متى يصبح الهامش يقظا؟
حينما يجد ثغرة في المركز؛ إيمانا منه بأنّه لا مركزيّة دون ثغرات.
إبراهيم خيراني | الجزائر
إنّ أبرز ثغرات المركز اليوم تكمن في طغيان الفردانية، وتهالك الأيديولوجيات المشتركة و(الجماعات الاحتكارية)، وفقدان الانتماء الجماعي، والتشيؤ الطاغي، وإعلان الفرد تنصّله من كل تكتل؛ ذلك لأنه يرى بأنّ التكتلات تعيق حريته الكاملة، وتحد منها، وأنّه يسعى إلى استنباط أفكار مختلفة عن الجماعة.
وبذلك أصبح المركز عبارة عن فردانيات مختلفة، تحاول كل منها السيطرة على الجميع، وجعلهم تبعا لها، وهذا أخف الأضرار، إذ الضرر الأكبر يأتي من الفردانية المنغلقة؛ والتي لا تحاول السيطرة على أحد، فقط تريد أن تكون مميزة لوحدها دون أن تتبناها جماعة، أو حتى المركز نفسه. وهذه الفردانية الجاحدة.
وهذا ما يجعل المركز في صراع داخلي سيؤدي به إلى التهالك والتشظّي ذاتيا، دون أن يكون في صراع مع الهامش، بل ويتحول إلى هامش عقيم فاقد لدعائمه الأيديولوجية، وتصبح أيديولوجيته (ميّتة، ومستهلكة، وباعثة على التخلف) وتضيق دائرة المؤمنين بها، وتصبح هذه الفئة تخجل من الإفصاح عن توجهاتها التي كانت عالمية يوما ما ومتعالية، ودالة على الوعي.
وهذا ما يجعل المركز في حقيقته، هامشا مؤجّلا، والأمر بينه وبين الهامش لا يعدو أن يكون كما العلاقة بين البذرة والشجرة؛ فالهامش بذرة، والمركز شجرة، تبقى مثمرة لوقت طويل، حتى تتهالك من تلقاء ذاتها، فيعمد الفلاح (الشعوب) إلى البذور فيتبناها (بعد أن كانت مهملة).
وهكذا تحرق الشجرة وتصبح أفكار الهامش مبتذلة في مرحلة الحرق، فنلوذ بأفكار الهامش؛ والتي وإن لم تكن صالحة فإنّها تعويض عن ابتذالية الأفكار التي كانت متداولة في المركز، وصرنا بحاجة إلى التغيير.
ولذا فإنّه من الخطأ أن يدخل الهامش في صراع حضاري مع المركز، بل عليه فقط أن ينتظر وأد المركز لنفسه. وينتظر أيضا حتى يتمّ تبنّيه -أي تبني الهامش-؛ لأنّه يستحيل للهامش أن يعلن عن نفسه كمركز، بل يُتَبَنَّى فقط؛ أي أنّ أفكار الهامش لا تكون بديلا مفروضا بالقوة والإشهار، بل يتم تبنيها وقت الحاجة(حين يفقد المركز صلاحياته من تلقاء نفسه ويصبح مبتذلا، كصيرورة تاريخية حتمية)؛ ذلك أنّ الهامش في طريقه إلى التمركز لا يغيّر أفكاره، بل يزداد المعتنقون لها فقط. وتتغير نظرتهم له، ففي وقت سابق كان يمثل أفكار التخلف، ويرمى بالانحطاط، وغدا يُتَبَنَّى ويتم التصالح معه، ويحتجون لهذا الهامش بحجج واهية كي يعتنقوه، وسيتصالح العالم كله مع عادات مثل العادات الإفريقية مثلا، بل ويتصالح معها حتى الإفريقي الذي كان يخجل بها، كما تصالح الأوروبي مع أفكاره التي كان يراها أبوه غير لائقة مقارنة بحضارة الأندلس. وحينها سيكف الإفريقية عن تمجيد الغرب ويعود لتمجيد نفيه، كما فعل الأوروبي الممجد للحضارة الأندلسية في الماضي، والمتعصب لحضارته الآن التي يراها باعثة على الوعي، كما يرى العربي حضارته باعثة على التخلف.
وعليه فإنّ الهامش في النّهاية ما هو إلاّ فكر سيتم العودة إليه و(مركزته) عبر التصالح معه، ووصله بالمركز الذي سيصبح ماضيا، ولا يمكن أبدا أن يتغلب الهامش على المركز عبر الندّية. لأنّ المركز في النهاية سيقتل نفسه بنفسه عبر التشظي، كما أنّ المركز في حقيقته ليس ضدّ الهامش، ولا هو مناوئ له؛ بل هو مستقل عنه ويتقاطعان لحظة موت المركز.
في تلك اللحظة يجد الهامش نفيه فيها بلا وعي قد صار مكافئا للمركز، ويصير المركز مكافئا للهامش. وهذا ما حدث بالفعل في الحربين العالميتين، إذا المُسْتَعْمِرُ والمُستعمَرُ؛ كلاهما يخوضان الحرب، لحظتها لفظت الحضارة الإسلامية أنفاسها بفعل تشظّيها تلقائيا وليس بسبب الحرب، بعد أن تم الحديث عن نهضة عربية، وفي حقيقتها لم تكن سوى لحظة تكافؤ بين هامش غربي سيتمركز، ومركز عربي إسلامي سيتهمّش، وتنقلب الأدوار نهائيا.
ولا يمكن أبدا الحديث عن ثنائية ضدّية؛ لأنّهما في موضع ما من الحضارة، سيكونان معا (المركز والهامش)، بنفس الخصائص، والاختلاف فقط في التسمية، التي ستتغير فيما بعد ويصبح الهامش مركزا بأفكاره الهامشية، ويصير المركز هامشا بأفكاره المركزية التي كانت متعالية يوما ما ونُبِذَتِ اليوم.