(كُسُوفٌ كُــلِّي) هو عنوان لمخطوط كتاب أنجزه الأديب الراحل يوسف الشريف يضمُّ عدداً من المقالات التي يتناول فيها مواضيع مختلفة، صدّره بعبارة (في الكسوف الكلي تطفيءُ الشمسُ نفسَها ويعمُّ الكونَ ظلامٌ) وأهداه لقاريء يتميز بالصبر على القراءة والتمعن والتدبر، وكذلك بقدرة فهم ليس ما يقرأه فحسب بل ما هو مدسوس بين السطور (إلى الذي يقرأ جيداً ويفهم جيداً).
مساء يوم الأحد الموافق 17 نوفمبر 2019م استضافني الأديب الراحل يوسف الشريف في بيته، وأهداني نسخة الكترونية من هذا المخطوط طالباً مني بكل تواضع قراءته وموافاته برأيء وانطباعي!!! استلمتُ النسخة على قرص سي دي ورجعتُ إلى بيتي وقرأتُ بعض مقالات المخطوط التي استهلها بقوله: (في زمنٍ مضى ومازال حيًّا في الذاكرة وقعت علاماتٌ جلية تنذرنا بأنّ كسوفاً كلياً يوشك أن يكون، وعلينا سد الثغرات، لكننا تغافلنا عنها حتى وقعنا في ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، وما تقرأون هنا ليس من طراز القصص المذهلة أو من ابتكار خيال كاتبها، إنها وقائع كنتم أنتم شخصياتها ورموزها، كان ذلك ليلة الكسوف الكلي عندما أطفأت الشمسُ نفسَها وأطفأتم أنتم أنفسَكم.). وفي خاتمة الكتاب يستبق استعراض فهرس المقالات بعبارة (في هذا الكتاب يمكن أن تقرأ):
1. أرى ما لا ترون.
2. زمن حقيقي.
3. أسطورة الأخلاق الحميدة.
4. إعلان.
5. تجليات.
6. الميدان.
7. درجة الاحتراق.
8. خميسة
9. خطف.
10. وجهي الحقيقي.
11. شباب..شباب.
12. يوم اختلاف العقارب.
13. تصفية.
14. أرض العقارب.
15. من أيام التاريخ.
16. بيع الابتسامة.
17. ماذا حدث بعد كل الذي حدث.
ومن خلال هذا الفهرس نكتشف أن عدد المقالات هو سبعة عشرة مقالاً ذات عناوين متفاوتة ومضامين مختلفة أولها كان جزءاً مقتبساً من قصيدة الشاعر عمر الكدي (أرى ما لا ترون) الذي كادت أن تؤدي به إلى السجن وربما الهلاك! وهو اختيار – فيما أرى- يحمل دلالات وإشارات ورسائل سياسية ووطنية عديدة أراد الراحل يوسف الشريف أن يمررها ويبعثها من خلالها.
ظل مخطوط (كُسُوفٌ كُلِّي) الالكتروني نائماً هانئاً في ذاكرتي، ومخزناً في جهازي حتى هذا اليوم، أرجع إليه أحياناً ولم أشاء أن أثيره من قبل لأسباب عديدة ستتكشف عبر السطور القادمة.
وذات مساء طلب مني الأديب الراحل يوسف الشريف أن أدعو شاعرنا العزيز محمد المزوغي لزيارته ببيته في لقاء ظل منذ تاريخه 1 يناير 2020م يستوطن القلب والذاكرة ولا يفارقهما. وأثناء مغادرتنا محملين بعبق الأحاديث والأجواء المفعمة بالمحبة والبهجة والرقة والعذوبة، وسيولٍ غزيرة منٍ دموعٍ إنسانيةٍ صرفة، مسترجعين ترديده عبارته الاستغرابية وهو يخاطب الشاعر (كيف لم نلتقي من قبل يا محمد؟) وبعدها ابتسم حين طالع بعض نصوصه الشعرية بعجالة وهو يقول له غارقاً في دموعه (هذا هو الشعر .. ووجهك يؤكد أنك شاعر .. وتواضعك وسمُّوك ينمُّ عن صوفية الروح والسلوك). فقلتُ وأنا أقود السيارة بانبساط كبير لرفيقي الشاعر المزوغي الذي كان هو الآخر منتشياً مزهواً بتلك اللحظات: ما رأيك أن نقدم هدية للأستاذ يوسف الشريف؟ فرد مباشرة وبكل لهفة الرغبة اللامحدودة بكلمتين فقط يختصران كل شيء: يا ريت.
هنا أخبرته عن المخطوط الذي معي (كُسُوفٌ كُلِّي) وعرضتُ عليه أن نقوم بطبعه وإصداره ليكون عربون محبة وهدية للأديب الكبير، فوافق شاعرنا النبيل مباشرةً مسروراً وسعيداً مبتهجاً. فوعدته بأن أرسل له ملف المخطوط الالكتروني لمباشرة العمل حسبما اتفقنا عليه. وحين تعرضنا لتكاليف الطباعة وبعض الأمور الفنية الأخرى أخبرته بأني سأتواصل مع صديقتنا الأديبة ابتسام عبدالمولى، التي كانت خارج ليبيا في تلك الفترة، وأناقش معها ذلك. وقد اخترتُ الزميلة ابتسام عبدالمولى لأني أعرف خصوصية علاقتها الحبية الأبوية مع الأديب الراحل وتميزها الفريد.
وفعلاً حدث كلُّ الذي اتفقنا عليه.
أرسلتُ المخطوط في ذات الليلة للأستاذ محمد المزوغي، وباشر التصميم والإعداد والإخراج بالتعاون مع الفنان التشكيلي محمد الخروبي.
وتواصلتُ مع الزميلة ابتسام عبدالمولى التي تطوعت بتحمل تكاليف الطباعة وجوانبها الفنية كاملةً، وطلبتْ مني أن أربطها بالأستاذ المزوغي مباشرة لمناقشة تلك التفاصيل والاتفاق معه عليها.
وهكذا انطلق العمل بتاريخ 2 يناير 2020م بكل لهفة ومحبة وشوق وسرعة لإنجاز كتاب (كُسُوفٌ كُلِّي) ليكون مفاجأة وهدية نزفها للأديب يوسف الشريف، وتوليتُ مع الزميلة ابتسام عبدالمولى الترتيب لذلك، وتحديد التوقيت، والمكان، والاحتياجات، وغيرها مما يتطلبه مثل هذا العمل، خاصة بعد أن أرسل لي الأستاذ محمد المزوغي في اليوم التالي بتاريخ 3 يناير 2020م التصميم المبدئي للغلاف.
ولكن …!!!
كيف نكرِّمُ الأديب ونطبع مخطوطه دون أن يكون لديه علم بذلك؟ فحضوره وتكريمه يتطلب إعلامه مسبقاً، وإخباره بطباعة الكتاب كذلك ضروري جداً، خاصة إذا عرفنا حساسية وصعوبة التعامل مع الأستاذ يوسف الشريف وطبيعته الحازمة الصارمة.
ولأجل ذلك طلبتُ من الزميلة ابتسام عبدالمولى أن تتولى هي إخباره بما ندبر له وما نستعد لتنظيمه. وفعلاً اتصلت به وأخبرته بمشروعنا الطباعي، فسألها من أين تحصلتِ على المخطوط، فأخبرته بكل صراحة أن: يونس هو صاحب الفكرة وهو من زودنا بالملف الالكتروني لطباعته مع الأستاذ محمد المزوغي وتنظيم حفل توقيع خاص بذلك ليكون بمثابة هدية وتكريم من الأحبة، ونحن الثلاثة نتشارك في هذا العمل.
أنهى معها المكاملة الهاتفية بعد أن أخبرها برفضه كلياً تلك الفكرة، واتصل بي مباشرة ثائراً غاضباً معترضاً على فكرتي وصاح في وجهي (أنا أعطيتك الكتاب لتقرأه وتقول لي رأيك فيه فقط .. أما نشره فهو لن ينشر وأنا حيٌّ .. بل بعد موتي)، وأنهى المكاملة!!
تبخرت الفكرة/ الحلم/ الهدية.
توقف العمل.
قضي الأمر.
انتهى كل شيء.
صدمة كبيرة لثلاثتنا. تأسف الأستاذ المزوغي وأحس بأن هدية كبيرة كان بإمكانه تقديمها لحبيبه الأديب يوسف الشريف قد ضاعت. صمتت ابتسام بعد محاولاتها وإلحاحها لثنيه عن قراره. أما أنا فقد واجهتُ إعصاره الهادر بخرس مطبق وابتلعتُ كل حُججي ومحاولاتي الفاشلة لإقناعه بقيمة العمل.
وهكذا عاد مخطوط (كُسُوفٌ كُلِّي) لينام مجدداً في خزانة الغيب، ولم أعد أذكره حتى صباح يوم الأحد الموافق 6 مارس 2022م حين أقامت جامعة طرابلس احتفالية تسليم شهادة الدكتوراة الفخرية لعشرة من الأدباء والكتاب هم: علي مصطفى المصراتي، عبداللطيف الشويرف، أحمد عاشور أكس، خالد زعبيه، راشد الزبير السنوسي، أحمد نصر، مرضية النعاس، سالم الكبتي، عمار جحيدر، مفتاح العماري، حيث كنتُ حاضراً مع الأستاذة ابتسام عبدالمولى ولفت انتباهنا أن الأديب يوسف الشريف لم يكن من ضمن المكرمين رغم أنه خريج جامعي من قسم الاجتماع بكلية الآداب، وموظف سابق بكلية العلوم، وأهدى مكتبته إلى كلية الآداب.
تناقشنا بكل أسف ومرارة حول عدم وجود اسمه ضمن المكرمين، واتفقنا على البحث عن جهة أكاديمية أخرى للتعاون معها لتنظيم حفل تكريم يليق بالأديب الكبير الراحل يوسف الشريف وعلى هامش التكريم تتم طباعة مخطوط (كُسُوفٌ كُلِّي). وفعلاً التقيتُ برفقة الزميلة ابتسام عبدالمولى بأستاذة جامعية بإحدى المؤسسات الأكاديمية بطرابلس وعرضنا عليها الفكرة فصدمتنا أنها لا تعرف أحداً من الأدباء باسم يوسف الشريف رغم أنها متخصصة في النقد الأدبي وتدرِّس بإحدى المؤسسات الأكاديمية، فانسحبنا منها بكل هدوء .. وحسرة وألم.
وهكذا رجع مخطوط (كُسّوفٌ كُلِّي) هذه المرة مستريحاً في خزانة الذاكرة، وكذلك في ثنايا جهاز الحاسب الآلي، وأيضاً بين أروقة دار النشر المزوغية (إمكان) حتى جاء عتاب ولوم صديقنا وحبيبنا وأستاذنا حسن الأمين بخصوص قلة التفاعل مع إدراجه بصفحة السقيفة الليبية على الفيسبوك الخاص بالأديب الراحل يوسف الشريف، لأستذكر هذا المخطوط مجدداً وأسرد قصته لعله يرى النور على يدِ بعضِ أحبته أو أفراد أسرته أو رفاقه وصحبه الأخيار.
رحم الله فقيدنا الأديب الكبير يوسف الشريف، واسمحوا لي أن أغتنم هذه الفرصة لتقديم أسمى آيات الشكر والتقدير لكل من الشاعر المتألق والصديق العزيز الأستاذ محمد المزوغي، والأديبة الصديقة العزيزة الأستاذة ابتسام عبدالمولى على ما بذلاه من جهد في تلك المحاولة لإصدار (كُسُوفٌ كُلِّي) التي لم يكتب لها النجاح، وليعذرنا أستاذنا وصديقنا وحبيبنا حسن الأمين على تفريطنا في حق أدبائنا، وعجزنا في ظل هذا الزمن البائس بأن نفيهم حقهم ونسدد بعض الدين لهم. ولكم جميعاً وافر المحبة والامتنان.
طرابلس في 29 يوليو 2023م