قراءات

في ذكرى الصادق النيهوم: حرام عليه.. حلال عليهم*

(.. إلى الذين يلعنون النيهوم بلا وعي.. ولا توقف)

الصادق النيهوم
الكاتب الراحل .. الصادق النيهوم

 

هذا اصدار جديد يحوي مجموعة من المقالات للصادق النيهوم تتوزع تواريخها بين عامي 1966 – 1974. كان قد كتبها ونشرها خلال الفترة المذكورة في صحيفتي الحقيقة والشورى ببنغازي ومجلة الأسبوع العربي في بيروت “1” فرغت من تجميعها وتحقيقها استمرارا لمشروع ارجو ان يتكامل بدأته متطوعاً منذ سنوات لإنجاز اعمال النيهوم المختلفة والمتناثرة في الصحف المحلية والعربية وإتاحتها بعد هذه المدة من الزمن للدارسين والنقاد والتعامل معها – وهو الأهم – بروح نقدية حقيقية وموضوعية.

اخترت مقالاً عنوانه (الدلاّل) كتبه النيهوم عام 1969 وجعلته اسماً لهذه المجموعة كما تم في اختياراتي السابقة في الغالب التي سبق صدورها عقب وفاته في نوفمبر 1994، والدلاّل كما تشير المعاجم هو: (من يجمع بين البيعين، ومن ينادي على السلعة لتباع بالممارسة “2”)، وهذه بضاعة النيهوم معروضة ينادي عليها وللجميع الحق في معاينتها قبل التذوق او الشراء!

المقالات تتنوع وتختلف على وجه العموم، وإن كان يربطها ذلك الخيط الواحد في الأسلوب ثم الهدف وتبين عن تطور النيهوم الفكري والثقافي في كتابته للمقالة فيما تبقى غايتها بالدرجة الأولى التواصل مع القارئ بوعي – رغم الاختلاف – وهو مطلوب وضروري في كل الأحوال. يطغى على هذه المقالات الطابع الساخر إلى حدّ القسوة كعادة النيهوم والجدّ في جانبها الآخر غير انها في النهاية توضح ان النيهوم كان عبر تلك الفترة الخصبة من حياته الأدبية همّه الكتابة بصورة تكاد يومية ولا ينقطع عنها ويتجدد من خلالها مع قارئه في ليبيا بالمقالة والدراسة والترجمة والتحقيق الصحفي.. ويثير القضايا الداعية الى الجدل، وأصبحت تلك المقالات تكوّن في مجملها صورة من صور المرحلة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي عاشها المواطن الليبي وكذا العالم كله.

بصدور هذا الكتاب الآن يكون قد قارب على رحيل النيهوم مدة عشرين عاما ظل فيها رغم الغياب موضوعا للنقاش ومدعاة للهجوم بين حين وآخر.. مثلما كان في حياته أيضا – البعض اختلف معه.. البعض رماه بالحجارة.. البعض اتهمه بالكفر والزندقة.. البعض وصفه بالعمالة والخيانة..البعض أشار بأن لا موقف له.. البعض قال عنه بأنه (ناحوم) وليس (النيهوم).. البعض تعاطف معه وأكبر فيه الموهبة والجراءة والشجاعة الفكرية و الاجتهاد (وإن كان فيه تعثر وأصابه التباس).. البعض لم يعرفه عن قرب ولم يقرأه وانطلق في الركب مجاملة لغيره في السب والقذف.. البعض وصفه بأنه كان وراء معمر القذافي وكتب له كتابه الأخضر!!.. وأشياء كثيرة من الاتهامات المشوشة والأمور المغلوطة التي لا تستند لوثائق ولا ترقى إلى مستوى التوكيد إضافة إلى الحوار والاختلاف الفكري المطلوبين إذ ليس شرطاً ان تتفق مع النيهوم.. وتلك آفتنا المريرة في المنطقة العربية عموماً.. التخليط بين العام والخاص.. الرؤية بمنظار واحد.. وكأننا عور.. كلنا يتجه إلى الأمور الشخصية – إما اعجاباً او ذماً – والتي تظل في الغالب مجرد اتهامات خالية من الصحة مالم تسندها الدلائل والقرائن السليمة، وهذا وقع للكثيرين.. أعني لم يكن النيهوم وحده الذي تناوشنه السهام ونالت منه الأقاويل، وفي كل الأحوال فأن هذا الخلط الكبير يدل على أهمية النيهوم ومكانته وتأثيره رغم كل شيء!

تجربة خاصة:

كانت للنيهوم كاتباً ومثقفاً وانساناً تجربته الخاصة بآفاقها وحدودها. فهو وجيله عاش في ظروف معقدة مر به المجتمع الليبي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية اشتملت على مركبات الجوع والمرض والأمية والتخلف. فتح عينيه في مدينة بنغازي صبياً وشاباً.. المدينة التي جلها خرائب ومبان متهدمة جراء تلك الحرب. لم يركب موجة والده الذي كان نقابيا معروفاً. لم يتسلق اكتاف خاله الذي نشأ في بيته بعد وفاة والدته واعتنى به حتى بلوغه الثامنة من العمر وكان مهندساً للقصور الملكية. نحت النيهوم تجربته وطريقه بأظافره.. بمحراثه مع مزيد من العرق. كانت تجربته: ثقافته، معرفته للواقع، فهمه للأمور السائدة، أصدقاؤه، اصطدامه بتقاليد المجتمع، لكنه بنى نفسه وشخصيته درجة درجة. كان مثار اعجاب معلميه وزملائه في المرحلتين الثانوية والجامعية. لم يكن نكرة رغم ابتعاده عن الأضواء واستنكافه المشاركة في أي نشاط عام. كان لثقافته تلك الفترة وإثارته لموضوعات النقاش والتساؤلات والفهم علاوة على موهبته مكانة خاصة لدى مجايليه، وهذه السمة لم يتميز بها وحده أيضا. كانت سمة تطبع عموم أبناء جيله المتعطش للقراءة والتعلم والتغيير في ليبيا كلها. أذكر أن استاذه د. ناصر الدين الأسد “3” حدثني عنه باعجاب وأشاد بذكائه وقدراته وموهبته الكبيرة وهو طالب بالجامعة الليبية وتأسف أيضا على ضياع رسائل بينهما بعد انتهاء عمله في بنغازي وعودته إلى بلاده.

لم يهتم النيهوم طوال شبابه، وحياته أيضا، بالمظهر الخارجي، لم يكن مهتما بالمناصب أو يسعى إلى وجاهة. لم يسع إلى سلطة (فكرية او سياسية). ظل ابناً للثقافة وأسيراً للإبداع والفن، حالماً بالتنوير والتغيير إلى الأفضل، وكان يعرف انه سيهاجم ويحارب في مجتمع صعب ينمو ويتحرك ببطء، وعندما لمع نجمه الأدبي لاحقاً كان عبدالحميد البكوش رحمه الله رئيساً للوزراء في ليبيا بين عامي 1967- 1968. فأعجب به وبموهبته وكتاباته في صحيفة الحقيقة واحترم ارائه، والبكوش في الأصل قبل أن يكون سياسياً مثقف وشاعر ومحام. ولهذا اقتربا وتناقشا وتبادلا الأفكار وقد عرض عليه مسئولية وزارة الاعلام والثقافة في حكومته ذات مرة لكن النيهوم اعتذر!

حين حصل الانقلاب في ليبيا في سبتمبر 1969 كان النيهوم يقيم في هلسنكي ولم يزر بلاده منذ شهر مارس ذاك العام حيث شارك في مؤتمر أدباء وكتّاب المغرب العربي. توجس النيهوم من هذا التغيير ومن (العسكر) في واقع الأمر وتجربتهم الراسخة في الأذهان في المنطقة العربية. لم يكن مثل غيره يحلم بأن يكون التغيير بهذه الطريقة، وقد بعث برسالة مؤرخة في 29 ديسمبر 1969 إلى صديقه رشاد الهوني “4” قال فيها: (.. أمر عودتي إلى ليبيا يؤرقني أيضا، فأنا لاأعرف لماذ يجب أن اعود، ولا أعرف أيضا ماذا ينتظرني عند الباب الجوّاني، وماذا سيحدث إذا – لاسمح الله – قررت ذات يوم أن اغامر ببعض الصراحة فيما يخص مهرجان الخطباء المقام الآن في بلدنا على أوسع نطاق، فالأمر مؤلم بالنسبة لي إلى حدّ لا يحتمل، وهو كذلك – من ناحية أخرى – نوع من الدعارة التي اعتقد انها لم تتورع عن بيع رطل الفكر مقابل خمسة وعشرين قرش بالضبط..).

وحاول مثل غيره أيضا الذين فهموا الأمور مبكرا ان يطرق الباب الجوّاني. نشر مجموعة من المقالات والدراسات كان فيها صريحاً بالمباشرة او من وراء ستار.. فأنتقد على سبيل المثال الغاء تدريس مادة اللغتين الإنجليزية والفرنسية في المرحلة الابتدائية وكانتا مقررتين في العهد الملكي، وخاطب وزير الوحدة والخارجية عن الدعوة إلى الوحدة العربية الشاملة التي شرع النظام يصرخ بها دون وعي (او بمخطط معروف).. واقترح الحلول، وناقش وضع الصحافة المستقلة وطالب بعدم الغائها، وأكد على حرية الفكر وبناء الانسان الجديد.. وغير ذلك، لكن الأمور لم تسر وفق ما يتمنى، هو وغيره أيضا من الحالمين، فرضت السلطة الجديدة الرقابة على الصحف الخاصة وصودرت الكثير من المقالات او ُحذف منها مالا يتماشى وفق رضاها الى ان انتهى الامر بتقديم أصحابها الى محكمة الشعب التي رأسها احد أعضاء الانقلاب فأُلغي بعضها مع مطلع 1972 وكانت صحيفة الحقيقة في مقدمتها.. وبهذا انقطع القارئ في ليبيا عن التواصل مع النيهوم والكثير من كتابها ومحرريها. كانت صحيفة مدرسة.

وحدث أن أعلنت السلطة عن إقامة ندوة الفكر الثوري في مايو 1970 بطرابلس ودعت الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي للمشاركة وكان من بينهم النيهوم الذي تردد كثيرا في تلك المشاركة لكنه حضر بإلحاح من بعض أصدقائه الذين أصرّوا على حضوره وعدم ابتعاده عن الإدلاء برأيه.. فالوطن بحاجة اليه وهذا نظام جديد به مجموعة من الشباب الحالم الذي يحتاجك ويريد امثالك، وبالفعل حضر وكان أول المتحدثين في موضوع (أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة) وحصل اشتباك فكري شهير بينه وبين عضو من قيادة الانقلاب الذي اعتبر النيهوم مثقفا رجعيا!!. كانت الندوة وسيلة لتصنيف المثقفين وضربهم لاحقاً.. لاغير.

لكن السلطة لم تتركه ظلت تستدعيه مثلما تستدعي آخرين وتلتقي بهم. لم يكن النيهوم حالة خاصة او بمفرده في ذلك، واُقنع بأن يتولى امانة الفكر والتثقيف في الاتحاد الاشتراكي الذي تكون في ليبيا اقتداء بتجربة عبدالناصر في مصر، ولم يدم ذلك طويلاً وحاول عبر نقاشات وصدامات كثيرة مذاعة على الهواء مع رأس النظام والكثير من المسؤولين.. الإصلاح والإبقاء على الصحافة المستقلة والاهتمام بالداخل قبل الطيران نحو الوحدة العربية.. لكن دون جدوى تذكر، ومهما يكن من أمر فقد حاول النيهوم حقاً وإن شابت محاولاته مع السلطة إلتباسات معقدة واختلافات في التفاصيل وكان نصيب تلك المحاولات الفشل الذريع، وفي كل الظروف فإن هذه المرحلة ينبغي ان يماط عنها اللثام ويكشف عن دور النيهوم ورفع الاتهامات عنه او توكيدها كي يهنأ بال الجميع ويستريح من هذا التعب!”5″.

لقد كانت السلطة في ليبيا هي التي تسعى إلى النيهوم.. لم يسع هو اليها او يقترب من البداية. كان القذافي معجبا بمقالاته ودراساته ويتابعها قبل ان يصل الى السلطة.. ويعرف أن المواطن في بنغازي ينتظر صدور الحقيقة بفارغ الصبر ويقف في الطابور لشرائها.كان يعرف نجومية النيهوم وإعجاب الكثيرين به ويدرك انه يشكل ظاهرة أدبية وفكرية تملأ الأجواء. كان مجرد ملازم في ثكنة بعيدة عن المدينة.. لكنه يراقب كل شيء. وسعى لاحقاً بتقريبه للنيهوم لاختراق هذه النجومية والقضاء على كاريزميتها لدى الناس وتشويهها بكل الطرق. كان يريد ان يكون هو فقط نجم ليبيا الوحيد.. وصقرها الوحيد.. ومفكرها الوحيد.. وأديبها الوحيد. بل ونيهومها الوحيد.

إن حياة النيهوم وتجربته داخل ليبيا وخارجها، بكل ايجابياتها وسلبياتها، تمثل حصيلة ثقافية واجتماعية وسياسية تأثرت – وأثرت كذلك – في مرحلتها بما اعترى الواقع من مواقف وشؤون.. فهو للمرة الألف لم يكن (حالة خاصة) بمفردها من بين العديد من الكتّاب والمثقفين في وطنه.. او في العالم مع وجود الفوارق والظروف، هذه الحياة.. هذه التجربة وحصيلتهما هي (الشيء المثير في شخصيته الفنانة القلقة)!

مشكلة النيهوم:

ما يزال النيهوم الأديب والكاتب بعد هذه المدة من رحيله إلى رحاب الله مطاردا من البعض في وطنه من دون أي نظرة علمية محايدة ومنطقية.. له او عليه، وسوق الاتهامات له قائم بلا دليل حتى الآن ومن دون فتح تحقيق (حتى بوليسي!!) او دراسة شاملة لمعرفة الظروف الصحيحة – موضع الاتهام او الشكّ – التي عايشها النيهوم والوصول الى – الحقيقة الغائبة – عوضا عن اطلاق الاقاويل في الهواء وهي في كل الأحوال وسيلة العاجز (او الفارغ من أي محتوى). إن هذه الاتهامات ضد النيهوم التي اشتدت في الفترة الأخيرة ودون سواه في ليبيا تستوجب أيضا وبالقدر نفسه التوقف طويلا عند (التاريخ السرّي للثقافة في ليبيا)، وكل تفاصيل الحياة الأدبية والثقافية الليبية المعاصرة وخباياها.. التي شهدتها البلاد مدة أربعة عقود من الزمن وقلب امورها رأسا على (ذيل). انه من اليسير جدا التبجح بالمواقف وإدعاء البطولات (ف الواسع). ومن اليسير جدا النفخ بأشداق متهدلة على وتر الوطنية ورمي الآخرين كائنا ما كانوا بالحجارة طوال النهار وحتى فجر اليوم التالي، ومن اليسير أيضا تكوين الشلل والمجموعات التي تجمعها نظرة واحدة ومصلحة واحدة وغاية واحدة (وقعدة واحدة) لتكرر الأقاويل التافهة نفسها دون فهم او احاطة صحيحة.

تلك مشكلة النيهوم بوضوح. لأن السلطة اقتربت منه. ُصنّف انه في ركابها.. او من رجالها.. وانه احد عملائها وأبواقها في محاولة اكثر تفاهة لعزله خارج الإطار الذي سيظل رغما عنهم داخله، وتشويهه بطريقة لئيمة وغير أخلاقية وجعله بين الناس في الجانب الأضعف. تلك مشكلته حقا: ليس لديه شلة.. او مجموعة (كبّانيه). انه يبدو متوحدا في الجانب المقابل امام شلة ومجموعة همها الوحيد ان ترجمه وتطنّ بحديثها عنه وتنكر دوره الثقافي والفكري وموهبته الفخمة وكأنه من المحرمات او من العيوب او الأمراض الكريهة التي اضرّت بالوطن الليبي. إن شلة تافهة من صغار المواهب والكتبة وأدعياء النضال والتدين.. اضحى ذلك وقفا عليها.. لا تستريح حتى تلعن النيهوم في قبره دون نظرة علمية او نقد صائب وموضوعي، وابتعد كل من يجب ان ينهض بالمسؤولية الثقافية الواعية لكي يناقش بالمنطق والعقل ويكشف أخطاء النيهوم دون تخليط او تشويش او احكام مسبقة.

هذه هي مشكلة النيهوم بالدرجة الأولى.

اُفرد إفراد (البعير الأجرب) وظل اسيرا لهذه القوقعة المتخلفة التي تجيد القذف واللعن في الظهر ومن كل الاتجاهات. النيهوم الذي صار (سياسياً) دون رضى منه.لقد كان اديباً وفناناً وليس سياسياً على الاطلاق. فالفنان والسياسي لا يلتقيان ابدا مثل النقد والشعر.. يظلان على تنافر مهما كان الأمر. النيهوم الذي كان في حياته يزدري الشلل والتركيبات المثقفة المنافقة ولا يحترمها.. ولا يرتضي الجلوس معها او الركون اليها ولا يمنحها شرف الحوار.. لهذا كله حورب – حياً وميتاً – واُقصي من قبلها ما وسعها الجهد. وهذا قدر أصحاب المواهب الكبيرة على مدى التاريخ البعيد او القريب.

ليس منزهاً:

ومع ذلك فالنيهوم ليس منزهاً عن أي خطأ فهو بشر اولاً وأخيرا، وهو كاتب ومثقف امامه واقع و امامه ظروف والكثير الآن وكذا وقتها يعرف هذا الواقع وهذه الظروف جيداً طوال سنوات القذافي، وهذا ليس التماساً لعذر في صالح النيهوم لكنه الظرف الصعب والواقع الأصعب شئنا أم أبينا.. فالنيهوم مع حدّة القمع لا يستطيع مثل الكثيرين سواه ان يغير نظاما متعسفا او يواجه دكتاتورية بمفرده.. لكنه بمحاولاته حتى وان كانت غير ظاهرة للناس وبدت مهادنة او ضعيفة تظل تحسب له.. فلم تثبت الوقائع والأحداث، على الأقل حتى الآن انه أسس لظلم او ظلامية او شارك في اعدامات او تصفيات او عمليات قذرة او وشى بأحد او أضر بأحد. ثم انه ليس شرطاً اساسياً لكي يكون الكاتب او المثقف او حتى المواطن العادي (وطنياً حتى النخاع) أن يسجن او يعذب او ينفى. ليس شرطاً ان يعدم بالمقصلة او يقتل بالرصاص، ليس شرطاً ان يتم ذلك مثلما نفهم الأمور في المنطقة بأسرها التي خلق حكامها من سقط المتاع ابطالا يتمتعون بالمزايا والتعويضات!!

ان العديد من أصحاب المواقف العظيمة والحقيرة على حدّ سواء مايزالون أحياء او بعضهم انتقل إلى جوار ربه راضياً مرضيا وعلى (فراش الحلال). صحيح ان النضال (الصحيح) دون مزايدة او رياء موقف وشرف قام به العديد من الرجال والنساء في ليبيا. موقف كبير وله ثمن وأصحابه لم يشترطوا أي ثمن ولم يعرفوا مسبقاً انه قد ينتهي بهم المآل إلى المقبرة. ولكن ان يتاجر صاحب الموقف إذا صحّت التسمية بموقفه ويعلن عنه على الدوام كما لو انه ينادي على بضاعة كاسدة ويثرثر عنه في المجالس والإذاعات والصحف فذلك يجعل من العمل الوطني والنضال من أسباب السخرية والازدراء ومجرد صورة باهتة مجللة بالعار يسقط صاحبها من الدور العاشر.. وعلى وجه السرعة!

محاولة للفهم:

وللتكرار.. وبعيدا عن العاطفة أقول، لعل النيهوم حاول مع السلطة التي لا تسمع كلام احد ولا رأي احد.. وجرّب كثيرا وردّ على اعقابه، وهو اقترب منها بالقدر الذي اقتربت منه بناء على ظروف التغيير في السنوات الأولى للانقلاب وكان الجميع دون تمييز يأمل خيراً ونهضةً وتطوراً للبلاد. غير أن الحصاد في النهاية كان في غير المتوقع، واذا كان النيهوم قد اخطأ في اقترابه من السلطة فأنه تحت كل الظروف لم يبع وطنه او مواطنيه. لم يكتب تقريراً في احد.. لم يحاكم أحد.. لم يستلم جائزة.. لم ينظم قصيدة او يلقيها في حضرة (القائد). لم يمتلك اطيانا او شركات.. لم تستفد الأسرة من اية عوائد بل ظلت في بيتها القديم في سوق الحشيش الذي ولد فيه في بنغازي. كانت له دار نشر في جنيف مع شركاء أسهمت الدولة في انشائها بالمال الليبي وليس بمال فرد معين.. ثم تركته على الحديده ولم يكن في ذلك وحده أيضا. كثير من الليبيين والعرب من المثقفين (والمناضلين) وغيرهم.. وضعت الدولة تحت تصرفهم المشروعات ودور النشر والشركات والتوكيلات التجارية في الداخل والخارج. وإذا اُعتبرت هذه الحالة جريمة تدين النيهوم فهو ليس وحده في الميدان. المهم انه لم ينحن.. تعامل مع واقع صعب وواجهه بطريقته و أسلوبه وترك النضال لغيره!

فلماذا يستكثر ذلك على النيهوم؟ لماذا والكثيرون والكثيرات تمتعوا بالعطايا والجوائز والفلل والمشروعات والعربات الفارهة والسرقات والرُشى والمهام الرسمية (والخاصة) والعلاج والديباح والحُلي والحُلل.. ونشر المؤلفات وتدبيج وثائق العهد والمبايعة والجلوس على اقدامهم على الأرض وسط الخيمة في حضور الزعيم المتعالي على كرسيه.. ينظر اليهم وهم يهتفون ويرقصون ويلقون القصائد دون ان تبح حناجرهم النحاسية؟!

لماذا يظل ذلك حلال عليهم وعليهن فقط.. وحرام بل (وزقوم)على النيهوم فقط؟.. أليس ثمة ماهو إيجابي في حياته الثقافية.. أليس ثمة ما ينصفه ولو بقدر بسيط وسط هذا الطوفان الهائل من الدعوات الى تكريم الرموز وأحياء الذاكرة الليبية؟

شهادات منصفة:

رأينا بعد فبراير ظهور بعض الحقائق والمعلومات المهمة من المعاصرين والقريبين من القذافي او غيرهم حول مواقف النيهوم ومواجهاته”6″.. وانه لم يكن وراء الكتاب الأخضر مثلما رأينا الكثير من مدعي البطولات (و القوادين) وهم يلتصقون بأعتاب السلطة مثل القراد ويتقربون منها ويتزلفون اليها من دون ان تجبرهم على ذلك ويقدمون لها التقارير والوشايات طواعية ويكيدون الدسائس لرفاقهم من اجل منصب او مهمة رخيصة او ثمن بخس او يهرولون وراء التعويضات عن سنوات (العذاب) وكلهم – إلا فيما ندر من شرفاء الرجال -.. قبض الثمن وعومل معاملة حسنة ثم غدى بطلاً مغوارا مثل ابي زيد الهلالي (وهو لم يقتل ذبابة)يتصدر المشاهد ويرشق غيره بالحجارة دون ثمة داع لذلك.. وعموما سيبدي التاريخ قريبا كل شيء نجهله!.

إننا قد نلتمس العذر لمن قام بهذا الفعل.. ومن حقه ان يفعل فهو حرّ، لكن ان يشوه الآخرين بالباطل فذلك باطل من أساسه. ان تفعل شيئا وتلصقه بغيرك.. ان تحله على نفسك وتحرمه عمن سواك.. فتلك المصيبة، وتظل الحقيقة والوثيقة والحجة والدليل.. السند الذي يفصل في الأمور، وسيظل النيهوم وهو المحارب الآن من النخب التي تدعي الوطنية والثقافة (وهو امر لا يود احد مزاحمتها فيه!).. سيظل قامة من قامات الفكر والثقافة في ليبيا وفي المنطقة العربية بأسرها. تتفق مع النيهوم او تختلف. تحبه او تكرهه. تحاربه او تصفق له. كل ذلك لا يلغيه من مسيرة الثقافة الليبية.

لماذا يُحارب النيهوم:

سؤال سيظل معلقا لكنه جدير بالإجابة.. لماذا يحارب النيهوم في وطنه ليبيا ويناله التقدير في سواه؟.. لماذا يُحارب على درجة واحدة ممن يسمون بالتقدميين والسلفيين والتكفيريين والليبراليين واليساريين والمتعلمين وانصافهم (وارباعهم أيضا).. ومن صغار الكتبة العموميين؟.. لماذا يُحارب في وطنه دون وجه حق وبتهم ليست صحيحة حتى الآن وكأنه المثقف الليبي الوحيد الذي صفق للقذافي وتعامل معه واضرّ بالبلاد والعباد؟.. الإجابة واضحة: انها الروح الحاقدة.. والنفس الحاسدة.. والشخصية اللئيمة الناقصة.. لاأكثر. روح عدم الفهم وعدم قبول الآخر واحترام الاختلاف معه والتنافر والشعور حياله بالدونية التي تدفع الى البغضاء. روح تردي الأخلاق وقلة الأدب. روح المرض والتخلف والجهل أيضا.انها حالة (تحريش مزمنة) مثل الثأر والتشفي الذي ينبغي الإتيان به. وثمة امثلة كثيرة ودلالات مهمة في الواقع الليبي تشير إلى استمرار الطعن في تفاصيل تاريخنا الوطني والثقافي بالإساءة المتواصلة حتى إلى عمر المختار والملك إدريس السنوسي وشاعر الوطن احمد رفيق المهدوي ورموز وطنية وأدبية كثيرة. في محاولة لا تهدأ لإفراغ الذاكرة الليبية وطمسها وتشويه معالمها وإخفائها مثلما فعل القذافي بالوطن وتاريخه ونهج الأسلوب ذاته في تقديم الصور السلبية وإبراز المطاعن بلا توقف ولا هوادة. فأي حياة ثقافية وفكرية.. هذه التي تقوم على الحسد والثأر والإقصاء.. وتفخيم الذات وبخس الآخرين اشياءهم .. أي حياة فكرية تنهض على الشللية.. واي وطن هذا يلغي فيه ابناءه بعضهم بعضا..كيف يتقدم وينهض.. كيف تنطلق اجياله نحو مستقبل نظيف خال من العقد والهموم والأمراض؟

ان دراسة النيهوم واجبة ولازمة وضرورية له ولغيره وبتسامح فكري ونقاش نزيه و شجاع دون عاطفة او مجامله.. دون محاباة او تحامل.. فمتى يتحقق ذلك اليوم قبل غدٍ؟

دعوة تنتظر استجابة. وهذا النيهوم امامكم.. فلا تعودوا تأكلوا جثته. انه هناك في قبر على اطراف بنغازي الجنوبية.. فقدموا نصف ما قدمّ.. ثم إلعنوه بلا توقف!!

 ____________________________________

*تقديم لكتاب (الدلاّل). مجموعة مقالات للصادق النيهوم، يصدر قريبا في بنغازي وبيروت عن دار برنيتشي من اعداد وتحقيق الكاتب.

“1” كان النيهوم خلال تلك الأعوام يقيم في هلسنكي بفلندا ثم تنقل بين طرابلس وبيروت وجنيف.

“2” انظر: (المعجم الوسيط). مجمع اللغة العربية. القاهرة. مكتبة الشروق الدولية. 2008

“3” شخصية علمية كبيرة ومعروفة. كان وقتها عميداً لكلية الآداب والتربية بالجامعة الليبية في بنغازي في الفترة (1959-1961)، وأستاذا للنيهوم في مادة الأدب الجاهلي.

“4” الكاتب والصحفي الليبي ومدير صحيفة الحقيقة. توفي ودفن ببنغازي يوم 4 أكتوبر 1993

“5” الثابت حتى الآن وفق مصادر عديدة ذات اطلاع ان من كتب (الكتاب الأخضر) سودانيان معروفان من أصحاب الفكر الماركسي اقاما في طرابلس وتنعما برعاية القذافي، واذكر ان الأستاذ رشاد الهوني رحمه الله روى لي في بيته في بنغازي صيف 1991 قصة مفادها أن صديقه النيهوم كان من بين أسماء الذين احتوتهم قوائم (التصفية والاغتيالات) التي شرع فيها القذافي على يد اللجان الثورية للمواطنين الليبيين في الخارج اعتباراً من 1980، وان النيهوم الذي افصح له عن ذلك في لقاء جمعهما وقتها في لندن، اتى خصيصاً الى طرابلس عندما علم بطريقة ما وقابل القذافي وواجهه بذلك حيث تنصل كعادته وحمّل تبعات الأمر إلى لجانه الثورية!!. وثمة إشارات أخرى تطايرت في نطاق محدود عقب وفاة النيهوم في نوفمبر 1994 بان الوفاة تمت بتدبير مبكر وأفضت إلى اصابته بسرطان الرئة. (كل الاحتمالات واردة مثلها كشأن الاتهامات ضده!!)

“6” مثالاً على ذلك: لقاءات وحوارات وكتابات للسيدين عبدالرحمن شلقم الوزير والكاتب، وإبراهيم الكوني الروائي المعروف. كنت أيضا اشرت واقترحت في مرة سابقة بضرورة التحقيق فيما ينسب الى النيهوم تتولى ذلك اسرته في بنغازي او جنيف.

مقالات ذات علاقة

وخز الخذلان

أمين مازن

المقاهي والحانات في شعر جيلاني طريبشان .. دلالات وأبعاد

ناصر سالم المقرحي

“زرايب العبيد” لليبيّة نجوى بن شتوان.. سوق النخاسة العنيف

المشرف العام

3 تعليقات

م. خالد محمد الجهاني 26 ديسمبر, 2013 at 19:53

لمن لم يقرأ للنيهوم أو حتى لم يسمع به ..هل تجد هذه الدعوة صدى …؟
دعوة تنتظر استجابة. وهذا النيهوم امامكم.. فلا تعودوا تأكلوا جثته. انه هناك في قبر على اطراف بنغازي الجنوبية.. فقدموا نصف ما قدمّ.. ثم إلعنوه بلا توقف!!
أتمنى ذلك و لا أتوقعه.. للأسف !!

رد
أحمد القرفه 27 يوليو, 2014 at 06:19

كما يقال لا دخان بدون نار …!!!

عموماً انا ارى النيهوم واصنفه كـ “علي الكيلاني” فن جميل بسلوك سيء .

رد
أحمد القرفه 27 يوليو, 2014 at 06:21

ومع هذا فقد عاش الرجل ومات وقد عاصر حقبتين وكم كنت اتمنى لو اطال الله في عمره ليرى الثالثه
فقد سبق عصره في بعض ما كتب

رد

اترك رداً على أحمد القرفه