د. رمضان محمد رمضان الأحمر
منذ حوالي أسبوع انتهيت من قراء رواية الْمُجَنَّد (أو قصة مُجَنَّد)، وهي رواية للأديب والأكاديمي الإريتري غبريسوس هايلو Gebreyesus Hailu”” (1906-1993م)، كان قد كتبها سنة 1927م باللغة التغرينية المحلية، ولم تُنشر إلا في سنة 1950م، وبالتالي فهي تُعدّ الرواية الأولى في التاريخ الأدبي لإريتريا، وواحدة من أقدم الروايات المكتوبة بلغة أفريقية (التغرينية). وقد تُرجِمَت رواية الْمُجَنَّد إلى اللغة الإنجليزية بواسطة “غيرماي نجاش”؛ أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب الأفريقي بقسم اللغة الإنجليزية، ومدير برنامج الدراسات الإفريقية بجامعة أوهايو، وقامت بنشرها مطبعة جامعة أوهايو سنة 2012م، وها هي اليوم منشورة باللغة العربية لأول مرة -بعد ترجمتها من قِبَل الأستاذ فرج الترهوني- برعاية دار الفرجاني، الصادرة عنها في طبعتها الأولى سنة 2022م.
والْمُجَنَّد هي رواية قصيرة جدّاً، أقرب إلى السرد النثري، ولغتها تتميز بالشعرية وهي مجازية وغنية بالأمثال الشعبية الحبشية. كما أنّ مضمونها كبير، فهي تطرح -بسخرية وغضب منضبط- التجارب المذهلة للأسكاري الإريتري (الأحباش)، وهم الأفراد الذين جَنَّدهم الجيش الاستعماري الإيطالي للقتال في ليبيا ضد المقاومة الليبية، التي تقاتل من أجل انتزاع حريتها من الحكم الاستعماري الإيطالي، وفيها يُصَوّر غبريسوس هايلو في شخص بطل الرواية (توكوابو)، الشعور باليقظة والإحساس بالندم مع الخزي، حيث أنه وجد نفسه في مأزقٍ ساخرٍ، كونه واقعاً تحت الحكم الاستعماري، وفي الوقت نفسه فهو أداة قَمعٍ لليبيين الْمُستَعْمَرين.
فرواية المجند كُتبت على أرضية تاريخية حقيقية، ممزوجة بواقعٍ اجتماعي مرير في ذلك الوقت، مما أنتج تراثاً شفهياً متوارثاً جيلاً بعد جيل، فهي متجذرة بعمق في التراث الشَّفَهي؛ وبالتالي في الوعي الجمعي لشعب إريتريا، متمثلةً ومتجسدةً في الحكاوي الشعبية التي مازالت تُروى إلى يومنا هذا -من قبل العديد من العائلات في إريتريا- عن قصص الآباء أو الأجداد أو غيرهم من الأقارب، الذين جُنِّدوا في الحملة العسكرية الإيطالية على ليبيا، وذلك على الرغم من أن تلك الحروب وما جرى فيه من أحداث قد مَرّ عليها قرن من الزمان أو ما يقرب من ذلك.
والقارئ في الرواية والمتمعن في سردياتها يجد فيها الكثير من الفقرات الجميلة والنصوص المعبرة، التي تُجَسّد معاني الفروسية والشجاعة واسترخاص النفس، لدى المجاهدين الليبيين في مقاومتهم للاستعمار الإيطالي ومرتزقته، واستماتتهم على قضيتهم، وهي: “إما النصر أو الشهادة”. كما أنها توضح شعور اليقظة ثم الندم والخِزي الذي شعر به الكثير من هؤلاء المجندين الأحباش، لما عاينوه من المجاهدين الليبيين من بسالةٍ في الدفاع عن أرضهم وعرضهم ضد المحتل الغازي، وفي المقابل ما كانوا يقومون به هم، كونهم جند مرتزقة تذهب أرواحهم هذراً في خدمة مُسْتَعْمِر أذاقهم الذّلّ والهوان، ففي ذلك يصف هايلو شعور الجند الأحباش -بما فيهم توكوابو الشخصية المحورية في الرواية- بأنهم:
“شعروا بِغصّة في حلوقهم، وسكبوا دموعاً حزينة عندما أدركوا ما طُلِبَ منهم للتّوِّ. لقد شعر الحكماء من جنود الحبشة بالخجل عند التفكير في هؤلاء البَدو الرعاة الذين كانوا يستعدون للدفاع عن بلادهم ضدهم. لم يكن سكان الصحراء جيدين بشكلٍ خاص في الحرب، وكانوا يفتقرون إلى الأسلحة والذخيرة، كما لم يكن لهم ملك أو رئيس لقيادتهم، ومع ذلك فقد بذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ بلدهم من الأجانب. ومن ناحية أخرى كان من الغريب مشاهدة أبناء الحبشة الذين لم يفعلوا شيئاً في البداية عندما تم الاستيلاء على أرضهم، وانحنوا للإيطاليين كالكلاب (كما لو أنّ ذلك لم يكن مُخزياً بما فيه الكفاية)، ولكن نراهم الآن يستعدون لمحاربة هؤلاء الليبيين، الذين أرادوا فقط الدفاع عن بلادهم…”.
وكذلك في موقع آخر من الرواية يتأمل الجندي الحبشي -توكوابو- الصحراء الليبية، جائلاً بأفكاره بما مفاده: “كل مكان تذهب إليه نهاراً أو ليلاً تجده مملوءً بالرمال، رمالٌ لا نهاية لها. وهل يُسمُّون هذه بلاداً! لكن مهلاً… فالليبيون يقاتلون من أجل هذه الأرض القاحلة. أما نحن؟ علينا اللعنة! لم نُحَرّك ساكناً عندما جاء الإيطاليون للاستيلاء على أرضنا الخصبة. ليس ذلك فحسب، فقد أرشدنا الإيطاليين مثل المكفوفين وحملناهم مثل الأطفال وسمحنا لهم بدخول وطننا، والآن ندعمهم لغزو هذه الأرض الغريبة عنّا. تركنا بلادنا تُحتَلُّ ونحن الآن مجرد أدوات لاحتلال بلدِ قومٍ غيرنا. لقد فقدنا بلادنا ونمد أيدينا لاستعمار أراضٍ أخرى. كيف كان الليبيون سيقاتلون لو أنّ لديهم أرضاً خصبة مثل أرضنا؟ عندما تفكر في الأمر فالليبيون الذين في هذا المكان هم من البدو، وكان ينبغي ألّا يهتموا كثيراً، حيث بإمكانهم التحرك بسهولة تاركين هذه الأرض القاحلة للإيطاليين، لكن رغم كل هذا لم يركعوا للحكم الإيطالي!”
وبمثل هذا الشعور -بالخزي والذل والمهانة- وما عاينه الجند الأحباش من ويلات الحرب في الصحراء من تَيهٍ وعَطشٍ وتَشريدٍ، وقتلٍ على يدي المجاهدين الليبيين، ومن نجا منهم انسحب إلى حافة البحر، وفي نهاية المطاف ركب من بقي منهم على قيد النجاة على متن السفينة التي أقلعت بهم إلى وطنهم. وخلال رحلة العودة كانوا يُبدون حزنهم الشديد على رفاقهم الذين سقطوا في المعركة، وغَنّوا في رثائهم بحزن:
“لا يَذْهَبَنّ أحدٌ إلى طرابلس [ليبيا]؛ لئلا يُقَطّع بالسّكين أو السّيف الطّويل”.
وبهكذا إحساس وشعرية دَبّج غبريسوس هايلو روايته الصغير الحجم الكبيرة المعنى، والتي نجد فيها كثيراً من المادة التاريخية الخصبة، التي توضح حقائق جاءت خلافاً على ما هو معروف ومتداول عند الحكايات الشفاهية للتجنيد التي تَدَاوَلَت في الثقافة الإريترية، فهي تميل إلى تسليط الضوء على بعض سمات تاريخ التجنيد الإجباري، مع التستر على جوانب مهمة أخرى من التجربة، منها أن الكثير من المجندين الإريتريين كانوا قد تطوعوا برغبتهم للذهاب والقتال في ليبيا، وذلك عرضاً للفتوَّة وطلباً للرجولة وإثباتاً للفروسية، ففي هذا الخصوص ذكر هايلو في روايته، أن الشباب الحبشيين -وهم في بلادهم- كانوا يتغنون بعدة جمل ويرددونها، منها: “لا يرفض الذهاب إلى ليبيا إلّا النساء”. كما كان صغارهم يُغنون مطلقين كلماتهم المسمومة: “عودوا إلينا لاحقاً… يا طرابلس [(ليبيا)] امنحينا بعض الوقت حتى نَشبَّ عن الطّوق”.
ففي مثل هذه البيئة والشعارات الرنانة المشجعة تربى بطل الرواية توكوابو، وشبَّ وجميع تلك الأهازيج والأغاني والمعلومات قد استقرت في قلبه، وبما أنّ ما تسمعه في طفولتك يُصبح أكثر وضوحاً مع تقدمك في العمر؛ فقد قرر توكوابو الذهاب إلى ليبيا للقتال كبطلٍ ولاكتساب الشهرة، حيث قرر ذلك فقط لأنه سمع أنّ حرباً تدور هناك، وذلك على الرغم من أنه كان وحيد والديه وهم في أمس الحاجة إليه.
وفي ختام الرواية يصف لنا هايلو شعور توكوابو عندما رجع لبلاده بعد عامين ووجد أمه مُتوفّاة، حيث أخذت دموعه تتساقط، وسرعان ما أجهش بالبكاء العنيف مع أبيه الذي أخبره بوفاتها، كما أنه لما عَلِمَ بأنها فارقت الحياة قُبَيل وصولة مباشرةً، جعل حزنه أشدَّ وطأة عليه، بِشعورٍ بالندم وبِتشنجٍ في معدته من الحزن، وأخذ في الانتحاب مراراً وهو يُردّد:
“ذاهبٌ إلى أرضٍ بعيدة
ليس من أجل رِفعةِ وطني
تاركاً عائلتي ورائي
يتألمون ويذرفون الدمع لعامين
مُوقناً أنّني قَتلت أُمّي سَعياً وراء خُيَلائي
وها أنا أعود مجرجراً قَدَمَيَّ
لأُبَيّن تَفاهتي
لمن أسأتُ إليهم من أهلي وأحبابي
والذين أَستحقُّ لعناتهم
لم أكن بحاجة لشيء؛ فَلَدَيَّ وفرةٌ من طعام وشراب
وما أُغَطِّي به بَدني
لكن ها أنا أعود لأُبَيّنَ تَفاهتي
دَع كلَّ من يمكنه الكلام يصبُّ عليَّ اللعنات
كنتُ فيما مَضَى مُنعَّمَاً بخيرات الرَّبِّ
فلماذا وضعت نفسي في هذا الموضع؟
أُمَّاهُ، أعرفُ أنّ ذلك بِسَبَبي…
يا أُمّي الحبيبة، لقد خَذلتكِ.
وقد غَرَّني الشيطان
فليكن إذن… أَتقبّل لعناتك
وأن أُحرَم من عينٍ وسنٍّ ويدٍ
وأن أعيش عقيماً كما شيطان مَريد
أستحق أكثر من ذلك
دَعْ كُلَّ اللعنات تنصبُّ عَلَيَّ
ووداعاً للسلاح
لقد انتهيت من إيطاليا ومَحِنِها
تلك التي سَلَبَتني من أرضي ووالديَّ
انتهيت من التجنيد وكل الميداليات الإيطالية
وداعاً السلاح!”
وبهكذا شِعرية أنهى هايلو روايته، وهي مشبعة بالندم والحسرة لبطل الرواية، ضارباً به مثالاً لتجربة مريرة، لكي يكون عبرةً لغيره من الشباب الأحباش، لتفادي ما وقع فيه توكوابو المسكين من خيلاء البطولة الزائفة.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أقول إنّني قد استأنست بقراءة هذه الرواية الصغيرة، وذلك لما فيها من مَعاني ومَضامين سامية، وما احتوته من مادة تاريخية أصيلة، وتراث شَعبي أفريقي (حَبَشِي)، وومضات كشفت عن جزءٍ مظلم ومأساوي من تاريخ ليبيا المعاصر، عاشه الليبيون زمن الغزو الإيطالي… فشكراً للأكاديمي الإريتري غبريسوس هايلو، الذي ناهض في روايته هذه -بكل ذكاءٍ وحِنكةٍ وشجاعةٍ- سياسات المستعمر الإيطالي وذلك إبّان سيطرة الإيطاليون وسطوتهم على بلاده، في محاولة للفهمِ والتحليلِ العميقان لشرور الاستعمار ومساوئه، وتوصيل ذلك لكل من يقرأ روايته، مستخدماً في كتابتها السّرد البسيط واللغة الشعرية والحكاية الشعبية؛ لتكون أقرب للفهم والقلب معاً.
والشكر كذلك لأستاذ اللغة الإنجليزية والأدب الأفريقي بجامعة أوهايو، “غيرماي نجاش”، لترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، مما جعلها محط أنظار الأوروبيين، ومجال لاهتماماتهم ودراساتهم النقدية.
والشكر الجزيل لدار الفرجاني والقائمين عليها، على سَعيهم الحثيث للكشف عن كل ما كتبه الغير -(الغرب وغيرهم)- عن تاريخ ليبيا، سواء أكانت دراسات منهجية، أو كتب سِيَر ومذكرات، أو رِحلاتٍ ومغامرات، أو قِصصاً وروايات…إلخ. والعمل على ترجمتها، ثم نشرها في حلة رصينةٍ منمقةٍ؛ لكي تَصِلَ إلى الجمهور العربي عامةً، وإلى القارئ والمثقف الليبي خاصةً.
ملاحظة: قد استعنت في هذا العرض بمقدمة المؤلف للطبعة التغرينية بقلم: أ. غي. هايلو، وكذلك مقدمة الترجمة الإنجليزية بقلم: غيرماي نجاش، هذا إلى جانب الرواية نفسها.
عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ – كلية الآداب – جامعة بنغازي