طيوب النص

من تقطير العزلة

من أعمال التشكيلية الليبية إسراء كركره
من أعمال التشكيلية الليبية إسراء كركره

كنت لا أغادر شقتي إلا نادرًا، محشورًا معظم يومي في غرفة المكتبة، غير هيّابٍ أن أتعفّن بجوار الجاحظ، وابن المقفع، وبورخيس، وكافكا، وانسي الحاج ولاوتسو، وأغوثا كريستوف، وخوان رولفو، وماركيز، وكويلو؛ أن أتعفن بكرامة بين الكتب؛ لهو أكثر شرفاً من الانتماء إلى عصابات القتلة.

أحيانًا أعزّي نفسي، فأقول: سواء أكانت أفكاري واضحة أو مشوشة، عليها أن تقترف مادتها بلا تحفّظ، أن تخرج من كومة رأسي وتستعير ما يليق بها من عبارات؛ أن تباشر الإعلان عن كونها معنية بي بالقدر الذي يجعلها تشير بطريقة واضحة، يُفهم منها دونما لبس، بأن شخصا ما يريد أن يكتب. وان كنت لا أجد أيما غضاضة في الذهاب بالكتابة إلى فعل الغائط، طالما لا مناص للمرء من أن يتخرأ. هذا ما كان يجعلني اجترّ قلقًا مضنيًا في صباح يوم الاثنين الخامس من نوفمبر 2012 حيث سيتعيّن على الكهل الذي كنته أن يستيقظ مبكرًا، وقد استقر عزمه أخيرًا على الذهاب إلى مقر منظمة قدامي المحاربين. كنت مترددًا، أحسب المسافة من بيتي إلى هناك. في البدء كان لا مفر من تهيئة نفسي. لهذا تطلّب الأمرُ وقتًا إضافيا من التفكير، إذ قضيتُ قرابة شهرين وأنا اروز هذا الثقل؛ لأن مسألة الخروج إلى الشارع باتت تزعجني. قالت العجوز: كنْ شجاعًا وتوكّل على الله، فلم أعرها اهتماما، حتى أنني أستغرب كيف أمكنها سبر ترددي. أمي دائما تتربّص بأفكاري. هذه العجوز الخرفة عليها أن تدعني لحالي، أنا ميّت منذ زمن، ولا أريد تكريمًا أو تعويضًا من منظمة المحاربين القدامى. فهم محض شلة متبطلة أقامت تجمعًا، ونشرت العديد من الإعلانات الدعائية لجذب البؤساء والخائبين من جنود الجيش القدامى، ممن شاركوا في حروب تشاد ولبنان وأوغندا؛ وبذا استدرجت عشرات الآلاف منهم للتسجيل في عضويتها وقد دفعوا لإدارتها – عن طيبة خاطر-  رسوم اشتراك؛ بعد أن أغوت أولئك المساكين تلك الأرقام الخيالية بالنسبة لهم، والمعلن عنها في الصحف المحلية والنشرات والمطويات الملونة، كنوايا طيبة  لجبر الضرر أو هي بمثابة تعويض مجز عن أضرار الحرب التي خاضوها بأوامر من الطاغية. كنت قبل أن تقتحمني أخبار وحكايات مزاعم تعويض المحاربين القدامى أؤثث سردًا عن جندي مشاة – ربما ذلك أنا – لكن ها قد تعذر عليّ العودة لمواصلة السرد.

حيث أحاول دونما جدوى استئناف الكتابة في روايتي التي تقطّعت أطرافها. كما لو أن جريمة ما قد ارتكبت داخل مخيلتي لأسباب تتعلق بالعبث وحده حين تتمنّع اللغة، وأن قردة أشقياء يلعبون بأعواد ثقاب داخل مستودع ذخيرة. لهذا: عندما لا تعثر عَلَيَّ الكلماتُ، أنا ضائع.

مقالات ذات علاقة

24/12 كذبة بيضاء

مفيدة محمد جبران

حكاية مدينة

المشرف العام

صَوْتُ ضَمِيرِكَ الْحَقِيقِيِّ وَنِدَاءَاتُ وَاجِبِكْ

علي بوخريص

اترك تعليق