المقالة

من كاراكلا إلى بالبو.. في المواطنة وإرادة العيش المشترك

صلاح الحداد

ليبيا
ليبيا

مرت ليبيا وسكانها في تاريخها الطويل المرير بحدثين سياسيين مهمين، غالبا ما يمر عليهما الليبيون اليوم مرور عابرا ومتشنجا في جل الأحيان. الأول في 11 يوليو 212م، عندما أصدر الامبراطور الروماني “كاراكلا” مرسوم المواطنة عُرف باسم “المرسوم الأنطوني”، خلع فيه حقوق المواطنة على جميع سكان الامبراطورية الرومانية، وبالأخص على سكان لبدة الكبرى، مسقط رأس أبيه الامبراطور سبتيموس سيفيروس.

لقد عُدَّ هذا المرسوم من الوثائق ذات الأهمية التاريخية العالمية للحقوق المدنية والإنسانية والتاريخ الدستوري. لذلك، استُقبِل هذا المرسوم في وقتها بحفاوة بالغة في لبدة الكبرى، حيث خلَّد الليبيون ذكراه المجيدة في التشبث بعلامة من علاماته الكبرى، وذلك بارتداء الجرد إلى يومنا هذا؛ باعتباره لحظة تاريخية فارقة، صار فيها أهل لبدة الكبرى مواطنين أحرارا لأول مرة في التاريخ، حيث سُمح لهم بارتداء الجرد إسوة بمواطني روما. في هذا السياق، يُحسن بنا التذكير هنا، بأن الجرد كان لباسا تقليديا في الامبراطورية الرومانية، يرتديه الرومان من المواطنين الذكور البالغين في المناسبات الرسمية، يُسمى بالتوغا، وقد صحَّف الليبيون الكلمة مع مرور الزمن؛ فصارت تعرف حاليا بالتوكا أو التوكامية. كان لباس التوجا يُعتبر “الزي الوطني” لروما ولبدة على حد سواء، والذي يتمتع بامتياز للمواطنين الرومان، يُحظر ارتداؤه على العبيد، وقد ظهر الامبراطور سبتيموس الأب ابن لبدة بهذا الجرد في عدة مناسبات، كما أكد المؤلف كيلي أولسون في كتابه “Masculinity and Dress in Roman Antiquity”.  ما يجدر ذكره في هذا السياق، أنه نظرا لتعرض رداء “التوغا” للاتساخ سريعا، فقد قصر الرومان ارتداءه على المناسبات الخاصة فقط. 

والثاني في 9/يناير/1939، عندما صدر مرسوم ملكي إيطالي، أعلن فيه المشير بالبو على خطى الامبراطور كاراكالا بمنح الجنسية الإيطالية لسكان المناطق الساحلية الأربعة، وذلك حسب التقسيمة الإدارية المعمول بها في ذلك الوقت، وهي (طرابلس، مصراتة، بنغازي، درنة)، باعتبارهم “مواطنين ليبيين مسلمين إيطاليين”. وكما خلَّد أجدادُهم الأوائل ذكرى كاراكلا العزيزة بالتشبث بالجرد رمز المواطنة والحرية جيلا بعد جيل، قام الليبيون مرة أخرى بتخليد هذه الذكرى المجيدة بالتشبث باسم ليبيا إلى هذه الساعة على هذا الكيان الجغرافي، الذي كان أول من أطلقه مُوحِّدا أطرافه المترامية المشير أركان حرب  إيتالو بالبو.  قبل هذا التاريخ، لفت مجيد خدوري كما أشرت في كتابي (الرقص مع الذئاب) إلى أن ليبيا عادة ما ينسب سكانها إلى أقاليهم الجغرافية، كالطرابلسيين، والبرقاويين، والفزانيين.

إن الحديث عن هاتين المناسبتين المهمتين، لابد أن يصحبه الإجابة عن سؤالين على درجة قصوى من الأهمية: الأول، ما هي المواطنة؟. والثاني، من هو المُحتل؟. على ضوء الإجابة الموضوعية الصريحة عن هذين السؤالين، يمكن البدء في الوقوف على خطوات عملية للخروج من حفرة الدم. لقد فعل هذا قبلنا اليابانيون والألمان بعد وقوع بلديهما تحت سيطرة الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية. قَبِلَ اليابانيون بالأمر الواقع، وأجابوا عن السؤالين بجرأة وتجرد وموضوعية وواقعية وخرجا بأقل الأضرار؛ لتصبح ومعها ألمانيا في عقود من الزمن قليلة من أكبر اقتصاديات الكرة الأرضية. في هذا الصدد، يقول الياباني نوتوهارا صاحب كتاب (العرب وجه نظر يابانية) بأن:

“كثيرا ما واجهت هذا السؤال في البلدان العربية: لقد ضربتكم الولايات المتحدة الأمريكية بالقنابل الذرية فلماذا تتعاملون معها؟. العرب عموما ينتظرون من اليابانيين عداء عميقا للولايات المتحدة الأمريكية لأنها دمرت المدن اليابانية كافة، ولكن طرح المسألة على هذا النحو لا يؤدي إلى شيء. علينا نحن اليابانيين أن نعي أخطاءنا اولا ثم نصحح هذه الأخطاء لأننا استعمرنا شعوبا أسيوية كثيرة ثانيا. وأخيرا علينا أن نتخلص من الأسباب التي أدت إلى القمع في اليابان وخارجها. إذن المشكلة ليست في أن نكره أمريكا أم لا، المشكلة في أن نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم أن نمارس نقدا ذاتيا بلا مجاملة لأنفسنا بعدئذ نختار الطريق الذي يصحح الانحراف ويمنع تكراره في المستقبل. أما المشاعر وحدها فإنها مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلا”

على سبيل المثال، على أي أساس يمكن اعتبار أمة ما أمة مستعمِرة وأخرى مستعمَرة؟. بمعنى آخر، كيف ارتكز في أذهان المسلمين الليبيين أن الطليان محتلون وغزاة،في حين أن العرب فاتحون ومحررون؟. بالطبع، لا يسع المجال هنا للإطناب والشرح والتفصيل، لكن ثمة نقاش موضوعي جدي وعميق حول هاتين القضيتين في كتابيَّ اللذين سيصدران هذا العام 2023: (1) من العبودية إلى العبودية ، و(2) من نحن؟. الأول يتناول قضية مفهوم العبودية في الفكر الإسلامي، والثاني يتحرى قضايا الهوية في ليبيا ومفاهيمها وحدودها وملابساتها وتلفيقاتها؛ لأن الهوية في المقام الأول مفهوم تلفيقي بامتياز، يقوم على “الوهم” حسب ابن خلدون، يدور مع المنفعة والمصلحة وجودا وعدما.

بناء على ما تقدم، فإن الفشل الذريع -خلا هاتين اللحظتين التاريخيتين-لا أقول في تحقيق، بل في الاتفاق على قضيتي المواطنة وإرادة العيش المشترك بمعناهما الحداثي، الذي صاحب كل المحاولات على طول التاريخ الليبي وعرضه ومن جميع الأطراف، يستدعي حقا النظر بجدية في البحث عن عوامل نجاح هاتين التجربتين الفريدتين. ولعل أول لزوميات الاستدعاء هو النظر في خريطة ليبيا. لو وضعنا الآن خريطة ليبيا أمامنا وفتحنا أعيننا جيدا، لسوف نرى بوضوح ما رآه كاراكلا وبالبو، مع الأخذ في الاعتبار فروق الظروف التاريخية والمعالجة في التجربتين. ستتجلى أمامنا القضايا المصيرية التالية:

(1) الجغرافيا

(2) الدين

(3) الاقتصاد

في صيف عام 1933، أكمل إيتالو بالبو رحلته الشهيرة إلى شيكاغو عبر المحيط الأطلسي، ووصل إلى ذروة مجده وتم الاحتفال به في إيطاليا وخارجها باعتباره كولومبوس الثاني. لم تمر عدة أشهر بعد إنجازه للطيران حتى تلقى المشير أركان حرب رسالة عاجلة من الدوتشي موسوليني بتاريخ 31 أكتوبر 1933، يخطره فيها بتعيينه حاكماً وحيداً لطرابلس وبرقة وفزان. لم يرحب بالبو في البداية بالمنصب، لكنه في مطلع العام الجديد، أي بتاريخ 15 يناير 1934، أطل المشير فجأة على متن باخرة ملكية فاخرة على شواطئ طرابلس. كان أول ما فعله المشير هو أن فتح خريطة هذا الكيان للنظر في الجغرافية السياسية. أصيب بالدوار وعاش في عامه الأول مرعوبا ومضطربا بعض الشيء من حجم المهمة شبه المستحيلة، ما انعكس في رحلاته المتكررة بين المستعمرة وإيطاليا. بصراحة، لم يرغب بالبو بأن تكون ليبيا “منفاه الذهبي”، ولا أن يصبح فيها “الصقر الوحيد”، إذ ضرب صحفا عن الاهتمام بقصيدة شعبية طويلة، نشرت في (ليبيا المصورة)، نظمها عبد القادر بك المنتصر ابتهاجا برحلة المشير “الباهرة”، التي يقول في مطلعها:

”يا وحيد أوربا.. يا نسر جولان الهوا وحجبه.. يا جسر تيار العدو لا جبى.. واخلاط الوايب لا النهار تحامي.. من يوم جيتنا جانا الفرح من ربه.. وزهي وطننا وفتح بواب افامه…“

بعد عدة مناقشات طويلة مع الدوتشي، تبخرت مبدئيا مخاوف بالبو  بالموافقة على إدماج الأقاليم الساحلية كخطوة أولى في مستعمرة واحدة اسمها ليبيا. من هذه اللحظة، حصل المشير بالبو على ما يريد، حرية أكبر في العمل، حيث يمكنه البدء في التخطيط للتنمية الشاملة. وصل إذن المشير بالبو إلى طرابلس؛ ليصبح قريبا أول حاكم لليبيا بأقاليمها الموحدة. كانت مهمته الصعبة تكمن في بناء خطة تنموية شاملة، تستهدف إقامة بنية تحتية للبلاد المدمرة، لا سيما لقطاع الموصلات والخدمات العامة، لترقية ليبيا في مستوى إيطاليا مع الحفاظ على ثقافتها المحلية وإدخال البلاد في لجج الحداثة، عبر استجلاب نحو 20 ألف مستوطن إيطالي، وإطلاق يدهم في استصلاح وتعمير الأراضي والقضاء على زحف البدونة الهادر. مع منح الجنسية الإيطالية اعتبارا من يناير 1939، كانت الخطة طويلة المدى تستهدف توطين 500 ألف مع حلول عام 1950. بدأت البداوة في الانحسار، انتشرت دور السينما والحانات والملاهي والمقاهي والأقواس والمباني ذات والتصاميم المعمارية المبهرة.

إذن، كانت أول شروط التنمية هو ملء هذا الفراغ الهائل بالسكان الحضر مهما بلغ الثمن. وكما أشرتُ في كتابي (الرقص مع الذئاب)، إلى حقيقة ليبيا الجيوسياسية، بوصفها بلادا شاسعة المساحة، تكاد تكون خالية من السكان، تحتل موقعا جغرافيا استراتيجيا، على ضفاف البحر المتوسط، يُعدُّ الشاطئ الأطول بلا منازع، لذلك كان لابد على بالبو من إعطاء الجغرافيا الموقع الذي تستحق. لأن جغرافية ليبيا وفقا للمصري جمال حمدان هي ما يحدد تاريخيا مصير الحكم والشعب. الجغرافيا بمعنى آخر، هي من جعلت من ليبيا دولة فراغ قوة، أو ما يعرف في العلوم السياسية بـ(Power Vacuum)، الأمر الذي ترتب عليه أن تكون دائما، تحت ضغط الخطر الخارجي. هذا الفراغ السياسي، “فرضته (1) الموقع الجغرافي الاستراتيجي؛ (2) فراغ السكان؛ (3) سعة المساحة؛ (4) وقوعها بين كتلتين سكانيتين ضخمتين، أحدها في المشرق، والأخرى في المغرب؛ (5) شح الموارد الاقتصادية”. كل هذا جعل من حمدان، يخلص إلى أن ليبيا “دولة جغرافية، لا دولة سياسية؛ أي من صنع الجغرافيا، لا من فرض السياسة”.

بدأ تحديث ما يسمى بـ “الشاطئ الرابع” أولاً وقبل كل شيء بتحسين شبكة الاتصالات الجوية والهاتفية، لكن أشهر مشروع لبالبو من حيث العظمة وسرعة البناء،كان Litoranea Libica، وهو طريق ساحلي بطول 1822 كيلومترًا، الذي يمتد من الحدود التونسية إلى المصرية. اكتملت في أكثر من عام بقليل بين عامي 1936 و 1937 ، فرضت Litoranea نفسها كمثال ملموس على “الحضارة” التي جلبتها إيطاليا  إلى ليبيا، والتي قدمت نفسها على أنها الوريث التاريخي الشرعي المباشر لامبراطورية روما. كانت التحسينات في مجال الاتصالات والمواصلات هي الخطوة الأولى، في نظر بالبو ، بإظهار أن ليبيا أصبحت الآن أرضًا آمنة يمكن الوصول إليها بسهولة بحرا أو جوا. التزام المشير كان يهدف إلى إعادة إطلاق صورة ليبيا بشكل حاسم: يجب ألا تظهر ليبيا بعد الآن على أنها أرض الاشتباكات وقمع السكان. ولكن كوجهة مثالية جاهزة للترحيب بكل من السياح من شتى بقاع الأرض، من أولئك الباحثين عن إقامة خيالية هانئة. لهذا الغرض، أثبت دور بالبو باعتباره “نهضويا” من الطراز الأول، أي كمروج للبنى التحتية والمباني الليبية، ولاعبا أساسيا ومهندسا معماريا رائعا. ولو لم تقم الحرب العالمية الثانية وتكون إيطاليا طرفا أساسيا فيها، ولم يرحل بالبو مبكرا عن عالمنا، واستمرت النهضة بوتيرتها السريعة، لكان تعداد سكان ليبيا الآن يناهز الخمسين مليون نسمة على أقل تقدير، وهو الرقم الذي يشكل أمنا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في حده الأدنى. ناهيك عن المجتمع الكوزموبولتي، الذي سينتج عنه هذا التنوع البيولوجي والتفاعل الثقافي والحضاري. 

في خطاب له بمناسبة منح المواطنة لليبيين في يناير 1939، قال بالبو: “لن يكون لدينا في ليبيا حكام ومحكومون، بل إيطاليون كاثوليكيون وإيطاليون مسلمون، وكلاهما متحد في مصير يُحسد عليه لكونه اللبنات الأساسية لبلاد قوية عظمى”. لقد اعتنى بالبو بالمسألة الدينية وعالجها من منظور براغماتي شديد الدهاء، شدد فيها على أهمية الاعتراف بالدين الإسلامي كديانة للسكان المحليين، متحملا كل ما يستلزمه هذا الاعتراف من برامج عمل وتطوير وتحديث، لم يترك فيها مجالا لخروج الدين عن عقاله الجامح، أي في حدود ممارساته الشعبية الطقوسية لا أكثر. كان هو ذات الحل الذي استخدمه كاراكلا، الصرامة واللين في آن واحد، الصرامة تجاه المهرطقين من المسيحيين واليهود، الذين يسعون إلى تخريب السلم الاجتماعي في المجتمع الروماني الوثني، واللين مع عبدة الآلهة المتعددة. مع ظهور مع يُسمى بـ”الديانات التوحيدية”، واختراع الشيطان والمخاريق تطور الأمر إلى ما آلت إليه الأوضاع الآن، كان يجب معالجة الدين معالجة حداثية صارمة بوضعه في حجمه المناسب له. وإذا لم تعالج مسألة الدين في ليبيا الآن بنفس الوسائل الحداثية “العلمانية” التي تم استخدامها في بعض دول أوروبا، فلن يكون للبلاد في رأيي أي مستقبل. الاهتمام بالدين والجغرافيا لابد أن يوازيهما اهتمام بالاقتصاد، يجب على ليبيا أن لا تكون ذات اقتصاد ريعي، لذلك حاول بالبو تغيير هذا النمط السائد منذ قرون والمتمثل في تجارة البشر والتمشيط وقطع الطرق، الأمر الذي عبر عنه معظم الرحالة الذين مروا بهذا الكيان، ليس أقلهم شأنا ابن بطوطة والعبدري والتيجاني والعياشي.

فعلا، اهتم الرومان بشكل أساسي بثلاثة أشياء أهملها الإغريق، وهي فتح الطرق وبناء قنوات المياه والتخلص من المجاري. قام الرومان بالتخطيط والتحكم في المساحة وربطها بالطرق، مما أدى إلى إنشاء هياكل واقتصاديات جديدة مواتية بشكل متزايد للرفاهية، مقارنة بالبدائل الموجودة مسبقًا، مما عزز التكامل والتبادل بين السكان على اختلاف خلفياتهم الثقافية والعرقية. صارت ليبيا سلة روما الغذائية، وصار نبيذ سيلين من أشهر وأجود أنواع النبيذ في البحر المتوسط. في كلمة واحدة: الكتابة بالحروف اللاتينية للهجة المحلية عرفت باسم Latino-Punic inscriptions ظهرت في لبدة الكبرى تحت تأثير Libyco-Berber language، أو اللغة الليبية البربرية. قفزت الميزانية من 28 مليون ليرة عام 1933، إلى 54 مليون ليرة 1935، لم يسرق منها بالبو مليما واحدا. شملت المدارس، المعاهد الدينية، الإدارة، السجون، المعسكرات، المتاحف، المسارح، والمعارض، السباقات الرياضية وأشهرها سباق الفورملا ون، المدن الأثرية، المزارع النموذجية، المصانع، الشواطئ والفنادق السياحية، الفنون والثقافة والمجلات الدعائية، الطيران والمطارات الجوية، السكة الحديدية، الجنسية الإيطالية، الوقف الإسلامي، الكشافة، التكوين المهني والصناعات التقليدية، والمستوطنات والموانئ والطرق إلخ. اختار بالبو الإقامة طيلة الست سنوات (1934-1940) في مكتبه المتواضع بقلعة السراي الحمراء. عارض بقوة تحالف موسوليني مع هتلر، كما احتج بشدة على القوانين العنصرية، التي تم شرعنتها عام 1939. ولا ينسى هجومه الشنيع على سلفه السفاح غراتسياني. كل هذه المواقف وغيرها جعلته على موعد في  28 من يونيو 1940، حينما هوت طائرته من سماء طبرق بعد إصابتها بنيران إيطالية “صديقة”، يؤمن أكثر من 90% من الإيطاليين اليوم، بأنها كانت عملية مدبرة من موسوليني؛ للتخلص من أهم أعدائه، وهو الذي قال يوما ما “إذا كان أحد ما في إيطاليا قادرا على قتلي فهو بالبو”. حضر تشييع جثمانه في كل من بنغازي وطرابلس عشرات الآلاف، وتم دفنه حسبما أوصى في ليبيا، لكن جثمانه أخرج من القبر في السبعينيات من القرن الماضي ليعود إلى إيطاليا كاراكلا.

في آخر رسالة له قبل أن تطوى صفحته طي الصحف، قام بتوجيه كلمته إلى الليبيين في طرابلس، لتهنئتهم بمناسبة حلول عيد الفطر السعيد عام 1938، نشرتها “مجلة ليبيا المصورة” تحت عنوان (الاحتفال بعيد الفطر السعيد في ليبيا)، بحضور قاضي القضاة وعدد من الوجهاء والاعيان. ربما تكون هذه الكلمة بمثابة رسالة وداع من المشير حاكم ليبيا “بالبو” إلى الليبيين؛ لأنه كان قد رحل عن عالمنا، بعد هذه الكلمة المؤرشفة بعامين تقريبا في يونيو 1940. يقول المشير:”أغتنم هذه الفرصة، لأبلغكم تهاني القلبية للمرة الخامسة بعيدكم العظيم، ولا حاجة لإلقاء خطب، نشرح بها ما حدث من الأمور الهامة، لأنكم جميعا مطلعون تمام الاطلاع على أهم ما وقع من الحوادث الهامة عن كثب، فإذن لا حاجة لتكرارها ثانيا عليكم. كما أنني أغتنم نفس الفرصة، لكي أدعوكم للتضامن ومشاركة الحكومة في العمل، لتجنو من البلاد ثمارا طيبة في الغد، ضعف ما كانت تثمره في الماضي، لا سيما بعد أن زالت عن البلاد صفتها الاستعمارية، وأصبحت جزءا من المملكة لا يتجزأ.  وبهذا الحادث، قد ارتفع شأن هذه الديار وازداد المسلمون شرفا. فيجب التعلق بإيطاليا أم الجميع، كما يجب أن تتوجه مساعينا لعظمة إيطاليا، وفي الختام، أكرر لكم التهاني بعيدكم من صميم الفؤاد”.

أعتقد أن ثمة فرصة تاريخية أخيرة؛ لنصحح جذريا ما إذا كان ابن خلدون -ومعه معظم الرحالة الذين مروا بليبيا- على حق أم لا، حينما قال في جملة تنسب إليه: “ما بين الأزهر والزيتونة مفازة يسكنها قوم من الأوباش“.


ليبيا المستقبل، 2023/05/10

مقالات ذات علاقة

غابت سنة أخرى

عمر أبوالقاسم الككلي

برلمان.. اعترافات إنسان

نورالدين خليفة النمر

قراءة: الصادق النيهوم مفكّر إسلامي!

المشرف العام

اترك تعليق