قصة

نظارة أبي..

من أعمال التشكيلية خديجة جيب الله.
من أعمال التشكيلية خديجة جيب الله.

كل هذا يحدث وأنا أرتدي نظارتي الطبية.. في الواقع هي ليست نظارتي.. العدستان لي والإطار لأبي.. منذ يومين وقعت نظارتي الطبية على الأرض.. تكسرت.. أخذتها لمحل النظارات.. قال النظاراتي (النظارة تأخذ سوك).. لابد من عمل نظارة جديدة.. تذكرت نظارة أبي.. كنت أحتفظ بها بعد رحيله عن عالمنا.. أخذتها للمحل.. أعجب بها النظاراتي وقال.. إطار إيطالي ماركة ممتازة. ونزع العدستين.. ثم أعاد تركيب عدستين طبيتين بمقاس نظري.. صارت النظارة الطبية بإطار لأبي وعدستين لي.. ارتديتها.. جلست أمام الكمبيوتر.. راقت لي فكرة النظارة الطبية.. قلت لنفسي وجدتها.. هي فكرة لقصة قصيرة.. فتحت الوورد.. وبدأت أكتب.. أبي كان يكتب القصة القصيرة.. غاص في تفاصيل المجتمع الليبي.. رسم بالقلم تفاصيل الحياة اليومية.. نقرت بإصبعي على أول حرف.. دخلت مدرسة الأميرة.. في الفصل كان الأستاذ الصادق بالة يشرح جدول الضرب..

 في حصة اللغة العربية وقف الأستاذ حسين فليفلة أمامنا.. واختار بعض الطلاب المتميزين في اللغة العربية.. وبدأوا في حفظ نص مسرحي أعده الأستاذ حسين.. بعد أيام كانت المجموعة تعرض مشهدا تمثيليا.. يحكي عن سيرة الإمام العادل عمر بن الخطاب..

لازلت أكتب على لوحة الكيبورد.. النظارة الطبية لها حكاية.. كانت تخص أبي.. فيما بعد أصبحت ضمن محتوياتي الخاصة.. وعندما اشتعلت المواجهة بين الدواعش والجيش.. نزحنا من الصابري.. تركت النظارة.. نسيتها.. لم أتذكرها.. أخذنا بعض الأمتعة والمستندات.. وفي الصباح الباكر كانت زوجتي وأولادي داخل السيارة.. غادرنا البيت نازحين.. قصف الطيران المنطقة. واشتعلت المواجهات.. كانت النظارة الطبية في الأمتعة التي تركناها.. والقصف قريب منها.. والمعارك.. كانت شاهدة على أصوات القنابل والرصاص. أنا الآن أرتديها.. أنظر من خلالها.. وأكتب..

ذات ظهيرة كان أبي قد جمع كل ما يخصنا من ملابس وأشياء.. وأمام المنزل المسقوف باللوح كانت تتوقف عربة (كارو) يجرها حصان.. ركبنا العربة أنا وأمي وإخوتي.. وضع أبي الأمتعة إلى جانبنا.. وقفز إلى جانب السائق.. كان الخوف يدب في القلوب.. والناس في الشوارع مذعورة.. الحرب اشتعلت.. وإيطاليا تحالفت مع الألمان.. المدينة أصبحت هدفا للغارات الجوية.. والناس نزحوا إلى شرق المدينة وغربها.. جذب السائق الحبل المربوط به الحصان.. وقال.. (أررررر..) مضت بنا العربة وأنا أتساءل هل فهم الحصان صوت السائق أم أحس بجذبه للحبل.. غادرت العربة شارع (بوخمسين).. عبرت باب السور.. واتجهت ناحية (اللثامة).. بعد أيام قصف الطيران المدينة.. ووقع بيتنا بحوائطه الطينية ركاما على الأرض.. توقفت الحرب.. بنغازي كئيبة.. قصفها الطيران.. دمر البيوت.. الدمار والبؤس في الشوارع.. بيتنا مهدم.. ما علاقتنا بالحلفاء والمحور.. سأكتب قصة عن هذه الحرب. وعن دكاكين حميد واللثامة وعام الهجة.. والسكان الذين لا ذنب لهم.. عمال بسطاء وأصحاب دكاكين صغيرة لا يعرفون هتلر أو تشرشل.. ولا يميزون بين الألمان والإنجليز..

مضيت عبر شارع (سيدي سالم).. توقفت عند ضريح المرابط.. قرأت الفاتحة على روح (سيدي سالم) وتذكرت دعاء أمي.. كانت ترفع يديها.. وتدعو بجاه كل صلاح البلاد. عبرت القوس المؤدي لميدان البلدية.. كان يوم جمعة.. والناس مجتمعون في الميدان.. وقفت أتفرج على المشهد.. صورة الأمير ادريس معلقة في الميدان على الجهة المقابلة لمبنى البلدية.. رسمها الفنان عوض عبيدة.. ومن الجامع العتيق يعلو صوت الشيخ محمود دهيميش.. يرتل آيات من القرآن.. كان الجميع في انتظار زيارة الأمير ادريس اثناء وصوله من مصر.. بعد قليل وصل الأمير إلى الميدان.. ودخل إلى الجامع لحضور صلاة الجمعة..

كتبت على لوحة الكمبيوتر.. أن بإمكاني أن أذكر اسم الأمير.. وأتحدث بحريتي.. أيام النظام الأخضر كان ذكر اسم الأمير جريمة سياسية.. يساق من يذكره إلى (دار خالته).. ولا أحد يعرف مصيره.. عدت إلى مدرسة الأميرة الابتدائية…. نظرت من النافذة.. كانت الأعلام معلقة في كل مكان.. أحمر.. أسود.. أخضر.. في الصباح جمعونا في الفناء المدرسي.. ومشينا إلى شارع الاستقلال.. كان الناس مبتهجين.. يهتفون.. ليبيا.. ليبيا.. سمعتهم يتحدثون عن الاستقلال.. وخطاب الأمير..

فوق لوحة الكيبورد تنقر أصابعي.. أكتب عن خيالات وصور.. أستحضرها من أقصى الذاكرة.. عن علاقتي بالبحر.. ومولدي قرب الشاطئ. كانت أول مرة أرى فيها الشاطئ عن قرب رفقة والدي.. أذهلني المخلوق الأزرق الكبير.. رأيت الموج يتقدم نحوي.. ثم ينحسر عند الشاطئ.. ولا يكمل تقدمه.. كان الجو غائما.. لم أنس ذلك المشهد.. ربما لأنها المرة الأولى التي أتعرف فيها على البحر.. كبرت قليلا.. حملت حقيبتي نحو المدرسة.. أول مرة أدخل الفناء المدرسي.. أحسست بغربة وسط الطلبة الصغار.. ذكريات تنقر أصابعها على لوحة الجهاز.. تصدر أصوات نقر خفيفة.. أسمعها واضحة في هدأة الليل..

.. مشيت نحو بيتنا.. كان يقع مقابلا للجبانة والسجن القديم.. رأيت أبي واقفا في الشارع.. وجماهير من الناس تهتف.. لم أفهم ما حدث.. حملني فوق كتفيه وسار بي عبر شارع البحر.. سألت أبي عما يدور.. قال.. الملك إدريس عزلوه.. قلت له ما معنى عزلوه؟ قال يعني ترك الحكم.. وأين ذهب يا أبي؟ سافر إلى الخارج.. ومتى يعود من الخارج؟ لن يعود يا بني.. أجاب والدي ونظراته ساهمة في الأفق الممتد بامتداد البحر..

خلعت النظارة الطبية.. توقفت عن الكتابة.. وأطفأت جهاز الكمبيوتر.

مقالات ذات علاقة

الْمنْجَل

أحمد يوسف عقيلة

جرح المدائن البعيدة

جمعة بوكليب

الكرة

عزة المقهور

اترك تعليق