الدكتورة/ كاريس أولسوك – من جامعة “كامبريدج” البريطانية.
ترجمة الناقد/ مازن مصطفى – لندن.
منذ البداية، تمثل رواية سالم الهنداوي “الطاحونة” إيماءة لرواية الصادق النيهوم “من مكة إلى هنا”، فتبدأ بكلمة “هنا” منفصلة على سطر لها وحدها.
في رثاء النيهوم، يصنِّف الهنداوي “من مكة إلى هنا” كأهم الروايات الليبية على الإطلاق، ويعتبر أن للمؤلف الأكبر منه سناً، تأثيراً مهماً على أعماله. كما يكتب أن جُل الروائيين من جيله وقعوا تحت تأثير النيهوم “بوعي” منهم أو “من دون وعي“.
بعد لقاء في طرابلس منتصف السبعينيّات، أولى النيهوم اهتماماً خاصاً بالهنداوي، عارضاً عليه العمل معه في جنيف، وهو عرضٌ رفضه الهنداوي لأجل الدراسة في لندن عام 1976.
بعيداً عن هذه الحقبة القصيرة من الدراسة، فإن الهنداوي مؤلفٌ صنع نفسه بنفسه إلى حد كبير. فقد وُلد في بنغازي ونشأ فيها، وترك المدرسة قبل أن يُكمل دراسته الأساسية، وعمل طيلة حياته في الصحافة والإذاعة والأدب. نُشرت مجموعته القصصية القصيرة الأولى “الجدران” عام 1978، وتلاها العديد من المجموعات، كما الروايات، منها “الطاحونة” التي صدرت عام 1985، وهي روايته الأولى والأشهر.
وإذ تقع أحداثها في قرية “ما بين الصحراء والبحر”، في بلد يحكمه “الصعاليك الثوريون”، إلّا أن الرواية لم تذكر قط ليبيا صراحةً رغم أنها تستثير بقوة السياقات التاريخية والجغرافية والسياسية المميّزة لهذا البلد، أكثر من ذلك فهي رواية البقاء بامتياز، حيث تصوُّر حياة القرويين المستعبَدين، بالقدْر نفسه، لقوى الطبيعة وظلم الحُكّام، وذلك في أجزائها الثلاثة، “نداء الظمأ”، و”نداء الموت”، و”نداء المطر”.. توصف الطاحونة بأنها “رواية العطش في حياة العرب”، وتؤشر إلى اللفح الحارق للقمع السياسي، فإن أوجه الشبه بينها وبين “من مكة الى هنا” تظهر بكل جلاء من خلال أيقونية القوة المبنية تجاوراً بين بغل منعزل ويعاني، وكتلة من الثيران ترمز حرفياً ومجازاً الى كل ما هو فاسد في البلد.
وبتوجيه من السلطان ووالي المدينة والمختار، يهجر سكّان القرية النائية الزراعة التي بالكاد توفر لهم سبل البقاء، ويكرِّسون أنفسهم لرعاية الثيران لبيعها في المدينة. يتماهى هذا مع “من مكة إلى هنا” حيث الرعاية المتعمّدة للاعتقاد بقدسية الحيوانات، وحيث تربيتها مغلّفة بقوانين رسمية ونظام ضريبي غير عادل، هدفه إبقاء القرويين في فقر كي لا يثوروا، كما يقول الهنداوي في الطاحونة: “بالقوة، حافظت الحكومة على طريقة عيش هي بالضرورة منقوصة، حيث يظل الناس، من دون استثناء، منهمكين بالكامل وبالكاد لتوفير لقمة الخبز”. وإذ قيل إن الثيران أصبحت”رمز البلاد وشعارها”، فإنها ترمز الى الحكام وسياساتهم الاستغلالية معاً.. وربما تشير تحديداً إلى محاولات النظام غير المسؤولة لتربية القطيع في منطقة “الكفرة” كواحدة من تبذيراته في المشاريع الزراعية، وبمعنى أوسع، التأثيرات المتناقضة للنفط على التطور المستدام للبلد. في الأثناء، تندفع حبكة الرواية نحو تجريد الثيران من رمز القوة، ومن ارتباطها التقليدي بالفحولة، وتحويلها إلى مُجرّد “بغال” مسنّة.
بعد انهيار طاحونة القرية، والتي شكلت في السابق نقطة التجانس المجتمعي، يصبح ذلك البغل، مع مالكه العجوز، المصدر الوحيد للماء الذي يجلبانه من نبع بعيد. ومع انفتاح الرواية، يصوَّر مختار القرية وهو يحرِّض القرويين ضد الورّاد العجوز الذي رفض الاستمرار في رحلاته بسبب البغل الذي خارت قواه الصحية. ومع انقطاع القرية عن العالم الخارجي، يصبح الخوف من الجفاف جوهر الدراما.
العطش، مثل الثيران، يرمز إلى الحُكّام وسياساتهم الاستغلالية رمزياً وحرفياً، إذ بعد أن أثبت المستعمِر السابق أن أقصى همّه هو التنقيب عن النفط، وبعد فشل الحكومة الجديدة حتى في إصلاح البئر، بات القرويون تحت رحمة الحيوان الضعيف.
وبالرغم من مركزية وجود البغل في حبكة الرواية، إلّا أن وجوده السردي لم يسلَّط عليه الضوء، وذلك بالتوازي مع تغاضي القرويين عن مركزيته لبقائهم: “وحتى بعد مرور سنوات، لم يُدرِك سكان القرية أو المختار الذي يحكمهم أن اعتمادهم على الورّاد العجوز كل صيف كان خاضعاً لاعتماده على البغل الكهل”.. وكما لاحظ “جيل بو” فإن البغال والحمير لم يحظوا سوى بالقليل من الاعتراف بالنسبة إلى دورهم الرئيس في نشوء الحضارة الإنسانية.. لكن هنا “الطاحونة” تقلب ذلك. ورغم أن البغل ليس في المركز، ولا يحظى بوصف يتعدّى أسطراً قليلة، إلّا أن الورّاد لا يُذكر في الغالب من دون إشارة إليه وهو يعتني بالحيوان أو يسقيه ما ندر من الماء أو يربّت على جلده.
إن الرقة في علاقتهما تتناقض مع الإشكالية التي تطغى على بقية الرواية. ومثل “مسعود والفأر”، يحدِّد الورّاد خصائص لدى البغل يفتقدها الإنسان، ويُلح: “هل رأيت قطعاً أي مخلوق أكثر نبلاً ووفاءً لأهالي القرية من هذا البغل؟“.
وبالرغم من حقيقة أن القرية على شفير الموت، يواصل الورّاد التفكير بالبغل، رفيقه الوحيد خلال سنوات الاستبداد والفقر التي عانت منها القرية. وإذا كان الورّاد يصف نفسه بتواضع “واحداً من عباد الله في القرية”، فإن إدانته القرويين وممارساتهم في احتضان الثور، تتركزحول ما اذا كانوا سيتنازلون ويحملون جثة بغله حين يموت، معلناً: “أنا من سيدفن هذا البغل، وسأنقله بالعربة، وستكون هذه المرة الوحيدة التي سأجرّه“.
وفيما يرمز اعتماد القرية المستمر على الحيوان إلى فقرها، فإن البغل وولاء مالكه له هو ما ينقل الرواية إلى ما هو أبعد من الرمزية ونحو تعابير حسن الضيافة. إن منزل الحيوان والإنسان، الممتلئ بأصدقاء منبوذين آخرين، يشكل انتباذاً تنازعياً إذ لا يسمح للمختار والقرويين الغاضبين بدخوله: “لم يصدِّق أحد أن سيِّد القرية الذي بإمكانه ولوج أي باب في المدينة كما يشاء، بما فيه قصر الوالي، يجد نفسه ممنوعاً من الدخول إلى بيت بائس يؤوي بغلاً وكلباً، ومجنوناً معتوهاً خارت قواه من تجارب الحياة.
الثيران، في الأثناء، تصبح المجال الذي يتحدّى فيه مورّد الماء، مثل مسعود، القوة، معلناً أنه لن يعود الى النبع حتى يهبه المختار ثوراً للقيام بعمله. يوافق المختار على أنه إن استطاع مسعود ترويض الثور في حظيرته، حينها بإمكانه قيادته إلى النبع، لكنه حذّره إن فشل، فسيطرده من القرية.. بهذه الطريقة، عندما يواجه الورّاد الثور فإن عمله، مثل مسعود، هو عمل من أعمال التمرُّد، لكنه أيضاً من أعمال التضحية، فحين حاول التخفيف عن بغله رحلة أخرى إلى البئر، فإنه تعرّض للضرب حتى شفير الموت.
بعد هزيمته، تنتقل الرواية من “رمزية الحيوان” الى “رمزية المطر” حين يستجاب تعطش القرويين للماء. وفي تكرار “أنشودة المطر” للسياب، تتكرّر معه كلمات “مطر، مطر” لتدُلّ على القيامة والفداء والتجدُّد. وكما في كلمة “هنا” التي افتتحت الرواية، هم أيضاً معزولون عن السردية الأساسية.
في غضون ذلك، ومع مجيء المطر المنتظر طويلاً، يأتي التجدُّد بالمعنيين، الحرفي والرمزي، حين يجبِر شيخ القرية، وهو من الحلفاء القلّة للورّاد، القرويين أخيراً على طرد المختار وثيرانه، معلناً له: “يؤلمني أنك ترى العالم مقلوباً رأساً على عقب، علَّمتنا هذا، وإلى الأبدية، أن العالم يستقر على قرن ثور. هذه حكمة الأقوياء”.
ومع استعادة الضعفاء قوتهم، يعطي المطر دفعاً لدعوته القرويين إلى الإيمان بالله، وإعادتهم من عبادة الثيران إلى دين أبسط، يستند إلى رؤية الله في صلواتهم اليومية الخمس.
في هذه الأثناء، يرى المختار في كابوس، أن القرية صَلُح حالها، والورّاد استعاد عافيته، وبغله “يرقص بفرح“.
هذه النهاية النابضة بالحياة، والتي تتماهى مع بعض جوانب “فئران بلا جحور” لأحمد الفقيه، و”من مكة الى هنا” للصادق النيهوم، و”نزيف الحجر” لإبراهيم الكوني، لهي أكثرمباشرة وأملاً معاً، حيث المطر والبغل الراقص لا يمثلان خلو الوفاض بل التجدُّد الاجتماعي.
رواية “الطاحونة” لسالم الهنداوي رؤية ثاقبة لهزيمة الطغيان، تنتقل من “حكمة الأقوياء” إلى رؤيا أرض الله مستصلحة من خلال المطر ورفقة رجل مع بغله. ورغم ان البغل لم يعطَ قيمته إلّا أن إمراضه واحتمال موته، تمثل عناصر مهمّة لدعوة الورّاد إلى العدالة، وبطرق شتى يتراءى الكلب رمضان ليأتي ثانياً.
وبينما يبدو رمضان محورياً في السردية أكثر من البغل، إلّا أن حضور الكلب سردياً يبقى من بعيد، يعلِّق على أخطاء البشر ومظالمهم من خلال جسده البسيط وحركته في أرض الله.
* جزء من دراسة مطوّلة في “أدب الحيوان”. نقلها إلى العربية بتصرّف الناقد/ مازن مصطفى (أستاذ الدراسات الثقافية السابق في جامعة بير زيت والمؤسِّس ورئيس التحرير الثقافي السابق في محطّتي mbc والحوار بلندن.