت بمثابة مزج للحضارات المتعاقبة على هذه البلاد، براح واسع من الثقافة والتاريخ، حدد الكاتب وقتاً مناسبا بالنسبة له ليقدمه للقارئ وممهداً لعرضة من خلال انتقاء تلك الألوان وتلك الصورة لتكون بداية الولوج في عالم رواية الصوت الواحد (صوت الراوي).

طالع: فاجعة ما بعد الحلم الواعد .. قراءة أولى في رواية الكلب الذهبي

روح الــزمنكان وســـحــر الـــراوي:

اخترت أن اتحدث عن الزمان والمكان الذي حدده الكاتب ليصرخ من خلاله بصوته، ذلك الصوت المكبوت منذ سنوات، ليكسر حواجز الصمت والخضوع، ويحرر نفسه من عقده، باسطاً سلطته وطغيانه الوردي على القارئ، مفجرا كوامنه واصفاً مكان الكلب الذهبي بدقة متناهية ومهارة منقطعة النظير. اختار الكاتب (ليبيا) موطناً لهذا الكلب الذي مُسخ بفعل فاتنة حسناء إلى إنسان، لن أكرر ما تحدث عنه الكثير من القراء من خلال قراءتهم الانطباعية حول هذا النص، ولن أكرر ما سرده صاحب النص عن كيف تم ذلك المسخ ولن اتحدث عن مقاربه ومقارنة بين الكلب الذهبي والحمار الذهبي؛ بل سأتتبع من خلال روح المكان وعبق الزمان تأثير سحر الراوي فيه. بداية اختار (بوشناف) الحرية المطلقة في السرد من خلال اختياره لتقنية الصوت الواحد حتى يتحكم في الأحداث ويستطرد ويعلق، ويضيف ويكرر، ويحذف كيف ما يشاء، محدداً بتلك التقنية النمط الذي سيسير فيه السرد، حاول الكاتب أن يوهم القارئ أن زمن الرواية بدأ من زمن الكاتب، من بلاده من أرض (بني وليد) قائلاً: وهو ليس من القصة التي اكتب الآن، ولكنه عن المسخ في تراث مدينتي، أو واحتي التي عشت بها، أعني (بني وليد)، الواقعة جنوب شرق طرابلس، والتي تقطنها قبائل ورفلة الخمسون تقريباً. (5)

ثم عاد إلى أبعد من ذلك بكثير لتبدأ الرحلة عبر الزمن من عصر ما قبل الميلاد ومنحوتات جبال أكاكاوس لينطلق من جديد من فترة الاحتلال الإيطالي وحتي ثورة سبتمبر، كان هناك تنقل بين العصور التي مرت بها ليبيا عبر تاريخها الطويل، أوقف الكاتب زمن النص عند نقطة محددة عندما سرد قائلاً: كانت حفلات الشنق التي بدأت تقيمها الحكومات لأعدائها كما تسميهم قد أخذت تتكرر في الجامعات للطلبة وفي الميادين للمعارضين.(6) جاءت تلك الكلمات معبرة عن مرحلة مهمة في تاريخ الوطن “ليبيا” ونقطة فارقة في حياة الكاتب وكأنه يريد أن يخبر القارئ بأن كل تلك الرحلة الطويلة عبر الزمن والتي قطعها معه داخل النص كنا جميعاً رفقاء فيها، والمسخ الذى طال كل أبناء الوطن كما وصفه ما هو إلا دليل على اشتراك الجميع في هذه الرحلة، الكاتب كان قد سُجن عام 1976 وعند هذا التاريخ كُبلت حريته لسنوات طويلة، وانقلبت حياته رأساً عن عقب، حديثه عن تلك المشانق ووصفه لها بالحفلات، دليل على أنه لم ينسى ما حدث لزملائه وأصدقائه الذين عُلقت مشانقهم تباعاً في نفس الشهر، وقد عبر الأستاذ (منصور بوشناف) عن ذلك في احدى اللقاءات التلفزيونية بقوله: (لم نكن نتوقع أن تكون القصة بهذا الشكل) الكثير من الوجع غاب عن ملامح (بوشناف) في ذلك اللقاء وحضر في هذه الكلمات داخل هذا النص. إذن يمكننا القول: بأن زمن النص الحقيقي بدأ من عام 1969 وثورة سبتمبر وما أحدثته من تغيرات سياسية واجتماعية وثقافية، ونفسية أيضاً، ووقف عند السنة التي سُجن فيها الكاتب1976وفقد فيها أعز زملائه: (عمر دبوب، وبن سعود).

طالع: الكلب الذهبي يستنطق أبعاد التاريخ

الكاتب منصور بوشناف وروايتيه العلكة والكلب الذهبي (الصورة: الجمعية الليبية للآداب والفنون)
الكاتب منصور بوشناف وروايتيه العلكة والكلب الذهبي (الصورة: الجمعية الليبية للآداب والفنون)

 مظاهر الرواية ذات الـصـوت الــواحد داخــل الــنــص:

النص مليء بالكثير من الاستطراد والاستنتاج والتحليل والتكرار، وسأكتفي بذكر نماذج عن التكرار داخل رواية “الكلب الذهبي” هناك الكثير من الألفاظ والعبارات التي تعمد الكاتب تكرارها لتعطي ربما دلالات أو اشارات لسنوات وتواريخ أو أحداث مهمة حدثت وكان لها وقع مهم داخل نفسية الكاتب، فمثلا: تكررت لفظة الأمثولة داخل الرواية بصيغها المتعددة (الأمثولة، أمثولتي، الأماثيل، أمثولة، أمثولتنا، الأمثولي) خمس وثمانون مرة، وتكررت عبارة “غرفة أطفال لم يولدوا بعد” بعدة صيغ ثمان مرات! لنعتبر أن الرقم (85) اختصار لسنة 1985، نعلم أن في هذه السنة كان الكاتب خلف القضبان فما الحدث الذي وقع في هذه الفترة خارج القضبان وعلى أرض الوطن وأثار حزن أو سعادة الكاتب.؟ لنستعرض بعض تلك الأحداث: (المنتخب الوطني في مواجهة أمام المنتخب التونسي في تصفيات كأس الأمم الأفريقية، 8 مايو عام 1985 الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا تطلق النار على مقر القذافي بباب العزيزية، 26 سبتمبر1985 قطع العلاقات الدبلوماسية بين تونس وليبيا.) كل تلك الأحداث عادية من وجهة نظري ما عدا (إطلاق النار على مقر القذافي بباب العزيزية) إذن لنعتبر أن تكرار عبارة “غرفة أطفال لم يولدوا بعد” ثمان مرات هو دلالة على يوم 8-مايو وتكرار كلمة الأمثولة خمس وثمانون مرة هو دلالة على سنة 1985.! الأمثولة ذكرها الكاتب في النص بمعنى ظاهر وهو: القصة الرمزية، واعتقد أنه قصد معنى خفي ترك للقارئ مهمة اكتشافه وهو العبرة والعظة، والملاحظ أنه ترك عدد ست وتسعون صفحة لم يذكر فيها لفظة (الأمثولة) وإذا ما بحثنا عن دلالة ذلك الرقم سنجد أنه ربما كان دالاً على حدث مجزرة أبوسليم عام1996. بالإضافة إلى ذلك يزدحم النص بالكثير من الكلمات التي وضعت بين الأقواس وصل عدد الأقواس إلى ثلاث مائة وسبع عشرة.

يمكننا أن نتوصل في ختام هذه القراءة إلى أن الكاتب قد استخدم تقنية صوت الراوي ليُسكت كل الشخوص بما فيهم شخوص روايته، ويتحدث عن وجعه دون أن يقاطعه أحد، مخاطباً من خلال روايته المليئة بالرموز والإشارات والمصطلحات الفلسفية والأدبية القارئ الناقد، وليس القارئ العادي الذي ربما لن يفهم ولن يستوعب معنى: الأليغوريا، أو كعب أخيل؛ ويقدم بذلك دعوة مجانية لنقاد لتتبع اغوار دلالة تلك المصطلحات داخل نصه والبحث من خلالها عن “الواقعية السحرية، ورواية الصوت الواحد وعن الهوية الحقيقة للكلب الذهبي.

طالع: الرمزية السحرية ترسم هوية الكائن والكيان في رواية (الكلب الذهبي)

هــويـة الـكلـب الــذهــبـي:

اعتقد أنه قصد المثقف الليبي الذي اعتبره النظام ابن الثقافة الإيطالية في تلك الفترة والذي يشكل خطر كبير على الثورة وأمن البلاد؛ لذلك نجد الكاتب كثيرا ما يكرر الحديث عن خطاب زوارة وإعلان الثورة الثقافية، الغريب أن الكاتب كان أحيانا يكتب عن حنين خفي من الكلب الذهبي للحكم الإيطالي مجسداً ذلك في تذكر الكلب لدفيء حضن السنيورة.؟ أتساءل: هل قصد الكاتب نفسه بالذات ام المثقف الليبي بشكل عام عندما أطلق على روايته اسم الكلب الذهبي.؟ وإذا لم يقصد نفسه بالذات لماذا كتب: (كان يرى في كوابيسه جسده معلقاً بمشنقة وذيله مقطوعاً يتلوى بين أقدام الغاضبين، يتلوى محاولاً الهروب كدودة صغيرة يغمرها طوفان الرمل كان يبحث عن صدر السنيورة وعن ذراعيها…) (7) عموما المسخ الذي حدث بفعل الغواية هو الابولوجيا التي دافع بها الكاتب عن نفسه وعن أفكاره، وشرح بها ما تعرض له كمثقف ليبي في فترة من الزمن، وترك نهاية الرواية مفتوحة ربما ليعبر عن استمرار المسخ واستمرار معاناة المثقفين في ليبيا.


الهوامش:

1- أغلفة الكتب عتبات الإبداع التي تأخذ بيد الجمهور للعالم المسحور- مقال نشر في الاتحاد -29-سبتمبر 2016.

2- كتاب سيكولوجية الألوان – الدكتور خالد محمد عبدالغني – الصفحة (26-27).

3- مدونة أ.د عصام محمد محفوظ – كيف نظر المصريون القدماء إلى رأس الكلب – مقال – 21-7-2022.

4- الجزء الأول من – كتاب الحيوان للجاحظ – تحقيق عبدالسلام هارون – الصفحات (94- 173)

5- رواية الكلب الذهبي – الصفحة (3) .6- نفس المصدر السابق – الصفحة131.

7- نفس المصدر السابق – الصفحة 133.

مقالات ذات علاقة

قراءة في نهارات لندنية

المشرف العام

حفر السؤال بإبرة خياطة

المشرف العام

تجارب نسوية في الشعر الليبي

المشرف العام

اترك تعليق