قراءات

(إصلاح الدول الفاشلة) والمشروع الوطني “بناء الدولة”

كتاب إصلاح الدولة الفاشلة

قبل الحديث عن أهمية هذا الكتاب القيِّم جداً، والضروري لجميع المشاركين في صناعة القرار والمقتحمين لمعترك العمل السياسي والدبلوماسي، بل أراه مصدراً معرفياً لجميع المثقفين الوطنيين للتعرف على منهج ترميم الدول والنهوض بها بعد أزمات مختلفة، تظل أبشعها بلا شك هي الحروب التي تدمر العمران وتهدر الوقت وتحبط الإنسان.

وكذلك قبل التعرف على مضمونه ومحتوياته لابد من التوقف عند كلمة السيد سالم سعدون المدير العام لدار نشر الرواد التي تولت ترجمة وطباعة وإصدار الكتاب بالإضافة إلى الكلمة المشتركة للمترجمين الدكتور مالك عبيد أبوشهيوة والدكتور محمود محمد خلف التي جاءت على هيئة سؤال (لماذا إصلاح الدول الفاشلة؟) لنكتشف أننا أمام مشروع وطني بامتياز يبعث الكثير من الطمأنينة والثقة في أن هذا الوطن لازال بخير، وأن هناك من يسمو بفكره عمّا يعانيه حالياً من صراعات جهوية وغايات إقليمية تمزق النسيج الوطني وتلقي بتاريخه وحاضره ومستقبله إلى مستنقعات سحيقة تقوده إلى التلاشي والعدم.

إن الفريق الثلاثي المكون من الدكتورين العزيزين والناشر الكريم اتفقا على تنفيذ مشروع برنامج مشترك خلال سنوات متتالية يتضمن ترجمة أهم الكتب المهتمة بالشأن السياسي الليبي والتطورات التنفيذية على الساحة الوطنية الصادرة باللغة الانجليزية، وبلا شك فإن هذا العمل الجماعي الفردي الأهلي الخاص، كان من الواجب أن تتبناه مؤسسة حكومية ليبية تأخذ على عاتقها هذه المسئولية الوطنية العظيمة، ولكن نتيجة هذا الفراغ المعرفي والثقافي نذر الأساتذة الكرام مستقبلهم من أجل مستقبل الوطن، وتنوير عقول الجيل الآتي وترك بصمة ثقافية تنويرية فارقة في هذه الفترة الزمنية الحرجة التي يمر بها الوطن الجريح.

وإكباراً لروح العمل الجماعية التي دفعتهم لخوض هذه المغامرة الفكرية اللذيذة بكل ما فيها من مشقة وتعب، وإنفاق جهود وموارد مالية خاصة، فإنني أرفع القبعة لهم جميعاً، مشيداً بعملهم الوطني الذي يعكس مدى غيرتهم على ليبيا وحرصهم على تنوير عقول أبناءها كافةً.

وفي لمسة وفاء من المؤلفين والناشر تذكروا زميلهم وصديقهم الراحل الدكتور محمود جبريل رحمه الله فخصُّوه بإهداء رقيق في مستهل الكتاب يقول (وفاءً منا وتثميناً للصداقة والأخوة القوية التي ربطتنا به منذ السبعينات وحتى وفاته في 20 أبريل 2020، وتثميناً لمناقشاتنا الفكرية المشتركة حول الأهمية القصوى لإعادة بناء الدولة الليبية ومشاركة جميع الأطياف السياسية والتوجهات الفكرية شريطة احترام القيم الديمقراطية.)

ظهر بعد ذلك تقديم دار الرواد الذي استعرض التفكير في ترجمة الكتاب وأهميته والتواصل مع دار نشره الأجنبية البريطانية Oxford University Press من أجل الحصول على موافقة ترجمته ونشره باللغة العربية (في إطار اهتمام دار الرواد بالمساهمة في نشر المعرفة العلمية لكل المشاكل والأزمات التي تمر بها ليبيا والعديد من البلدان العربية، وتمشياً مع التغيرات الحاصلة في العالم، يسرنا أن نعلن عن سلسلة جديدة، وهي “سلسلة بناء الدولة”، والهدف من هذه السلسلة المساهمة في تقديم الخبرات التاريخية لبناء الدول، وتسليط الضوء على التجارب الناجحة التي استطاعت الخروج من الفشل أو الانهيار إلى بناء الدولة والاستقرار والتقدم.)

وتبعته مقدمة مشتركة للمترجمين الدكتور مالك أبوشهيوة والدكتور محمود خلف التي وردت بعنوان (لماذا إصلاح الدول الفاشلة؟) أبانا فيها عن مشروعهما التعاوني مع دار الرواد موضحين بعض جوانب ذلك المشروع التنويري المهم (.. رأينا أن نستحدث سلسلة بعنوان “بناء الدولة” تهتم بالكتابة وترجمة كل ما يتعلق ببناء الدولة، وتقديم الخبرات التاريخية في إصلاح الدول، واستحضار التجارب التي حققت إعادة بناء الدولة والتقدم والسلام، واستطاعت الانتقال من الفشل والانهيار وتجاوزت ذلك إلى التقدم والاستقرار.. لهذه الأسباب قمنا بنقل كتاب “إصلاح الدول الفاشلة: إطار عملي لإعادة بناء عالم منقسم..). وبعد استعراض بعض التحديات والصعوبات التي واجهتهما في تعريب الكتاب يختتم المترجمان المقدمة بالقول (وفي الختام، فإنه يحدونا الأمل أن يؤتي هذا الكتاب ثماره في الاستفادة من أهم التجارب الناجحة التي استطاعت التحرك من الفشل المؤسساتي إلى النجاح النظامي، وأن تستوعب الدروس من الحالات التي أنتجت مخزوناً من التقنيات والآليات التكنولوجية التي هي المرشد لمن يريد البدء في إصلاح الدولة، وخلق احتياطي من القدرات المؤسساتية بحيث نضمن أن تصبح دولتنا مندمجة كدولة وظيفية مع منظومة الدول الناحجة.)

إصلاح الدول الفاشلة:

صدر كتاب Fixing Failed States: A framework for rebuilding a fractured world سنة 2009م باللغة الانجليزية وترجمته وإصدارته دار الرواد للنشر في ليبيا باللغة العربية سنة 2021م تحت عنوان (إصلاح الدول الفاشلة: إطار عملي لإعادة بناء عالم منقسم)، وهو لمؤلفين أجنبيين هما السياسي والباحث في العلوم السياسية الأفغاني أشرف غاني الذي تولى منصب رئيس دولة افغانستان خلال الفترة من 2014-2021م والذي اعتبرته مجلة “السياسة الخارجية Foreign Policy” الأمريكية سنة 2014م من بين أفضل مائة مفكر على مستوى العالم، والأكاديمية البريطانية كلير لوكهارت خريجة جامعة “أكسفورد” الانجليزية التي تعد من أعرق جامعات العالم، والمؤلفة هي المؤسس الشريك لمعهد فاعلية الدولة Institute for State Effectiveness بمدينة واشنطن الأمريكية المتخصص في تقديم الاستشارات والحلول لإعادة التوازنات الوطنية داخل الدول المتخلخلة نتيجة العديد من الأزمات المختلفة.

وقد جاء كتاب (إصلاح الدول الفاشلة) في ثلاثة أجزاء كالتالي:

الجزء الأول بعنوان (التعريف بالدراسة) وتضمن خمسة فصول هي: زحف هوة السيادة، التحول عكس التاريخ، شبكات وتدفقات التعاون، السياسات الفاشلة، عود ومخاطر الدعم.

والجزء الثاني بعنوان (تحديد دولة القرن الواحد والعشرين) وتضمن فصلين هما: رؤية نحو وظائف متعددة، الإطار العملي “الوظائف العشر للدولة، والذي استعرض الوظائف العشرة التالية للدولة:  حكم القانون، الاحتكار الشرعي لوظائف العنف، السيطرة الإدارية، إدارة رصينة لإدارة واستخدام الموارد المالية العامة، الإنفاق في رأس المال البشري،  خلق حدود المواطنة خلال السياسة الاجتماعية، البنية التحتية للخدمات، تكوين السوق: نماذج دعم السوق، إدارة أصول وموارد الدولة، نظام فعّال للاقتراض، ويشير فيه إلى خمسة ابتكارات ضرورية تناولها بتسلسل كالتالي (إلغاء ضمان السيادة “أو تحويله إلى آلية لمشاركة المخاطر بين القارض والمقترض” من أجل التأكيد على العواقب والجودة في الاقتراض) و(تقديم تقييمات مستقلة للقدرات المؤسسية والمشاريع) و(تقديرات مستقلة لتكاليف وفوائد المشاريع والبرامج) و(الكشف العام والرقابة لكل الالتزامات مع زيادة التركيز على التنفيذ بدلاً من الاعتماد على تصميم المشروع والمواقف) و(تطوير السوق على أساس تعبئة المدخرات في البلدان الفقيرة).

ثم تناول بتوضيح وشرح مسهب مواضيع: السيادة المنقسمة وفجوة السيادة، والمستويات: العالمي، القومي، المحلي.

أما الجزء الثالث والأخير المعنون (برامج جديدة لبناء الدولة) فقد تضمن فصلين هما الثامن بعنوان “المواثيق الدولية” واشتمل على: استراتيجيات السيادة، وأجاب فيه عما هي استراتيجية السيادة؟ وذلك بتناولها في تتابع على النحو التالي: الانحياز، القوى الداخلية والخارجية، هذه الدولة ذات السيادة، “قواعد اللعبة- الصيغة- التقويم- الالتزام”، تعبئة الموارد، تصنيف المهام الحاسمة، تفويض القيادات والإداريين، انعكاس مراقبة عملية التنفيذ، الاتفاق المزدوج في الممارسة. وجاء التاسع بعنوان “البرامج الوطنية: تحدي التطبيق” وتناول الموضوعات التالية: خصوصيات المشروعات الوطنية، تعبئة واستخدام الموارد والأصول، رأس المال الاجتماعي والمؤسسي، تعاقب أو تسلسل دقيق، التقويم على مدى الزمن، البرامج الوطنية لا تحتاج للبيانات الحكومية الهشة، المشاريع الوطنية كأدوات للتحول، البرامج الوطنية ضد المداخل الأخرى، برامج إنسانية واسعة المدى، مشاريع التأثير السريع، المشاريع التنموية، مداخل القطاع.

وفي نهايته يقدم لنا الكتاب خلاصة تحليلية مكثفة يقول فيها (… توجد هناك لحظات مفتوحة نادرة في التاريخ، عندما التحدي أجبر العالم على مراجعة فرضياته أو مسلماته. ظهور الأديان العالمية، والدولة الأمة، والثورة الصناعية، والكساد العظيم، ونهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الشيوعية، وظهور الانترنت، كلها سجلت انقطاعاً بين مرحلة والتالية لها. كل واحدة منها وضعت حركة طويلة لسلسلة أحداث وغيّرت الطريقة التي تفكر بها الشعوب وإقامة علاقات متبادلة لتنظيم وتنفيذ العمل واحد مع الآخر)

ويختتم خلاصة الكتاب قائلاً (لحظات مفتوحة أكثر إنتاجية، عندما القيادات يرون المستقبل في اقتناص الفرص الآن. اليوم توجد فرصة واضحة لخلق خريطة للمستقبل وللمبادرة لحوار عالمي عام حول المصير العام للعالم المتشظي المنقسم، نعتقد بأن العالم يملك الأصول والموارد – في شكل ليس فقط تريليونات الدولارات، ولكن أيضاً في رأس المال الاجتماعي والمؤسسي والإنساني- لجعل هذه الرؤية واقعية وحقيقية. بالتفكير، القيادة والإرادة المناسبة، العولمة تستطيع تعزيز وإقامة دول فعّالة، والتي ستوظف كآلية للازدهار والأمن بدلاً من الفقر وعدم الاستقرار.)

إن كتاب (إصلاح الدول الفاشلة) الصادر عن دار الرواد يعكس جهداً ليبياً جماعياً عظيماً يؤمن بقيمة المعرفة، ودورها الأساسي في مناحي الحياة كافةً، فسخر إمكانياته العلمية والمادية لتكون جسراً فكرياً ينقل المعارف الحديثة الصادرة بلغة أجنبية لتوطينها في المشهد السياسي والفكري الثقافي العربي والليبي، بهدف مواكبة التطورات الجديدة في شتى عوالم الفكر خاصة السياسية المتعلقة ببناء الدول وعمليات إنقاذها واقعياً من الانقسام والتفتت. وبذلك فالكتاب يمثل إضافة مهمة للمكتبة العربية وإثراءها بأخر ما توصل إليه الفكر الإنساني في هذا المجال، وهو وجبة معرفية دسمة تستحق الكثير من المطالعة والتدبر والتفكر في الكثير من الأسئلة والتصورات التي يقتبسها من تجارب عالمية وعرضها للاستفادة منها على الأصعدة الوطنية بحسب التباينات الاجتماعية والسياسية والفكرية. وهو بذلك يستحق أن تنظم لعرضه العديد من الندوات واللقاءات والمناقشات لتسليط الضوء على اطروحاته والآليات العملية لتطبيقه والاستفادة منه عملياً … فهل يولي المهتمون بالسياسة والفكر والوطن في الدول العربية كافةً وليبيا خاصةً أهمية لذلك ويتبنون عقد لقاءات حول هذا الكتاب القيّم والمهم (إصلاح الدول الفاشلة)؟

أكرر الشكر وعظيم الامتنان للأستاذين المترجمين للكتاب، الدكتور مالك أبوشهيوة والدكتور محمود خلف والناشر الاستاذ سالم السعدون على إنجازهم وإصدارهم هذا الكتاب القيم، داعياً لهم جميعاً بالتوفيق في استكمال بقية مراحل مشروعهم الوطني المنتظر.

28 مايو 2023م.

مقالات ذات علاقة

أهل الله: قصة شعب فخور بنفسه

سالم العوكلي

افيكوات .. كتاب العيد .. للصحفي جمال الزائدي

جلال عثمان

بشير الرابطي.. ذاكرة وطن ومواقف الابطال

المشرف العام

اترك تعليق