خديجة مسروق | الجزائر
للأدب الليبي حضوره المميز بين الآداب، ولا سيما الرواية الليبية التي فرضت وجودها عربيا ودوليا بفضل أسماء رائدة اقتحمت ميدان التجريب الروائي، والمغامرة السردية.
الروائية الليبية عائشة الأصفر، لها بصمتها الخاصة في الكتابة الروائية. تتميز كتاباتها بالتنوع والتجدد، كل نص لديها يختلف عن النص السابق لغة وأسلوبا، وشكلا ومضمونا. آخر نص روائي لها بعنوان “إيشي” مكتبة طرابلس الليبية العالمية 2023.
الروائي الليبي مهووس بالصحراء، وبالكتابة عن الصحراء، يبدو كأنه جزء منها وهي جزء منه والروائية عائشة الأصفر في روايتها “إيشي” تغوص في الرمال، في عمق الصحراء لمعرفة أسرارها. الصحراء بأساطيرها وبخرافاتها، وبعاداتها وبطقوسها. تتحدث الأصفر عن الصراع الوجودي في هذا المكان الذي يشكل خصوصية بالنسبة لها.
“تعرف يا صديقي لماذا نقش التاريخ أسراره على الجبال؟ لأنه لا يثق بالرمل.. يزعم أن الرمل لا يصمد أمام الريح .. الرمل جبان وخائن” ص 240. “إيشي” تقول الروائية هي تاريخ ليبي بامتياز، تحكي عن تاريخ ليبيا في مرحلة سابقة، عن التطاحن الذي وقع بين أبناء ليبيا فتمكن من تمزيق الوحدة الوطنية وفتح الباب مشرعا للطامعين، تكالبوا على ليبيا، لنهب خيراتها وسرقة كنوزها، تحكي عن سر وسحر الصحراء.
شخصيتان رئيستان داخل الرواية، يتبادلان أطراف الحديث في حوار طويل، على متن حافلة. الحافلة تنطلق من طرابلس باتجاه سبها. الشخصيتان هما، أحبيب وإيشي، يسردان حكاية معاناتهما في مجتمع صار فيه القوي يأكل الضعيف.
أحبيب عاش في شارع 40، هذا الشارع الذي جمع كل المتناقضات، الخير والشر، عائلات فقيرة وأخرى غنية، عادلون وظالمون. كانت كوثر السلامي الحقوقية تسكن هذا الشارع، لا تفارقها ملفاتها القانونية، وفي الوقت نفسه، كانت تمارس جبروتها على الخادمة إيشي، وتصدر أوامرها عليها من دون شفقة. من بين الذين ينتسبون إلى هذا الشارع أيضا توكة الظالم، والمهربين أمبية، وأخاه أحواس.
أحبيب له مقدمة تشبه مقدمة الديك. شكله الغريب جعل الناس ينفرون منه، كان أبوه يكرهه، ويسخر منه دائما. لاقى أنواعا من الذل والإهانة من توكة المتجبر، تلك المعاملة جعلته يفكر في الانتقام منه، ليتخلص منه ويخلص الناس من شره.
إيشي أستاذة تاريخ، تزعم أنها أثيوبية، تسللت إلى ليبيا عبر الصحراء هروبا من بطش الجماعات المرتزقة، الذين كانوا يتربصون بها. تهزمها الظروف، وهي الجامعية أستاذة التاريخ تعمل خادمة في البيوت “لا أحد يولد خادما.. كما لا أحد يأتي إلى الدنيا وعلى رأسه تاج ملوك.. القوة تستطيع ذلك” ص 146..
اشتغلت خادمة عند كثير من العائلات الليبيبة، عرفت أسرارهم وخصوصياتهم “أنا وقفت على أسرار الأثرياء والنواب، والسواقين، والكوافيرات، وسيدات النخبة” ص 168.. منها عائلة توكة التي خدمت أفرادها بتفان، كان أحبيب يحب الحديث معها، لأنها لا تسخر من شكله. وتشفق عليه كثيرا، لأنها ذاقت الذل وجربت الإهانة، فنظرة الناس للخدم تختلف عن نظرتهم للأسياد.
إيشي وأحبيب رغم كل شيء يحافظان على كرامتهما، لا يسمحان لأحد أن يسلبهما شرفهما، “نحن نسامح في اعتلاء كل شيء.. كل اعتلاء هين.. إلا اعتلاء ظهورنا، نسامح في أي سرقة إلا سرقة الشرف” ص 227.
كانت إيشي متجهة إلى مرزق، للقاء صديقتها عائشة الباكوري لتتعرف عليها عن قرب، بعد أن كانت تتابع صورها على المحمول. أحبيب يبحث في ذاكرة جده، يسترجع ما حكاه له عن عائلته، عن ابنه الذي أسماه على أحد زعماء ليبيا الشرفاء تيمنا به، غير أن توكة لم يأخذ من هذا البطل إلا اسمه. حكايات جده تحتمل الصواب وتحتمل الكذب، لأنه متهم بالزمهرة.
إنه ذاكرة سبها، خرف الجد وما خرفت ذاكرة سبها. سبها تحفظ تاريخها جيدا “ترحل المدن دون أن تبدل مكانها.. تعالوا زوروا مدينتي قبل أن ترحل، قبل أن تجلم ضفائرها المعقوصة على الحكايا، تتسلقها ابتسامات الصغار، تستكشف الوشم الأخضر، تعالوا قبل أن يسرق لصوص الليل فنار العلية، التقطوا لمدينتي الصور شامجة ومشرئبة” ص 70… الجبال وحدها تحفظ التاريخ، فذاكرة الرمل خائنة وجبانة.
تتخلص إيشي من عقدة الانتماء. من الولاء لتراب لا يحفظ لها كرامتها. فهل حقا الصحراء تأكل ملكاتها، وتكتب عليهن بالفناء خادمات؟. الصحراء ضاعت عزوتها وعزوة أبنائها يوم استباح الطغاة حرمتها، وسلبوها شرفها وسلموه للأعداء بلاثمن. يقول أحبيب “تهريب النفط رفع طوابق بيتنا.. وصندوق الذخيرة، منحتنا سورا وخادمة، لن أترك الوقود لتوكة ومرتزقته، يكفي استفردوا بالحدود وجبل الذهب” ص 245.. أحواس وأمبية وتوكة اشتغلوا بالتهريب. كان أحبيب مستعدا للانتقام من توكة الذي كان يستنزف خيرات البلاد والثروات العامة لمصلحته الخاصة، تجبر واستقوى، فتسلط على الجميع.
لماذا يشكك الناس في صحة ما يحكيه الجد؟ لماذا يتهم بالزمهرة؟ هناك من تؤذيه ذاكرة التاريخ، فيشكك في مصداقيتها، ويقيم عليها حظرا بالمرة. كثيرون هم الذين لا يحبون ذاكرة الجبال القوية والصادقة.
عائشة الباكوري تحدثت عنها إيشي كثيرا في حوارها مع أحبيب، من دون أن تكشف له سر هذه الشخصية، كانت تذكر فقط أنها تشبهه كثيرا .
إيشي تمضي في البحث عن ذاتها التائهة. إيشي هي عائشة الباكروي، تنقلت عبر رحلة معقدة للبحث عنها. غاصت في عمق الصحراء وامتزجت بحبيبات رملها، حملتها الرياح حفنة متماسكة لتضعها على قمم الجبال الشاهقة، لتعيد لها شموخها وتحفظ لها تاريخها على مر العصور..
ركزت الأصفر في الرواية، على المكان من أجل استنطاق شخصياته، التي ارتبطت به ووقفت على جغرافيته لتقرأ سجله التاريخي المكتوب على تضاريس صحرائه. الصحراء هي التاريخ، هي القوة والصلابة والكفاح، إذا أردت أن تعرف تاريخ شعب انزل إلى صحرائه.
الصحراء بأسرارها وبعجائبها تمارس غوايتها على الروائية، فراحت تعزف كلماتها تلقائيا، بلغة شاعرية تطرب لها كل نفس ذواقة للأدب الأصيل.
اللغة المجازية التي استعملتها الروائية كانت مناسبة لسردية الرواية. وكل الدلالات الرمزية التي وظفتها تكشف عن صور الفساد الذي عرفته ليبيا في حكم القذافي، وعن الثروات المهدورة غدرا من قبل أطراف لا تعنيهم سوى مصالحهم الشخصية.
الرواية في ثلاثمائة صفحة، الوصف التفصيلي جعل السرد بطيئا، عرقل تطور الأحداث وكأن الحافلة التي تقل إيشي وأحبيب لا تتحرك من مكانها، ومع ذلك كانت الروائية في كل فصل وفي كل مشهد تجدد سرديتها، ما يؤكد لنا كقراء بأننا أمام نبع معرفي متدفق.
تفوقت الأصفر في تصوير شخصياتها من الناحية المعرفية والنفسية والشكلية. وظفت ثقافتها لخدمة السرد، شحنته بطاقات فنية متنوعة، ومكونات ثقافية مختلفة منها الأسطورة والخرافة والشعر واللغة الشعبية، كل ذلك يحيل إلى خلفيات لها دلالتها التي تتعلق بمفهوم الانتماء. تبحث عن الذات في ذاكرة لها امتدادها في عمق التاريخ، البحث في ذاكرة الصحراء.
الغد | الثلاثاء 25 يوليو 2023م.