قراءة في قصيدة “حبة بندق”
توفيق عياد الشقروني
توطئة
عند تصفحي للفضاء السحابي الأزرق، مرت بي قصيدة “حبة بندق”، وقفزت الى ذهني، وأنا أقرؤها، جملة الأفكار والهواجس والانطباعات التي تدافعت وتزاحمت، وهي تنطلق من أرضية فكرية واجتماعية، زمانية ومكانية تحكم كياني كقارئ مهتم أحيانا، ولا مبال أحيانا أخرى، دونت بعضها وسجلت التساؤلات التي تجمعت، مثل صياد وضع صنارة في محيط المعاني والألفاظ، التي احتواها النص في سطوره الأربعة عشر، دون ربط أو استحضار – لأي علاقة من قريب أو من بعيد – لأفكار أو قصدية الكاتب، وما تبادر إلى ذهنه عند لحظات الكتابة، أو ما تراكم في نفسه من معاني، لتخرج منه هذه الكلمات، ويوقعها باسمه، كنص أدبي في قالب قصيدة شعرية حرة،
ولما كانت مناهج النقد الفني واللغوي لها أصولها وميدانها وفرسانها، – وأنا لست واحدا منهم – فقط اقرأ هذه القصيدة على مقدار من معرفتي المتواضعة بالمنهج الدلالي والمنهج التداولي (وهما من مناهج التحليل الأدبي)، في محاولة لاستنطاق النص في سياق الواقع الذي نعيشه ويحيط بنا، ببعديه الزماني والمكاني، رغم إدراكي أن البعض سوف يستغرب أو يستهجن ما سوف أقول، حيث كلامي في مناقشة النص ينطلق من فكرة أساس تعتمد على ما يعرف بمصطلح ” موت المؤلف” الذي دعا إليه اللغوي والناقد والفيلسوف الفرنسي “رولان بارت” في مقالاته، ودعوني أوضح هذه الفكرة بشكل صريح، وهي اعتبار المؤلف يموت بمجرد نشر عمله، أي النص يصبح ملكًا للجمهور ويتم تفسيره وفهمه بطرق مختلفة تبعًا لخلفيات وثقافة وتجارب القارئ.
القصيدة
#حبةُ_بندق
يمكنني أن أكون عَرَّافة
أقلِبُ رأساً على عقب أحلامَ الحالماتِ بكَ
أدْخُلُ زوبعةَ شكٍ في فنجانِ عشيقاتِكَ
امسحُ عن كفوفهن ملامحَ اقترابك
أزرعُ في خُطَاهُنّ صَوْبَكَ الندم
أُخبِرُهُنّ عن آخَرَ آتٍ بقوافلَ مُثقلةً بالفرح
وأدلُهُنّ على طريق لا تؤدي إليكَ
يمكنني أن أكون جِنِّيَةً أو عفريتة
أحرسُكَ كتميمةٍ حياتي رهنُ بقائها
أطردُ عن ذاكرتكَ أطيافَ الأخريات وأسكنُكَ.
يمكنني أن أكونَ سلاحَكَ المملوء بالذخيرة
ضِمادة جُرحِك
فكرتكَ الجادة بالهرب
خطتكَ الناجعة للخلاص
يمكنني أن أكون كأسُكَ وسجارتكَ وحبة بندق
أريكتك.. وسادتك
سجادةُ صلاتك
ويمينكَ التي بها تشتري الثوابَ من عُمّال النظافة
نعم.. يمكنني أن أحبكَ
أيمكنكَ أن تكون ساحراً أو مارداً.. أو لصاً؟
قلمٌ وأحمرُ شفاهٍ حار؟
هودجّ من نور على صهوة عصفور يجوبُ بيَ قلبكَ؟
قراءة النص ولا شيء غير النص
يتحفنا النص بجملة من أدوات اللغة وإن شئتم أسلحتها من التشبيه، والمجاز، والصور الشعرية، مستخدما ما وصل ليديه من ذخيرة الأفعال بكل أزمنتها، والاسماء والضمائر، وجملة من التراكيب الجمالية المختلفة، تعبيرًا وتصويرًا، لتحفيز خيالنا إلى أقصى مدى.
أُستهل النص بعبارة (يمكنني أن أكون) وتكررت 4 مرات، لتمزج بين شيئين مختلفين: حيث “يمكنني” تفيد الاحتمال و”أن” تفيد التأكيد فالنص يخبرنا عن كائن ليست لديه مشكلة وجودية، [يكون أو لا يكون]، بل هو مخلوق قادر. يتحول لما يشاء، ليجسد كل معاني القوة والحضور الطاغي، وإرادة الفعل والتكوين، دعوني أعيد قراءة التالي من العبارات:
يمكنني أن أكون عَرَّافة | يمكنني أن أكون جِنِّيَةً أو عفريتة |
يمكنني أن أكونَ سلاحَكَ | يمكنني أن أكون كأسُكَ |
هنا تتجسد كينونة من الأفعال تتحول الى “عَرَّافة” و “جِنِّيَةً” و”عفريتة”، قادرة على التشكل والتلون والإيذاء، ثم تتحول هذه الكينونة إلى سلاح يجسد الحرب والدفاع والقتال وكل تلك المعاني المفعمة بالقوة والهجوم من أجل ذاتها. وفي خضم هذا الكينونات المتحولة التي تطل بكل العنفوان، ولعلها عنجهية، نجدها تستعمل من الأسلحة اللغوية من أدوات الأفعال الأقوى حضورا، حيت تقفز علينا رشقات ملتهبة من الأفعال:
يمكنني أزرعُ أطردُ أدْخُلُ امسحُ
أقلِبُ أُخبِرُ أسكنُكَ أدلُهُنّ أحرسُ
لتعلن الحرب بدون هوادة على الكينونات الاخرة، وهنا تبرز ثنائية الآخر العدو ضد الأنا المتمكنة الفاعلة، التي تجيد تكرار أفعال التأكيد بكل ما اعطتها اللغة من قوة.، حيث تتكرر أداة التوكيد “أن” كل مرة لتزيد من ذاتها المتضخمة في قوقعة الأنا المزمنة.
أن أكون عَرَّافة. / أن أكون جِنِّيَةً أو عفريتة، / أن، أكون، سلاحَكَ، / أن، أكون، كأسُكَ، / أن، أحبكَ، /أيمكنكَ أن تكون ساحراً.
بعد خمس توكيدات لصالحها تتفضل على “الآخر الرجل” بواحدة يكون فيها ساحرا، ذلك الساحر الشرير المتلون المخادع الذي يقلب الحقائق ويقدم الوهم لمن حوله.
وعلى الرغم من كون هذا الهجوم الانفعالي موجه في ظاهره نحو الآخر الرجل، ولكن واقع حال المتفحص يلاحظ أن الكينونة المهاجمة تتوجه نحو ذاتها النسوية في حالة من التناقض العجيب حيث تقصد الاخريات المنافسات المتجمهرات حول الحبيب الرجل، لتضع الرجل في قفص الخيانة وتحمله كل العيوب، فهي تواجه حربها لهن تلكم “الحالماتِ”، “العشيقاتِ”، “الأخريات” من خلاله هو، كحلقة محورية تدور في فلكه، دون اعتراف منها بذلك. في تقابل عجيب حيث تجعل من الآخر الرجل واجهة الصراع مع الأخريات أي مع ذات الكينونة النسوية، التي تنتمي إليها.
وتتناقض هذه الكينونة مع نفسها كل مرة، بالرغم من هذه القوة الظاهرة في جملة أفعالها وتحولاتها، “الجنية العفريتة” القادرة على قلب الأشياء من حوله، ثم تعود لتناقض ذلك كله، بأن تنزل الى أدنى مستويات انعدام الكينونة، لنشاهدها في حالة ضعف تغمس فيه كبرياءها الموهوم، لتقدم له روحها في قوالب عدة؛ لأجل نيل رضاه “الآخر الرجل”.
لنستمع إلى وقع هذه الكلمات:
(أحرسُكَ كتميمةٍ حياتي رهنُ بقائها/ سلاحَكَ المملوء بالذخيرة، / ضِمادة جُرحِك، / فكرتكَ الجادة، / خطتكَ الناجعة للخلاص، / كأسُكَ وسجارتكَ،/ وحبة بندق،/ أريكتك،/ وسادتك،/ سجادةُ صلاتك،/ ويمينكَ التي بها تشتري،).
نجد هنا أحد عشر موقعا تحولت إليهم هذه الجنية العفريتة حتى تخبر “الآخر الرجل” بأنها مستعدة للتنازل لأجله، حيث يتلاشى كل ما سبق من كينونة الأفعال الممتلئة بأن التوكيد، ولم يعد لها أي خيال يدل عليها.
ويظل عدم الاعتراف بهذا النزول شعور كامن في عمق ذاتها لتعود وتعلن أنها مستعدة بقرار منها؛ قرار تلك الكينونة الأولى الفاعلة القوية، حيث تقول:
نعم.. يمكنني أن أحبكَ
وهنا يصبح الحب قرارًا، تصدره سلطات الجنية العفريتة، وعلى الآخر “المسخ” أن يُقبَّل يديها موافقا على قرارها، حيث لا مجال له من الرفض، فهو ليس ندا لكي يقرر مبادلتها ذلك الحب، بل عليه التنفيذ، حيث تواضعت هي وقررت ” يمكنني أن أحبكَ” ولا كلام بعد قرارها.
الآخر المسخ
لا شك انه وصف شديد اللهجة، أخرجه النص في قالب خفي من العبارات الرنانة، رغم كمية التمويه، التي تعلو هذا الوصف، إلا أنه يقفز للظهور كل مرة، كيف ذلك؟ لنعاود القراءة، ونتتبع ما أطلقته الجنية على “الأخر الرجل” من صفات في ظاهر النص وبواطنه:
- الخائن الممتلئ الذاكرة بالأخريات، (أطردُ عن ذاكرتكَ أطيافَ الأخريات).
- الجريح الذي لا حول له (ضِمادة جُرحِك).
- الضعيف الهارب، (فكرتكَ الجادة بالهرب).
- التائه عنه نفسه، الباحث عن الخلاص، (خطتكَ الناجعة للخلاص).
- المخمور الممسك بشرابه ولفافات السجاير (كأسُكَ وسجارتكَ)
- المهووس بحبات البندق الأنثوية (وحبة بندق).
- الخامل على سرير الشهوة (أريكتك.. وسادتك)
- المشبوه في دينه ولا نعلم ماهية صلاته (سجادةُ صلاتك)
- المنافق الساعي الى المغفرة الأبدية (ويمينكَ التي بها تشتري الثوابَ من عُمّال النظافة)
- المجهول الهوية من كل أنواع الشرور. (أيمكنكَ أن تكون ساحراً أو مارداً.. أو لصاً؟)
لنجد بعد هذه [المعاني العشرة] أمام صورة الآخر المسخ، [ولا يليق به غير ذلك]، حكما منها عليه، حيث ذبحت العدالة وكسر ميزانها تحت قدمي حضورها وجبروتها وأحكامها المطلقة، لكل ما هو آخر مختلف.
وفي خضم كل ما سبق يأتي التحول الأخير لتصبح جارية وغانية وعشيقة، حيث تتناثر هذه الكينونة المتحولة لتصبح سيجارة، وكأس نبيذ وأريكة ووسادة وطء. فهي ذات أنثوية بامتياز، لم تغفل عن دور حواء الأول، لا كي تمارس دور الخلود وحفظ النوع البشري، بل لتلعب دور الغانية الماجنة الغنوج، تمارس أدوار العشق رغم خصوصيتها، التي يظهرها النص بدون أدنى مواربة، وكأنها تريد إخبارنا تلك الجنية العفريتة، قدرتها على اللعب فوق كل الخطوط الممنوعة، في وسط ترفضه، وتعلن الثورة عليه، في كل فرصة لتصدح بموقفها. ثم تهجم الكلمات المفعمة بالرومنسية السريرية في أوضح صورها، وأخشى خدش حيائك سيدي القارئ، فدعنا نهرب من هذه العبارة: [قلمٌ وأحمرُ شفاهٍ حار؟] ولا نقف عندها.
لكن تمرير المواقف يستمر، ويتحفنا النص بعبارة تتلون في السياق الغزلي الشهواني، لتمرر رسالة مجتمعية في غاية الجرأة، وإن شئتم الخطورة، تعبر عن الكثير من الرفض المجتمعي، لتحكم كهنة المعبد أو لنقل رجال الدين، في إعطاء التبريرات الذكورية لتمكين سيطرتهم على الأخر الأنثى.
لنقرأ من جديد: [ويمينكَ التي بها تشتري الثوابَ من عُمّال النظافة].
ونحاول أن نحرر العبارة من محيطها القريب، لنقرأها في بعدها الأرضي الفسيح، حيث يتوجه الناس كافة لطلب الثواب من آلهة مختلفة، وفق هواه وإيمانه ومعتقده، ولكن تلك العرافة المتحولة مازالت تصر على الانتقاص من الآخر الرجل المسخ الحبيب، حيث يضيع وقته وأمواله في شراء الثواب بعد كل المعاصي التي ألصقتها به. من عمال النظافة الذين أقحموا هنا إقحاما مجحفا وظالما، فهم لا حول لهم ولا قوة، حيث أرادت العرافة التهجم على مندوبي الإله. رجال الدين، كهنة المعبد، الصالحين، والدراويش. بل عمال نظافة أيضا، فلعل قلوبهم أنظف من الجميع حيث يزيلون أوساخ غيرهم.
وفي الختام يقف بنا النص على قمة الطغيان ولتعود كينونة التعالي الأنثوي للظهور بعد كل ذلك السقوط لتعلن أنها:
[هودجّ من نور على صهوة عصفور يجوبُ بيَ قلبكَ؟]
الجنية الآمرة الناطقة، تدعو الآخر [الحبيب] أن يكون مسكنًا لها “الهودج النوراني” فهو لا يعدو كونه مسكنًا يأويها ومنتزها يطوف بها، هي تطلب لتطاع، تريد قلبه، ولم تتنازل لتحبه إن شأت؟
أبدا لم تدعه ليكون رفيق درب،
أبدا لم تصفه بكل جميل ليستحق أن يكون ندا لها، يشاركها الحب،
أبدا لم تقل أنه يستحقها أو تستحقه،
أبدا لم تخبرنا أنها نصفها الآخر الذي يكملها وتكمله.
يبدو أنى أثقلت عليكم وأثقلت على النص وعلى كل جنيات الأرض.
أعتذر عن عدم إظهار ذات الشاعر/ة بذكر الاسم؛ وذلك اتساقا مع منهجنا في موت المؤلف. شكرا لمبدع/ة هذا النص: الغني بالمعاني والمليء بالمواقف والقناعات، الثري بالمفردات.
وإلى اللقاء مع نص جديد.