المقالة

جذور النظام المغلق

من أعمال التشكيلية الليبية إسراء كركره
من أعمال التشكيلية الليبية إسراء كركره

يتسم النظام المغلق بالعودة إلى أصل بعيد، فما وافقه يقبله وما تعارض معه يرفضه. هذا من الناحية الابستمولوجية المعرفية، ولكنه يرفض الجديد أيضا ولو توافق مع نصوصه المعتمدة، بسبب شبكة العلاقات الوطيدة بين ركني النظام السياسي والديني، لذلك رفض النظام كتاب الشيخ الأزهري علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الصادر العام 1925، كما رفض بعده بعام كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي».

يقف الشاعر الجاهلي على الأطلال منتحبا لأنه يحن إلى ذلك الأصل البعيد، الذي عليه الإذعان له، فليس له ما يضيف، أو كما قال عنترة بن شداد في معلقته «هل غادر الشعراء من متردم.. أم هل عرفت الدار بعد توهم». فعنترة يقول إن الشعراء استنفدوا كل المعاني ولم يعد له ما يضيف. ثمة تطابق بين بيت الشِعر في القصيدة وبيت الشَعر الذي يعيش فيه البدوي، بل إن الكلمات التي تستخدم في بناء الخيمة انتقلت إلى النقد الأدبي، مثل الإقواء والإيطاء والإطناب، والقصيدة مرجلة ومحجلة مثل الخيل، كما يلقب كبار الشعراء بالفحول.

الرجوع إلى الأصل هو ما وسم الفكر والوجدان العربي، فقد تعودت القبائل العربية التي تعيش في المدن، على إرسال أطفالها الرضع مع نساء البادية، حتى يتعلموا اللغة من أصولها البدوية، وظل هذا النظام ساريا حتى في العصر العباسي، فالمتنبي أمضى طفولته المبكرة في البادية بعيدا عن الكوفة، وعندما سئل الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض وأستاذ سيبويه، من أين أتيت بعلمك هذا؟ فأجاب من بادية نجد وتهامة، وفي حديث نبوي رواه ابن عباس، أن الرسول قال «إذا التبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر فإنه عربي». يقصد الشعر الجاهلي.

يستند الفقه الإسلامي على مبدأ «قياس الشاهد على الغائب»، أي أن هناك نموذجا ما يقاس عليه فما وافقه يُقبل، وما خالفه يُرفض، ربما لهذا السبب اعتمد الشعراء الجاهليون على التشبيه أكثر من الاستعارة والكناية، وعندما وُضع علم البيان عرَّف التشبيه بأنه مقارنة بين شيئين يمتلكان صفة مشتركة، ولكن أحدهما أقوى في هذه الصفة مما يجعله في مقام المشبه به، والطرف الآخر هو المشبه، وتربط بينهما أداة التشبيه، أي أنه النظام نفسه. في العصر العباسي سنلاحظ عند الشعراء، خاصة في مدرسة البديع التي مثلها أبوتمام، الاتكاء على الاستعارة والكناية أكثر من التشبيه، ولكن تلك الثورة في مختلف الحقول سرعان ما طواها النظام المغلق، ففي عصر الانحطاط عاد الشعراء إلى التشبيه.

عندما كان جابر بن حيان خيميائيا سعى إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة، أي الذهب والفضة، فالذهب هو المشبه به والمعادن الخسيسة مثل الحديد والنحاس والقصدير هي المشبه، ولكنه عندما أسس قواعد علم الكيمياء غادر النظام المغلق، ليتمكن من تحضير الصودا الكاوية، وتمكن من فصل الذهب عن الفضة بواسطة الأحماض، ويعتبر أول من حضر حمض النتريك، ولكن حراس النظام المغلق وعلى رأسهم ابن تيمية حرم علم الكيمياء، باعتباره تشبها بالله بتخليق مواد جديدة لم يخلقها الله، ولجأ ابن تيمية إلى السلاح القديم، باعتبار أن الأنبياء وعلماء الدين والصحابة والتابعين لم يشتغلوا بالكيمياء، أي أن النظام تمكن من إغلاق الكوة التي فتحها ابن حيان، لكنها اتسعت في أوروبا عندما ترجموا مؤلفاته، وعرف هناك باسم جبير.

تبنى الفلاسفة المسلمون، وعلى رأسهم الوليد بن رشد، المنطق الأرسطي، باعتباره قواعد للتمييز بين الصواب والخطأ، بالرغم من أن الترجمة غير دقيقة، ففي اللغة اليونانية والأوروبية المنطق هو اللوغوس، أي القواعد العقلية، بينما في اللغة العربية يشير إلى النطق، أي إلى البيان والفصاحة، وعندما حاول ابن رشد تطبيق قواعد المنطق الصوري على الشريعة، هب حراس النظام المغلق واتهموه بالكفر. ووجد نفسه معزولا في بيته في إقامة جبرية، بينما لقبه الأوروبيون الذين بدأوا في مغادرة نظامهم المغلق بالشارح الأكبر، وبالرغم من أن النحو العربي يستند على قواعد منطقية، إلا أن المناظرة التي نقلها أبوحيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، بين المنطقي يونس بن متى، والنحوي أبي سعيد السيرافي، تعكس البون الشاسع بين المفهومين، بالرغم من أن السيرافي معتزلي إلا أن النظام المغلق جرفه، ربما لأن النظام استعار مصطلحاته من بيئته، فكلمة عقل تشير إلى التقييد. عقل البعير أي منعه من الحركة، وكلمة ثقافة اشتقت من ثقف الرمح أي أصلح اعوجاجه، وكلمة الأدب اشتقت من التهذيب، أي التقييد والمنع وليس الحرية، وكلمة عرب تحيل على الوضوح والبيان، وكل ما هو عكس ذلك فهو أعجمي غير مفهوم، أي وجود نموذج يقاس عليه.

حاول المعتزلة فتح النظام المغلق عندما قالوا بخلق القرآن، ولكن حرس النظام اعترضوا وقالوا إن القرآن كلام الله. حجة المعتزلة هي تنزيه الله عن الصفات، وعندما يكون القرآن مخلوقا يسري عليه ما يسرى على المخلوقات، ويمكن بالتالي إيجاد سبل مختلفة لتأويله وتفسيره، ويصبح قابلا لكل زمان ومكان.

هذا النظام مغلق حتى في الاقتصاد، فهو لم ينتج نظاما إقطاعيا قد يفضي للنظام الرأسمالي، كما حدث في أوروبا واليابان، بل أفضى إلى نظام ريعي شبه إقطاعي ظل يكرر نفسه حتى مجيء الاستعمار، ومعظم الثروات التي تكونت في ظل هذا النظام، إما بسبب الغنائم، وخاصة أيام الفتوحات، أو بسبب عطايا الخلفاء وجميعها اندثرت، ولم يبق إلا الاقتصاد الاكتفائي أي الذي يكفي للحياة ولا يكفي للتراكم، وها هو الاقتصاد العربي بمجمله يعتمد تقريبا على الاقتصاد الريعي، ليس فقط في الدول المصدرة للنفط، بل حتى في الدول المصدرة للعمالة التي تعتمد على الاقتصاد الريعي من خلال تحويلات العاملين.

عندما تخلص العلماء المسلمون من سطوة النظام المغلق، تمكن ابن الهيثم من وضع التفسير العلمي للرؤية بالعين، وتمكن ابن النفيس من اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، وتمكن ابن سينا للمرة الأولى من اكتشاف العدوى وكيفية انتقال الأمراض، وهو أول من ميز بين الجدري والحصبة، لأنه لم يعد يخضع لمبدأ التشبيه، وظل كتابه القانون في الطب معتمدا في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر، ومع ذلك لا يزال حراس النظام المغلق يؤكدون أن ابن سينا كافر، مثلما يؤكدون أن الدكتور مجدي يعقوب لن يدخل الجنة، ويؤيدون حكم المحكمة بتطليق زوجة الدكتور نصر حامد أبوزيد لأنه كافر. في هولندا البلد الصغير الذي يسكنه 17 مليون نسمة فاز منهم 22 بجائزة نوبل في العلوم والاقتصاد، بينما أمة يبلغ عدد سكانها 423 مليون فاز منهم أحمد زويل بجائزة نوبل في الكيمياء، بعد أن غادر النظام المغلق وهاجر إلى الولايات المتحدة.

لا أجد فرقا جوهريا بين الفقهاء المتزمتين والطغاة الذين ظهروا في هذا النظام. يدعي القذافي أنه أتى بفكر جديد في كتابه الأخضر. في الحقيقة هو ابن أصيل لهذا النظام، فكتابه احتوى على الحلول النهائية لمشاكل البشرية كافة، وبالتالي لا داعي للاجتهاد، فكلما واجهتنا مشكلة نعود إلى النص. كنت أستغرب من مثقفين عرب كبار عارضوا صدام حسين فلجأوا للقذافي وحافظ الأسد، وأيضا من عارض القذافي لجأ إلى صدام حسين. لا بد من تفجير هذا النظام معرفيا من داخله، وإلا فإنه سيبقى مهما تفجرت من ثورات في الشوارع، فبعد أن تهدأ الأمور يعود النظام نفسه بوجوه مختلفة ليفرض سطوته، وهو على استعداد لارتكاب المذابح أو ممارسة الإرهاب للدفاع عن مكتسباته، وما هذه التنظيمات المتطرفة إلا وجهٌ آخر من وجوه النظام المغلق.

مقالات ذات علاقة

امتحانٌ.. في شهر رمضان

المشرف العام

حرية التعبير .. وسلطة الدولة

المشرف العام

ثقافة الصورة لا تتناقض مع ثقافة الكلمة

المشرف العام

اترك تعليق