هذا عرض مفرد في مبحث قصة اسمها (العاصفة) لمحمد سالم الحاجي. وفي مبحث حول قصة (الدفء)، سيجري تحليل قصة (الدفء)، ثم تحليل اقتران دلالات في القصتين، ضمن أطروحة دراسة (العبثية وانعكاسها في الأعمال السردية الليبية الحديثة).
المطلب الأول: ملخص القصة:
تحيط القصة بحال الشخصية الرئيسة، كونها تعاني الوحدة، وما العاصفة إلا إطار خارجي لا علاقة له بالحدث، ولكن يمكنه الإسهام في احتضان الحال النفسية للشخصية، فهي لرجل كان موجوداً في مقهى، وعاد إلى البيت، ولم يجد زوجته. وقد عرف من فراغ صندوق حليها أنها غادرت وهجرته. ويتخلل وجوده في البيت حركته بين جهاز التلفاز الذي عرض رسوماً متحركة فيها حيوانات، ووجود قط، يقوم بإعطائه بعض الحليب. ثم يستقل سيارة أجرة إلى بيت صهره، حيث زوجته، ويخفق في استعادتها. يعود إلى البيت، ويجد القط ويقوم باقتلاع مخالبه وحبسه، وينام، وفي الصباح عندما يفتح باب الغرفة المحبوس بها القط يجد أن القط ينتفض قافزا ومرتطما بالأرض. ويقرر أن يرتدي ملابسه ويخرج، حيث تكون العاصفة ما تزال قائمة.
المطلب الثاني: التحليل:
تقنية السرد: ضمير الغائب.
أولاً: الزمان:
يتحدد من خلال القصة نفسها على أنه مساء أولا: ” ذوت أشعة الشمس، ازداد المساء شحوبا “. إلا أنه يعود فيحدده بالساعة، ويتضح أنه مجرد الخامسة. ما يزيد الإحساس بالمساء هبوب عاصفة حجبت ضوء الشمس، حيث كانت هناك سحب قاتمة تزحف نحو الشرق. وأحداث القصة تدور متوغلة نحو الليل. وتمتد حتى حلول الصباح، وتحديداً في الساعة السابعة.
ثانياً: المكان:
المعالم التفصيلية تجعل المكان في مجموعه يبدو على أنه مدينة، ويتأكد هذا التحديد بذكر أن الشخصية التي يتحدث عنها الراوي تتذكر أهلها في القرية. والأماكن حسب ترتيب ذكرها، مرتبطة بالشخصية الرئيسة:
1 – شارع يمشي فيه. 2- مقهى ذو جدار زجاجي يدخله، يخرج لوهلة مودعاً صديقاً ثم يعود إليه، ويجده قد خلا، وصار من به يجمعون المقاعد. 3- بيته، يتجه إليه خارجاً من المقهى. وهناك، يفتح المذياع، يشاهد الرسوم المتحركة على شاشة تلفاز. 4- طريق يخرج إليه متجها إلى محطة سيارات أجرة، يستقل سيارة كاد سائقها أن يغادر، ويذهب إلى بيت أسرة زوجته. وهناك يُخفق في جعل زوجته تعود. 5- يخرج، حيث العاصفة قوية، وتراوده فكرة تقليد الأحصنة فيركض، ويدخل سيارة أجرة أخرى بها ثلاثة ركاب متعباً، تتجه به نحو المدينة [ويمكن أن تفهم المدينة هنا على أنها مركز المدينة، بينما يمكن أن يكون المكان الذي به بيت أسرة زوجته ضاحية أو قرية]. ويجري حوار داخل السيارة باقتراح السائق أن يأخذوه إلى المستشفى. 6- البيت يعود إليه، وهناك: ينظر إلى وجهه في المرآة بمجرد دخوله قرب الباب، جلس على مقعد، نهض نحو المطبخ، أقفل نافذة صغيرة تهب منها الريح، كانت هناك خزانة قبع قربها قط، حمام دخل إليه، حجرة نوم دخلها، حجرة خالية جر إليها القط.
ثالثاً: الشخصيات:
1- الشخصية الرئيسة: تتمركز هذه الشخصية محوراً للسرد من الراوي، وما يهم من غيرها هو ما يهم هذه الشخصية ويشكل مركز انتباهها، وهي شخصية تعاني من وحدة بسبب خروج الزوجة، ولجوئها إلى بيت أبيها، ورفضها العودة.
2 – الشخصيات الثانوية: حسب اهتمام الشخصية بها هي: أ – الزوجة الغائبة، ب – والد الزوجة، يتجه إليه زوجها ويحاوره مطولا، من دون جدوى حول عودتها، ج – صديق يجالسه بالمقهى – سائق يأخذه إلى بيت أسرة زوجته – ثلاثة ركاب بسيارة يركبها، وسائقها، و – قط بالبيت.
ولأن القط حيوان، ولسطحية دوره الظاهرية، فإنه يتخذ مكاناً أخيراً، إلا أن قيمة تأثيره يمكنها أن ترفعه، فتجعله في الترتيب الثاني مكرراً، أو الثالث.
رابعا: الحدث:
يمكننا النظر إلى الحدث من وجهي: عدم تحقق، ووقوع:
1- عدم التحقق: وهو، أي عدم التحقق، ما يؤدي إلى حركة الشخصية كلها تقريبا، إذ يكون افتقاد الزوجة مؤدياً إلى لجوء هذه الشخصية إلى المقهى، وركوبها سيارة أجرة توجها نحو بيت أسرة الزوجة، والعودة من دون الزوجة إلى البيت. إن هذه المنطقة كلها هي منطقة محاولة متعطشة للشخصية الرئيسة، في إطار من لوحة الطقس الضاغطة، تحت مسمى عاصفة تبدأ عند الخامسة تقريباً، وتشتد محيلة المدينة إلى ظلام، يكون مدار تعليق رواد في المقهى يجالسون الشخصية الرئيسة، وفي البيت يلاحق الظلام التيار الكهربي نفسه، بأن ينطفئ ويعود ثم ينطفئ من جديد. ويماثل التيار الكهربائي ما يمثله الأشخاص من: صديق في المقهى يحاور، إلى سائق سيارة أجرة وثلاثة ركاب، فهم فشل في تعويض الشخصية بحل مشكلتها، والتيار الكهربائي يهرب ويعود ثم يهرب، وهذا الأمر كله يجعل منطقة إحساس الشخصية مفرغاً ومفعماً بالقلق، والبحث عن ملئه.
2- الوقوع [الحدث الصاخب المكتوم]: هذا الحدث يقع في نهاية القصة، بعد عودة الشخصية منفردة إلى البيت، حيث الليل والوحدة والارتباك، ويمكن لنا أن نرسم مسار هذا الحدث على النحو الآتي:
أ- يرى صورته في المرآة قرب الباب.
ب – يدخل البيت، ويلج أكثر من مكان: الحمام، المطبخ، حجرة النوم.
ج – يشاهد في الشاشة رسوماً متحركة، لحيوانات تشبه الشخصيات الإنسانية.
د – يصادف القط قابعاً قرب الخزانة.
هـ – يسكب لنفسه لبناً في كوب، وللقط في صحن فينهمك الأخير في لعق اللبن.
و – يقع الصحن عرضاً وينسكب اللبن على الأرض ويواصل القط لعقه. ويرى القط مقوساً ينحني على اللبن يلعقه.
ز – يدخل حجرته، يفتح دولاباً ويجد أن علبة حلي زوجته خالية. ويقفل الدولاب.
ح – تواجهه صورته في المرآة ويرى شعرات نافرة على شاربه، ويخرج مقصاً، ولكنه بدلاً من قصها خرج إلى حيث القط.
ط – سحب مخالب القط. لم يجدها، فذهب مسرعاً ليحضر أداة التقاط، وبها استطاع أن يستل الأظافر الواحد تلو الآخر. وأحس بنشوة.
أحس بلذة كبيرة، وانتهت السهرة. وخشي أن يزعجه القط بموائه كالعادة.
ي – خرج وجر القط من ذيله إلى حجرة خالية غير مستعملة في السابق، وأقفلها.
ك – نام على المقعد حتى علا شخيره وآلمته رقبته وحلم حلماً مزعجاً، كانت الساعة السابعة صباحاً،
ل – مضى نحو القط ليطلق سراحه، فسمع صوت ارتطام، ثم، عندما فتح الباب، رأى بفزع أن القط كان يعلو ويهبط مرتطماً بالأرض.
خشي أن القط سيقفز نحو عنقه ويأخذ بثأره مثل أي إنسان.
م – انسحب نحو مجلسه، ثم طرد فكرة نومه، وارتدى ملابسه وخرج إلى الشارع. وأخذ يسير بلا هدف. كانت العاصفة ما تزال تتفجر: ” الرعد يعصف، والبرق ينفجر “.
وبهذه النهاية التي لم ترسمها الشخصية الرئيسة، وإنما تمنت حدوث غيرها، وسعت إلى تحقيقها، فإن الحدث غير المتحقق يقع معادلاً للحدث الأخير في أهميته، فهو جوهر القصة، ومحركها. ولكن عدم التحقق أدى بالشخصية في نهاية اليوم، إلى اقتراف ما يمكن عده الحدث الكبير في القصة، وهو حدث مكتوم بين جدران البيت، غير معاقب عليه، ترتكبه شخصية من دون أن تخشى تجريماً، ولن يتوقع أحد أن يتحدث أحد بشأنه. لا يضع الحدث في موضعه الصاخب غير قارئ يستبشعه. ولن يحكم عليه غيره.
ويمكننا أن ننظر إلى كون القط كائنا عرضيا، في القصة، وأن اقتلاع أظافره ليس إلا حدثاً مرتبطاً بغيظ طارئ أيضا. إلا أن التوازي بين ما حدث وما لم يحدث، يمكنه أن يذكرنا بتواز دلالي، يصير فيه القط معادلاً للزوجة.
إن هناك قرينتين سرديتين تربطان القط بهذه الدلالة:
تركيز اهتمام الشخصية بمواصلة القط لعق اللبن، ورؤيتها جسده الملتوي فوق اللبن حتى وهو مسكوب على الأرض.
مفاجأة خلو علبة حلي الزوجة، والخروج فوراً إلى القط، أمر يعيد تركيز صورة القط اللاعق للبن، ليشبه الزوجة.
تقسيم القصة إلى نسقي امتلاء – فراغ:
أولاً: الامتلاء: هو حالة التجول التي عاشتها الشخصية، بحثاً عن أنس، ولم تعدم وجود البشر، فهم يملؤون العالم، وقد ظهروا في هيئة صديق في المقهى، نمت جدران المقهى الزجاجية عن شفافيته، وفي سائق أخذه إلى بيت أهل زوجته، حيث لابد أن يلقى هناك أبا الزوجة. وفي هيئة سيارة أجرة ومن بها، [نلاحظ أن السيارة الأولى بها سائق أخذه إلى بيت زوجته ملخصاً فضل إنسان + نفعية هذا الفضل، كون الراكب سيدفع أجرة، أما في حالة السيارة مع ثلاثة ركاب، فإن العدد موح بالازدحام، ويضاف إليهم سائق، وفي المقهى يكتفي بتذكر صديق واحد، لأن المقهى قد يكون به أناس آخرون، ولكن كل هذا لا يكفي، فالزوج كان له هدف هو المرأة – زوجته] وقد حاولت الشخصية تقليد الأحصنة، في رغبة للانتصار على نفسها، بقطع المسافة، والإحساس بحركة الجسد. لكن العاصفة كانت تفسر الحياة على نحو مختلف، كأنها ضمير مغلف يبوح بأن هناك ما لا تحمد عقباه.
ثانياً: الفراغ: هو العودة إلى البيت والوحدة.
العلامات مفسرة:
بانحصار الشخصية في البيت وتجردها لحدث ما، سنكون أمام صيغة مكونة من بعض الرموز، تشبه مقابلة الحلم، ويمكن تجميعها في:
المرآة. علبة الحلي. القط. اللبن.
أولا: المرآة: تظهر من خلال تعددها، على النحو الآتي:
حاضراً: 1- بظهورها مرة أخرى بعد المرة الأولى قرب الباب، إذ رأت الشخصية شعرات صدرها فيها، أي إنها كانت مرآة داخلية في غرفة النوم. 2 – لكنها ظهرت في حال دور أوسع، من خلال شاشة التلفزيون، يجمع الشاشة بالمرآة السطح الصقيل، ووجود ظلال صور. ولكن الشاشة لا تعرض صورة الشخصية نفسها، وإنما حيوانات مرسومة، تتحدث مثل البشر.
ماضياً: وهو ماضي ما حدث في القصة نفسها، إذ كانت جدران المقهى زجاجية، ومادة الزجاج تجمع المرآة في عنصر السطح الصقيل، ولكنها لوجودها خارج البيت، حيث عموم الحياة واحتمال الأنس، أي عكس حالة العزلة والصمت، تصنع تفسيراً بتفاؤل كامن في أحلام اللاوعي، أن تكون هناك حقيقة، لا محض ظل.
ثانياً: علبة الحلي: تظهر بدورها على النحو الآتي:
حاضراً:1- في شكلها الحقيقي، كونها علبة حلي مفرغة من الحلي. وهذا لا يجعل منها مجرد علبة حلي غير ذات قيمة فحسب، وإنما يكشف غدر الزوجة، التي أظهرت نيتها في معاملة الزوج على نحو قاس. ولكن العلبة مجرد تفريغ إيمائي من الزوجة موح بوحشيتها، ومصنوع بإخلاء البيت بكامله من الحب. 2- ليس البيت أكثر من علبة حلي، يكون فيها الحب له قيمة عالية، برفقة تجعل الحياة كسباً، والنفوس مطمئنة.
ماضياً: 3- على هذا النحو نفسه، يصير حال المدينة حال علبة حلي أخليت من حليها، ولو أن المدينة لم تكن خالية تماما، ولكن البيت ليس خالياً تماماً هو الآخر. ولو كانت المدينة ممتلئة حباً لمالت الشخصية إلى التأخر فيها، ولكن عبرت كل من العاصفة وحلول المساء والظلام عن تعقد خاص.
ثالثاً: القط:
حاضراً:1- ليس إلا القط نفسه، الحيوان العادي البريء، ولكن الشخصية نفسها قد تفسره على أنه نظير لإنسان. وقد رأت الشخصية نظائر له تلعب على الشاشة، أي في مرآة تجمع فيها عدد آخر من كائنات حية، قد تذكر بآخرين: صديق المقهى مثلا.
ماضياً:2- هو الشخصية الغائبة عن البيت. ولكي نقتنع بهذا الأمر، لاح اللبن.
رمزية اللبن: إذا كان اللبن مجرد غذاء للقط، فإن القط برمزيته يصوره في لوحة مكتملة إلى حد ما، مناظراً لدلالة أوسع، إذ إنه غذاء الحياة التي تكتفي بها طفولة طفل معتمد على أمه. وهو غذاء يربط الطفل بأمه برباط حب مقدس، ويصبح اللبن تعبيراً رمزياً عن القداسة والنقاء. إنه أبداً ينحدر من الأنثى، ليحقق صلتها بمن تلد. ويستعار للتعبير عن صفاء الحياة والمشاعر. وقد غابت الأنثى عن البيت الآن، وذكرت بغياب المحبة المعوضة عن الخارج. أما القط، فقد ذكر بالزوجة كونها أنثى، وسحب منها حنوها، وحيث في المعتاد يكون ما تفعله الأم لابنها مقلداً بما يفعله الرجل من أجل زوجته، وهو جلب الغذاء، فإن القط لاح صورة أخرى لزوجة تكتفي من الزوج بغذاء، وتنساه. أو: تتركه لوحدته، مفرغة حياته من الحب، ولا يعود أمامه إلا الدوران حيث لا يرى غير ظل في المرآة.