قصة

البرطيل

من أعمال الفنان محمد الشريف.
من أعمال الفنان محمد الشريف.

1

سوق الأحد.. يصرخ أحد الباعة:

ـــ (دحي وطني.. دحي وطني.. وطني وطني…).

أمد له السلّة..

يشرع في العَدّ.. ووضع البيض داخل السلّة.. تنكسر بيضة.. شيء ما يتكسر في داخلي…

2

ضحى صيف.. نادتني جارتنا الأرملة المستوحدة:

ـــ تعال.. ناخذك تنزل في البير.. ونعطيك برطيل.

بدأت على الفور أفكّر في البرطيل.. تحلّب فمي وأنا أتخيّل الحلوى.

تبعتها في طريق البئر.. تحمل برميلاً معدنياً.. ربطته بمحرمتها حول رأسها.. البرميل يتدلى.. يهتز فوق ظهرها.. حذاؤها يطبع الطريق.. يترك نقوشاً فوق التراب.. أتجنّب مواطئ قدميها حتى لا أُفسد تلك النقوش.. غرابان يمرّان من فوقنا.. أسمع خفق أجنحتهما.. ظلّاهما يجريان مع السفح.. يتعرجان فوق الصخور.. تبعت الغرابين بنظري حتى أصبحا نقطتين فوق خط الأفق.. انتبهت وأنا أطمس نقوش حذاء عمّتي زينب.

3

دلّتني في البئر.. أحسست بخشونة الحبل حول خصري.. لمستُ قاع البئر بقدميّ.. استمتعت بالبلل البارد.. اجتاحتني رغبة في التبوّل.. مياه العِدّ تسرسق من تجويف صخري ضيّق.. ملأت الدلو.. سحبتها عمتي زينب.. الدلو تلطلط وهي تصطدم بالجدران.

4

أنزلت عمتي البرميل في فم البيت.. حككت راحتيّ ببعضهما.. وبللت شفتّي بلساني.

ـــ انتظر.. البرطيل مازال.

ـــ وين؟

ـــ قريّب.

ـــ بعد تمشي للسوق تشري لي حلوى؟

ـــ لا.. اصبر.

جلست على البرميل.. أخط بإصبعي على التراب.. أرسم.. أمسح.. أرسم…

فجأة تقوقئ الدجاجة..

ـــ ابشرْ.

تُخرج عمتي البيضة من تحت الدجاجة.. تمدها لي.. لامعة.. ساخنة.. أجري عائداً.. أضغط عليها برفق.. تسري سخونتها في يدي.. ثم… تعثرت.. سقطت.. تدحرجت.. زلال البيضة يتسرب خيوطاً من بين أصابعي.. يسيل الصفار.. شيء ما تكسر في داخلي…

5

يمد لي السلّة…

ـــ يا سلام يا أستاذ.. أول مرّة واحد يجيب سلّة.

… بعد نصف قرن أدركت أن برطيل عمتي زينب لم يكن مجرد بيضة.. كان شيئاً أبعد من ذلك بكثير.. لا يتكسر.. ولا يسيل من بين الأصابع.

(2020)

مقالات ذات علاقة

وازا والعجوز الشقراء

المشرف العام

نكوص واندثار

المشرف العام

الحياة القصيرة العجيبة للكلب رمضان

عمر الكدي

اترك تعليق