نسرين بلوط | لبنان
قد يلسعُ قلمُ الشاعر صميمَ بيئته الانطولوجيّة التي يخترعها بمزاج الانطواء النفسي ثمّ يحرّرها من سلاسل التبعية والذاتيّة، ويخترق من خلالها أجساد الترسّبات القاعيّة لهمومٍ وشجونٍ هي مخزون النفس البشريّة التوّاقة للنور والحريّة.
وقبل الارتحال إلى السحر الآسيوي الذي يتدفّق شلّالاتٍ من أرواح مترنّحة، قادرةٍ على أسر الروح في دوّامة الابتكار، يطالعنا اضمحلال الوجود الذي يفني كلّ البشريّة من دون تحديد لغة أو عرقٍ أو دين، في انفتاحٍ متوازن لفلسفة الميتافيزيقيا التي تسخّر الموتَ وماورائياته والعدم وتحليلاته في صراعٍ مجنّح بالجهد والتطلّع والشغف والتغزّل بهيكليّة الطبيعة وما تضخّه من عطورٍ متفرّقة تحيي العشب والزهر والانسان.
وقبل أن يأفل نجمُ الرّيحِ فوق حدقاتٍ ذات بريقٍ يحفل بالألوان الغيبيّة التي ترصد خضرةً كثيفة وأنيقة لزخّات المطر فوق العشب المجدول على انعكاسات الضوء، يحكي الشاعر الصيني بي جي المعروف أيضاً بلقب «بو تشي» وهو من سلالة تانغ، ومعروفٌ بقصائده العرضيّة القصيرة، وباحتلاله للإحساس مستبدّاً به من خلال لغةٍ رشيقة وبسيطة، مخترقاً وجوهاً كتيمة حالكة، حكايَة عمرٍ قارّي يصبّ في منكب التاريخ، ليرتقي تصاعديّاً نحو الغابات والمروج والجباه المحروقة من شمس الكدّ والحريّة، ويبدّدَ الخفقَ الرّتيبَ لمعالم الأشياء، ويغرقها بريشته المختالة التي يخامرها الشكّ في الواقع ويساورها الحنين للخيال، لتبرزَ ملامحَ الوجود في صدرِ الفن.
فهو يراوحُ الأمكنةَ غنيّاً بما عداها، وقبل أن يرحل، يترك على لثّة العشب قصائدَ تشبه زمرّد الحقول الذي ينثر الزهرَ احتمالاتٍ مرصودة، وايماءاتٍ معهودة، تماماً مثل اشراقة الشمس وأفولها وذهولها لحظة الغياب، وتزدهر مثل سنابل الذهب في مساحات واسعة لا أفق يحدّها ولا حدود تفصلها عن مآربها.
ففي قصيدة «العشب» يقول بي جي: «العشب يَنتشرُ عبر السهل / كُلّ سَنَة يَمُوتُ، ثمّ يَزدهرُ ثانيةً/ يحترق بنيرانِ المرجِ/ لكن لا يتحطم/ حين تهب الرياح الربيعية/ تعيده للحياة/ رائحتَه تَغْزو الطريقَ القديم/ يَجتاحُ أخضرُه الزمرّديُ البلدة المتهالكة/ مرة أخرى/ أرى صديقي النبيل يُغادرُ/ أجِدُ نفسي مزدحما بالكامل/ بمشاعر الفراق».
هذا التبتّل المتسلّق نحو الفلسفة اللحظيّة والنوعيّة التي ترى في الحياة موتاً وفي الموت حياة، وتبصر الوجودَ يكرّر نفسه ويحرّر منازعه من رقادها، لم يسبقه في عصره إليه شاعرٌ أو راغبٌ في نهل المستعصيات من اللغة والمفردات من التعبير، فنراه يقفز على حبالٍ متينة من الترانيم الشبقيّة الحالمة، التي تجمع الملائكة والأبالسة في حلقةٍ واحدةٍ من التواجد والتعاضد.
في قصيدة «أغنية الغروب على النهر» يقول بي جي: «شريطُ ماءٍ انتشر في شروقِ الشمس/ النهرُ نصفه زمرديّ والنصفُ الآخر أحمر/ أحبّ الليل الثالث من الشعر التاسع/ الندى مثل اللؤلؤ، القمر مثل قوس».
أمّا في قصيدته «تذْكر جنوب النهر» فيقول: «جنوب النهر رائع/ منذ عهدٍ كبير/ عرفتُ المنظرَ الطبيعي جداً/ عند شروق الشمس/ زهور النهر حمراء مثل النارِ/ في الربيع/ ماءُ النهر أخضر كالزنابق/ كيف لم أتذكّر جنوبَ النهر؟»
هذا الوله المرهف والمبلّل برضاب الحنين يرفّ بأهدابٍ خافقة فوق النهر الكبير الذي يغرفُ منه الشاعرُ بي جي أحلامه وآلامه وانزلاقاته وما يحتويه صدره من موسيقى جيّاشة حزينة تجذبُ ملكة الالهام والهة الأحلام في ضبابه الرقيق الذي يرتدي غلالة كاشفة تعكسُ الضوء البنفسجي من ثنايا بلّورها الهائم.
لا شكّ أن الانغماس في بؤر الشوق الذي يشتهي لقاء الموت ثمّ يطمعُ في الالتحام بالحياة والتي تتمثّل في كلمة «النهر» الذي يرمزُ للاستمراريّة والتفرّد، قد ترك أثره في كتابة بي جي، ولم يتركه سوى جثّة متحرّكة بروحٍ متنقّلة عبر ندف الشرود رغم بعده عن زمن الحداثة والابتكار، فقد نجح فعلاً في طيّ عصره والتنصّل من آفات واقعه والانفلات منه إلى زمنٍ مُحدث ومطابق لكلّ تطلّعاته الوجدانيّة.
بي جي شاعرٌ زمنيّ يسافر عبر بساط الزمن مستخدماً إيّاه كعنصرٍ جذّاب للتخيّل والتفكّر والتملّي في أسرار الكون، ولم يتراخَ عزمه رغم كلّ المثبطات التي كانت تهصر المبدعَ في ذلك الزمن القديم، وترك محافل عارمة بالفكر والتنهيد والترفيه العاطفي الذي يسعى للحبّ ويرقى للخيال من دون أن يمسّ بسوءٍ لمكنونات الطبيعة أو يسلخَ عنه صفة الشاعر الرومانسي الحالم، الذي سهر لياليه على ضوء القمر قرب نهرٍ باكٍ يبثّ لوعة الاشواق ويلوح بمنديل الالحاح الفلسفي.
الجمهورية | 20 مايو 2023