قراءات

الغجر.. ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب

الذكرى الأولى لرحيل الكاتب الليبي عزالدين اللواج…

من أعمال التشكيلية الليبية منيرة اشتيوي
من أعمال التشكيلية الليبية منيرة اشتيوي

“آه يا أسى الغجر

أيها الأسى النقي المتفرد أبدا

يا أسى درب خفي

وصبح بعيد” لوركا

في سرد معرفي منوع وشبه شامل يقدم الكاتب والصحفي العراقي جمال حيدر للمكتبة العربية إصدارا مميزا حول سيرة الغجر وعوالمهم المجهولة، فعبر أكثر من 200 صفحة من الحجم المتوسط يتناول حيدر جانبا مهما من سيرة وتاريخ أقلية الغجر، مؤكدا من خلال مقدمته على أن تطورات ومتغيرات متسارعة حدثت خلال العقود الأخيرة قادت نحو تغيير تلك الصورة النمطية التي يقترن فيها الغجر دائما بنعوت ومواصفات دونية تقلل وتحط من قيمة ذواتهم.

لقد كان الأدب بمثابة الطريق الآمن الذي عبرت من خلاله مسيرة تلك التطورات والمتغيرات المتسارعة، فرهانات التمرد والتطلع نحو الحرية وفضول البحث عن المجهول والمخفي في عالم الغجر أغرت الكثير من الكتاب والأدباء والفنانين وجعلت الغجر موضوعا رئيسا في كتاباتهم وإبداعاتهم، فها هو ميغيل سرفنتيس يمجد الغجر في روايته ” دون كيخوته” بينما قدمهم جورج دي بيزيه في اوبرا كارمن وتناولهم فيكتور هيجو في روايته ” أحدب نوتردام ” وبوشكين في ملحمة الغجر ومكسيم غوركي في ” الغجر يصعدون إلى السماء” ولوركا في مجموعته ” أغاني الغجر” .

فمن هم الغجر يا ترى؟

وما هي أبرز عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم؟

وكيف عاش ويعيش الغجر في عالمنا العربي وفي بلدان العالم الأخرى؟

وماذا عن علاقة الغجر بالموسيقى والغناء وذاكرتهم الغنية بالأساطير؟

هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها جمال حيدر في كتابه الصادر في مطلع عام 2008 م عن المركز الثقافي العربي ببيروت والدار البيضاء والمعنون بــ ” الغجر … ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب”.

سؤال الهوية والجذور

هم نتاج زواج الجان وهم من رفضوا إيواء السيدة مريم العذراء خلال هروبها بمعية يوسف النجار والطفل إلى مصر، وهم أيضا نتاج مجامعة حواء لأدم بعد موته، وهم نسل قابيل الذين حكم الله عليهم بالتشرد فلقد جاء في سفر التكوين ” متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتك، تائها وهاربا تكون في الأرض” وهم كذلك من حكم الله عليهم بالشتات بعد ما استجاب حداد غجري لطلب الجنود الرومان وقام بوضع مسامير لصلب السيد المسيح. …..

هذه بعض الروايات والحكايات التي نسجتها المخيلة الشعبية حول الغجر في العديد من بلدان العالم، روايات وحكايات كانت كفيلة بإشاعة أجواء الازدراء الاجتماعي تجاه الغجر الذين يرى مؤلف الكتاب إنهم جاؤوا أصلا من الهند وليس من مصر، فالربط بين مصطلحي ” egypt» ” و “gypsy ” وهي التسمية الشائعة التي تطلق على الغجر بالإنجليزية هو ربط ضعيف وغير موضوعي يستند على حكاية شعبية روسية تقول بأن جيوش فرعون غرقت عند اجتيازها البحر ولم ينج منها إلا فتى وفتاة تزوجا فيما بعد وكانا بمثابة آدم وحواء الغجر ……

عموما فإن الرأي القائل بأن جذور الغجر ترجع للهند يجد دعما قويا في كتاب الشاهنامة الذي دون فيه الشاعر الفردوسي رواية تاريخية تتحدث عن قبيلة غجرية تدعى لوري نزحت بعد أن أرسلها ملك الهند شانكال عام 420 ق.م إلى بلاد فارس تلبية لطلب ” بهرام غور” ملك فارس الذي رغب في جلب أكبر عدد من المغنيين والعازفين إلى فارس لكي يقوموا بالترفيه عن فقراء شعبه، ” جمع شانكال إحدى عشرة مجموعة من المغنيين المتجولين وحدد لهم مسالك الطريق نحو بلاد فارس، وحين وصلوا منحهم الملك – بهرام غور – البذور والماشية وخصص لهم الأرض ليحصلوا بواسطتها على رزقهم للعمل على ترفيه شعبه من دون مقابل ومع نهاية العام الأول ترك الغجر الزراعة بعدما استهلكوا البذور، ليغذوا بالتالي عبئا على البلد الفقير، غضب ” بهرام غور” منهم وأمر بمصادرة ممتلكاتهم وآلاتهم الموسيقية، وأمرهم بالتجوال والغناء في أرجاء البلاد لكسب لقمة عيشهم، ثم اضطروا إلى مغادرة بلاد فارس بحثا عن رزق ومأوى جديدين، ومن هنا بدأت مأساة شعب لم تنته لغاية الآن”.

قيم وعادات وتقاليد

تمسك الغجر بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم حال دون انصهارهم في المجتمعات الأخرى، كما حال دون نجاح المحاولات السياسية الرامية لتوطينهم، وعلى الرغم من أن جهل الغجر بالكتابة وعدم وجود لغة مدونة خاصة بهم أدى كما يقول مؤلف الكتاب إلى ضياع المعاني الأصلية للقوانين التي توارثوها جيلا بعد جيل، فإنه يمكن تدوين ورصد العديد من قيمهم وأعرافهم ومن بينها على سبيل الذكر لا الحصر ما يتعلق باحترام الغجر للمرأة وتقديسهم للأنثى، فبالإضافة إلى أن الأطفال الغجر يحملون كنية الأم، ويتكلمون بلهجة والدتهم إذا كان الأب والأم من جماعتين غجريتين مختلفتين، فإن معظم جماعات الغجر تقوم بعبادة القديسة سارة الغجرية، أو سارة السوداء التي يعتقد الغجر بأنها عاشت على شواطئ نهر الرون، واشتهرت بمعرفة الأسرار ( وإنها ذات ليلة حلمت أن القديسات الثلاث اللواتي كن حاضرات خلال صلب السيد المسيح، سيأتين على متن قارب وأن عليها مساعدتهن، رأت سارة بعدها القديسات القادمات على متن قارب صغير تتقاذفه أمواج البحر الهائج، وكاد القارب يغرق فرمت بردائها على الأمواج ليغدو بمثابة المعبر الآمن نحو الشاطئ، شكرت القديسات سارة وقمن بتعميدها كقدسية، لتقوم تاليا بدورها بنشر المسيحية بين أبناء قومها )

عبادة القديسة سارة كما يشير جمال حيدر، تعد من المعتقدات المهمة لدى الغجر، فهم يحجون إليها ويقومون بالسير في ردهات معبدها حفاة وحاسري الرأس، كما يسيرون نحو البحر والغطس في مياهه ضمن احتفال صاخب.

على صعيد الأعراف الاجتماعية هناك عدة أنواع من الزواج الغجري من بينها الزواج بالخطف الذي يتم بصورة رمزية من خلال إقدام الفتى على خطف محبوبته والاختفاء عدة أيام ثم العودة لمخيم الجماعة الغجرية لاستكمال إجراءات الزواج، ويلجأ الغجري عادة للسحر إذا حامت شكوكه حول إخلاص زوجته، (حيث يجبر زوجته على السير حافية القدمين على أقراص مصنوعة من خشب الزيزفون رسمت عليها رموز بدائية، كذلك يعمد إلى إخفاء تمائم تحت وسادة زوجته فإن رقدت وغفت طويلا تكون غير مذنبة، أما إذا سهدت فيعني ذلك أنها خانت العلاقة الزوجية)

على الصعيد السياسي يوجد لدى الغجر شكل بدائي من الحكم يتم من خلاله انتخاب رئيس القبيلة وأم القبيلة ويحدد عادة رئيس القبيلة مسار الجماعة الغجرية ويعتبر حضوره مهما في إجراءات إتمام الزفاف إذ بدونه يعتبر عقد الزواج لاغيا، وتبلغ مدة حكم رئيس القبيلة حوالي سبع سنوات وفي حال تجديد انتخابه يحق له أن يكون له مثل العديد من رؤساء الدول العالم الثالث أي أن يتواجد على قمة هرم السلطة مدى الحياة…..

للغجر أيضا سلوكيات وعادات أخرى من ضمنها كرههم للماء وميلهم نحو ارتداء الملابس المزركشة والمرصعة بالأزرار اللماعة والشارات المذهبة والجواهر المزيفة وكذلك الإكسسوارات المصنوعة من العملات المعدنية القديمة وساعات الجيب والأقراط الطويلة، هذا بالإضافة لحبهم للوشم والخيول، أيضا لدى الغجر تصور سلبي لمفهوم السرقة، “إذ يعتبر الغجر أن كل الأشياء الموجودة في الطبيعة هي ملك الخالق وحده وللإنسانية الجمعاء، وبالتالي ليس من حق أحد أن يتهمهم بالسرقة”.

الغجر حول العالم

سيرة الغجر في بلدان العالم سيرة تتضمن الكثير من الوقائع والحقائق التي يصعب اختزالها في سطور أو مباحث محدودة، فهي غنية بالأحداث والمعطيات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي جعلت من الغجر مادة ثرية بالمعلومات المتعلقة بالمسار التاريخي والآني لماضي وواقع أقليتهم فعلى الصعيد العربي نجد أن الغجر تواجدوا بالمنطقة العربية منذ سنوات وقرون عدة وانتشروا في الكثير من البلدان، فهم مثلا في العراق يتواجدون في حي الكمالية ببغداد، وكذلك في حي المستوطنة الذي يقع على الطريق الواصل بين مدينتي الزبير وصفوان جنوبي العراق ومنطقة أبو طراريد الواقعة على الطريق الواصل بين مدينتي الديوانية وعفك ومستوطنة السحاحي التي تقع على الطريق الواصل بين مدينتي الموصل وحميدات وأيضا يتواجد غجر العراق في مستوطنة العثمانية الأميرية إحدى ضواحي مدينة الناصرية .

ومن أبرز الأفخاذ التي ينتمي إليها غجر العراق ” البوخزام، البوعبيد، البوعطار، البوباردو، البوحيلو، البوسويلم، البوطحيمي، البوثينوان، البونصيف، البودلي…”

في سوريا يحظى الغجر بوضع حقوقي جيد فهم يحملون بطاقات شخصية باعتبارهم مواطنين وتستقر الكثير من عوائلهم في بيوت ثابتة داخل المدن، كما أن العديد من غجر سوريا يعملون في مهن رسمية.

“يعرف الغجر في مدينة حلب بالقرباط، فيما يطلق عليهم في الساحل السوري تسمية المطاربة، في حين يلقبون في الشمال الشرقي من البلاد بالقرج، أما في ضواحي دمشق فتطلق عليهم تسمية الرياس، وفي منطقة الفرات يسمون بالحجيات، وفي جنوب سوريا يلقبون بالنور.”

في مصر التي وصل إليها الغجر قادمين من تركيا منذ يربو عن قرنين ينقسم الغجر إلى ثلاث جماعات هي ” الغجر/ الحلب/ النور” ينتشر الغجر في الوجهين القبلي والبحري بينما ينتشر الحلب في الصعيد، أما النور الذين يشتهرون بالسرقة وتسريح نسائهم منذ الصباح إلى ساعات الليل ليأتين بالغلة من نقود التسول والسرقات فهم يقطنون في مناطق عديدة أشهرها ميامي والعصافرة في الإسكندرية وكفر الدوار بالبحيرة والتبين والغيوم وإمبابة وأبو قتاتة بالجيزة.

“وتشتهر جماعات من غجر مصر بعلاج الحيوانات واصطياد الثعابين وتصليح الأقفال وصناعة المراجيح وتجارة الخردة والعطارة وألعاب السيرك مع حيواناتهم المدربة من قردة وكلاب وثعابين وأسود ونمور، وتعتبر عائلة الحلو المنحدرة، من أصول غجرية من العوائل المتخصصة في هذا المضمار” ويعد الثراء عاملا هاما ورئيسيا عند أغلب جماعات الغجر الموجودة في مصر، لذلك يتنافسون بإحراق العملات الورقية أو إلقاء النقود المعدنية في الأنهار أو ذبح أكبر كمية من الأغنام في مجالس التحكيم.

في الجزيرة العربية وصل الغجر منذ ما يربو عن ألف سنة قادمين من إيران ومناطق أخرى، وهم الآن يعملون في حرف عدة من بينها الحدادة والنجارة والسماسرة والنسيج وصناعة السكاكين والخناجر والسيوف.

عموما للغجر امتدادات عدة في بلدان عربية أخرى وأيضا في البلدان والشعوب غير العربية يتطرق إليها مؤلف الكتاب عبر سرد عميق يميط من خلاله اللثام عن المآسي التي واجهها الغجر في تلك البلدان وبالأخص الأوربية منها، فلقد تعرض الغجر منذ وصولهم لأوروبا في منتصف القرن الرابع عشر إلى شتى صنوف العنف المادي والمعنوي وهم كاليهود لازالوا إلى الآن يتذكرون جرائم الإبادة التي ارتكبها النازيون ضدهم إبان الحرب العالمية الثانية والتي نجم عنها مقتل الآلاف منهم في أفران الغاز تحت ذريعة أنهم من الجماعات المنحطة، وفي وقتنا الراهن يتم استهدافهم كلما تفاقمت الأزمات الاقتصادية في أوربا حيث يتحولون إلى ورقة رابحة لصرف الأنظار عن تلك الأزمات فيتم حرق منازلهم وقتلهم وطردهم من عملهم بحجج وذرائع شوفينية صرفة.

ولأن الدولة كما يقول عالم السياسة الفرنسي جورج بوردو تشبه الإله الروماني ” جانوس” ذي الوجهين، العابس الذي تطبعه كل الأهواء والألاعيب السياسية والمشرق الذي يعكس حكم الحق، فإن تلك الانتهاكات حدثت بالتزامن مع جهود أجيال جديدة من الغجر نجحت في كسر حاجز الصورة النمطية عنهم بمواصلة تعليمها وتسلم مناصب مهمة وتوظيف ورقة مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني من أجل الدفاع عن قضاياهم والحصول على أكبر قدر من المواطنة

الكمان وحيدا.. وحزينا

ارتبط الغجر بالموسيقى عزفا وغناء ورقصا “وتعتبر موسيقى الفلامنكو الدليل الأكثر سطوعا على تطور الموسيقى الغجرية، حيث نمت تلك الأنغام في أحضان قيم الأندلس التقليدية المتوارثة، لتغدو أهم أنواع الموسيقى المفعمة باستعراض الأسى والخسارة التي عاشتها المنطقة مند قرون”، كذلك أبدع غجر تركيا في اختراع فن ” الأراجوز” وكلمة ” أراجوز” بالمناسبة هي كلمة تركية تعني صاحب العينين السوداويين، وهي التسمية المطلقة على شخصية غجرية فكاهية وساخرة كانت بمعية أحد الوجهاء الأتراك بإسطنبول وتعرضت للعقاب من قبل أحد السلاطين الأتراك نتيجة حنثها بوعد الانتهاء من بناء جامع بمدينة بورصة التركية في القرن الرابع عشر الميلادي . …

في ختام زيارته لعوالم الغجر يستعرض مؤلف الكتاب جمال حيدر الحديد من أساطير الغجر ومن بينها أسطورة بعنوان ” الكمان وحيدا….. وحزينا تقول تلك الأسطورة: –

” مارا… شابة غجرية تقطن إحدى الغابات برفقة والديها وأشقائها الأربعة وقعت مارا في غرام شاب غير غجري معروف بالشجاعة، غير أنه لم يعرها انتباها، رغم جمالها، فالتجأت إلى الشيطان طلبا لمساعدته لاستمالة الشاب وان يقع في حبال عشقها.

وافق الشيطان وطلب منها أن تسلم إليه جميع أفراد أسرتها، فصنع من أشقائها الأربعة أوتارا ومن والدها صندوقا مجوفا، أما والدتها فصنع منها القوس، ليغدو بالتالي أول كمان في تاريخ البشرية لتعزف عليه مارا وتسحر الشاب ويقع في غرامها، غير أن الشيطان كعادته لم يكشف بذلك فأبعدهما عن الغابة لتبقى آلة الكمان وحيدة وحزينة.. مر غجري بسيط في الغابة ليجد الكمان ويتعلم العزف عليه ليطوف المدن والقرى ناشرا الحانة في كل مكان”.

هذه هي أبرز تفاصيل الزيارة المعرفية الشائقة التي قام بها جمال حيدر إلى عوالم الغجر المجهولة، زيارة سيتعرف القاري على المزيد من مضامينها وأسرارها عند مطالعته لسطور هذا الكتاب الذي نجح حيدر في كتابته بلغة مفهومة ومبسطة بعيدة عن ما وصفه فيليب برو بعالم التعبيرات المخيفة للمتلقي……

الجهد المبذول في هذا الكتاب جهد يستحق الاحترام والتقدير وذلك الرغم من كل الملاحظات المتعلقة بترتيب وتصنيف فصوله الثمانية وغياب الإحصائيات ورأي المؤلف في العديد من المحاور والوقفات التحليلية شكرا جمال حيدر….


صحيفة المثقف | نشر بتاريخ: 15 آذار/مارس 2016.

مقالات ذات علاقة

أحمد مصطفى الرحال يدرس أحوال يهود ليبيا

سالم أبوظهير

قراءة  في رواية “ازاتسي” للكاتب مجاهد البوسيفي

سالم أبوظهير

رواية “التبر”.. ضد الجميع من أجل الحرية

المشرف العام

اترك تعليق