حوارات

حوار مع الفنانة التشكيلية ‘‘نجلاء الشفتري’’: الرسم والكتابة وجهان لعملة واحدة، والحرف في حالته البدائية عبارة عن شكل فني، ورسم في شكله النهائي

حاورها: مصطفى حموده

التشكيلية الليبية نجلاء الشفتري
التشكيلية الليبية نجلاء الشفتري

– الاغتراب نصل ذو حدين، من جانب هو مؤلم، ومن الآخر يقدم الكثير من الخبرة والنضج..

– أشاهد الأعمال الفنية العظيمة كنوع من المراس الفني وتغذية للروح، لإيماني أننا كبشر لدينا زوايا مختلفة للنظر والمشاهدة..

– لا أجد أية مشكلة في استخدام الكاتب لفن الرسم في التعبير، إلا إنني مؤمنة أن الفن والأدب يصبان في نهر واحد..

– هناك اتفاق ضمني بيني وبين لوحاتي.. حتى إشعار آخر!

– معرض ‘‘حينما تنام المدينة’’ عزز مصداقية إنتاجي وفكري..

– بالدرجة الأولى أهتم بتأثير اللوحة في المحيط والمتلقي..

– في أغلب مشاركاتي الدولية كان هناك حوار بين المتلقي واللوحة..

عالم الفنانة التشكيلية ‘‘نجلاء الشفتري’’ عالم يموج بالألوان، فهي تجيد موائمة اللون في لوحاتها والتأليف بين ما يتنافر منه؛ لصنع عمل فني صاخب يحمل القدر الكبير من التجلي. وهي حين ترسم الشخوص ضمن لوحاتها، تستخدم خطاً واحداً متصلاً يكاد لا ينفصل يربط بينها، وكأن هذا الخط هو ‘‘خط الحياة’’ الذي يقرّر الوجود لهذا؛ وهو ذاته الذي يهب الوجود لذاك، أو كأنه ‘‘المصير المشترك’’ الذي يرتكز الوجود عليه. وعندما يدقق الناظر في استخدام الفنانة لهذه التقنية -في عدد من أعمالها- يتبادر لذهنه أول ما يتبادر خيوط التطريز، التي هي بالفعل تعتمد عليها في الكثير مما ترسمه، وهذا ما أعطى لتجربتها خصوصية. فذائقتها الفنية وموهبتها نمت في ظل انجذابها لأدوات الخياطة، لمّا تكشّف وعيها على الخيوط التي لها القدرة على إحالة الأشياء التي لا معنى لها إلى قالب يأخذ شكلاً جميلا ويؤدي وظيفة ذات أهمية. 

عيشة بنت الحوات.. من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري.
عيشة بنت الحوات.. من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري.

إلى جانب ذلك فـ‘‘نجلاء الشفتري’’ لديها إحساس كبير بالأشياء المهملة. فهي -خلاف الخيوط- تستخدم الكثير من الخامات الأخرى في أعمالها، من ورق وخشب وبيض نعام، ترى بأنه من الممكن أن تتكلم وتخبر رسالة ما، متى قام الفنان بتوظيفها بشكلٍ أمثل.   

كما ترى اللوحة كائن حي، يكون في أحيان لين ومطيع، وفي الأغلب جامح يصعب مراسه. كما ترى الفن مرآة الشعوب؛ يوثق ما يحدث داخل المجتمعات ليصبح يوماً ما شاهداً على العصر.

في إحدى تساؤلات هذا الحوار قالت بنفس صوفي: ‘‘استثمرت هذا الألم داخل لوحاتي، وفي لحظات كثيرة أشعر أني توحدت مع الطبيعة (حالة صوفية)، اقتربتُ أكثر من الأرض وروائح الأشجار وعصافير البرية. قرأت كثيرًا، استمعت أكثر. قدم لي الاغتراب عزلة محببة (اكتشفت ذلك مع الوقت)، ومن خلالها وجدت الكثير من الوقت للتعرف عن ذاتي والإبحار في أغوارها. حوار شيق ولا يمل، أجرته ‘‘الليبية’’ معها.. وهذه التفاصيل:

– الليبية: ما هي العوامل التي ساهمت في تكوين شخصيتك وهويتك المحبة للفن التشكيلي، ومن ثم نضجك الفني؟

– الشفتري: كل ما يحيطِ بي يشكّل عاملاً مهما بشكل أو بآخر، فشخصية الفنان هي نتاج بيئته، والوطن والعائلة بكل تفاصيلهما كانا عاملا مؤثراً على شخصيتي. فالفنان بطبيعة الحال مؤثر بفعل الفن ومؤثر، وفي هذا السياق، كان أبي -وهو أيضا يمتلك الموهبة الفنية- يستخدم الرسم كأسلوب حياة؛ في تواصله معنا، وفي طريقته أثناء الترفيه عنا، وفي لعبه معنا، وحتى في مكافئته لنا، حين يقوم يوفر لنا أدوات الرسم من ألوان ودفاتر. وبتالي لا أذكر على وجه التحديد نقطة بداية لهذا الفعل الفطري بنسبة لي، الذي كان جزأ لا يتجزأ مني.

أمي أيضا امتلكت الحس الفني، فقد كانت كأغلب نساء جيلها تهوى التطريز والخياطة، وصارت رؤية الخيوط وألوانها ملهمة بالنسبة لي، وبالتحديد خيوط تطريز الفرامل. ثم تطور الأمر معي في ما بعد، ولتصبح أحد التقنيات المستخدمة في تنفيذ لوحاتي هي الخيوط والأشكال.

أيضًا من المؤثرات التي أثرت على شخصيتي وهويتي الفنية هو وجود علاقة قوية تربط بيني وبين أخواتي وأخواتي، إذ أن كل فرد من عائلتي ترك فكره وبصمته اللذين قاما بتشكيلي وتطويري على مدار السنوات، من خلال اهتماماتهم العلمية والثقافية، أو حتى السياسية والاجتماعية أحيانًا، وهوايتهم أيضًا، التي من أبرزها المطالعة. ومع مرور العمر وكل هذه السنوات من احتراف الفن ما زالت استقي الإلهام من حواراتنا معا، وتقاطعاتنا في الأفكار والآراء حول ما يدور في هذا العالم، وانعكاسه علينا وعلى مصائرنا. وأحيانًا عندما ألجأ إلى الطبيعة أجد في رحابها تساؤلات لا تنتهي. ولأن المشروع الفني في حقيقته هو مشروع حياة؛ فحوار الفنان -الأرهف حساً- مع دواخله ومحيطه تنعكس على لوحته، ويترتب عليها في كثير من الأحيان تقاطع مع إحساس المتلقي لمُنتجه، ذلك بقصد أو بدونه.

التشكيلية الليبية نجلاء الشفتري

– الليبية: على غرار تطور الفن عبر التاريخ، ومروره بمراحل ومدارس وتيارات واتجاهات، هل يمكننا الحديث عن فن تشكيلي ليبي، ومن ثم الحديث على أن هناك تطور في فننا المحلي؟

– الشفتري: بالنسبة لتاريخ الفن الليبي لا أرى أنني مخولة بالتحدث عنه، فهناك أهل اختصاص من دكاترة (باحثين ومعيدين) بإمكانهم التحدث عنه بإسهاب، ولكن في اعتقادي الشخصي أن الفن الليبي الحديث (وهنا لا أتكلم عن الفن الصخري وجداريات الكهوف)، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن لم تحدث به حركة فنية ذات تأثير يذكر، رغم وجود أسماء عبقرية قدمت إبداعاً يماثل ما قدمه فناني العالم، لا يسعني حصرهم أو ذكرهم ولهم كل التقدير والاحترام، إلا أن أغلب التجارب الفنية المحلية فردية صرف.

– الليبية: ما أبرز السمات أو المزايا التي ميزت لوحاتك التي على ضوئها منحتك لجنة التقييم الجائزة الدولية عن فئة الفنون التشكيلية، في مهرجان المرآة السابع 2007؟

– الشفتري: في عام 2007 كان ‘‘صولو’’ أول معرض شخصي فعلي، وهو أول عرض للوحاتي خارج أطر المشاركات في بعض المحافل، ثم في 2005 شاركت في معرض ثنائي، ومن خلاله برزت هويتي الفنية أو أسلوبي. معرض ‘‘لغة بلا أقنعة’’ كان نوعاً ما صادم للمتلقي، من عدة جوانب، الموضوع والخامة، وحتى التجهيز له، بمعني آخر كان خارج الصندوق.

بينما معرض ‘‘حينما تنام المدينة’’ عزز مصداقية إنتاجي وفكري، وكان بطبيعة الحال أكثر صفاءً وتركيزاً، كونه معرض شخصي. كانت أحد لوحاتي التي شاركت بها في هذا الحدث من هذا المعرض، وللأمانة لا أتذكر أي لوحة بالضبط تم التركيز عليها، ولكن بصفة عامة كانت لوحاتي بخاماتها وأفكارها مختلفةً، ومن خلالها تحصلت على هذه الجائزة.

– الليبية: منذ ذلك الإنجاز، وحتى اليوم، ما هي المزايا الإضافية التي طرأت على مجمل أعمالك اللاحقة وجعلت لوحاتك أكثر تطورا من الناحية الفنية والجمالية والتقنية؟

– الشفتري: في الحقيقة حدثت الكثير من الأشياء القيمة جدا على مدار سنوات احترافي للفن، أعتبرها أهم من التتويج بالجوائز، وإحراز الألقاب الدولية. أنا -وبكل تجرّد- إنسان بروح فنان، أو فنان بروح إنسان، بالدرجة الأولى أهتم بتأثير اللوحة في المحيط والمتلقي. أحب هذه الحال من الحوار وهذا التفاعل. ربما هي تأثيرات نظرية (أثر الفراشة)، هذا حق إلى حد ما يعنيني. شاهدت العديد من الانفعالات من مختلف شرائح المجتمع على لوحاتي، وكذلك في أغلب مشاركاتي الدولية كان هناك هذا الحوار بين المتلقي واللوحة.

– الليبية: ماذا قالت المستشارة الألمانية في الفنون ‘‘كريستين وافر’’ بخصوص أعمالك، حين زارت ليبيا لتسجيل انطباعها عن الفنون في ليبيا؟ وما هو تقييمها للفن التشكيلي في ليبيا؟

– الشفتري: في الحقيقة لم أحظى بنسخة مما كتبت عني، ولكن أتذكر إعجابها الكبير بتجربتي وتوثيقها ضمن الأشياء التي لفتت نظرها خلال زيارتها لليبيا. وأعتقد أنها نُشرت في إحدى المواقع الإلكترونية في ألمانيا.

من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري
من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري

– الليبية: ‘‘حينما تنام المدينة’’، ‘‘أشياء وأشياء أخرى’’، ‘‘لغة بلا أقنعة’’، جمل قصيرة تحمل دلالات ومعانٍ كبيرة، وأنت التي يشهد لك بأنك تجيدين توظيف الكلمة، كيف تخدم الكلمة فنك؟

– الشفتري: فعل الرسم أو الكتابة وجهان لعملة واحدة، من المؤكد أن الحرف في حالته البدائية عبارة عن شكل فني، ورسم في شكله النهائي. هو حوار وكلمات تخاطب المشاهد، وتقدم له المشهد البصري بهذه الصيغة. المُحصلة واحدة؛ الجانب الفني والإبداعي في الحالتين. وربما استخدام الكلمة هنا دعوة لدخول عوالم اللوحة.

– الليبية: ما تأثير الاغتراب على مهاراتك وتقنيات وأسلوب الرسم لديك في الفن التشكيلي؟ وكيف انعكس ذلك على قدرتك في محاكاة البيئة المحلية بعد أن أصبحت بعيدة عن عينيك؟

– الشفتري: الاغتراب نصل ذو حدين، من جانب مؤلم ومن الآخر يقدم الكثير من الخبرة والنضج على جميع الأصعدة في تكويني كإنسان، ومن الجانب المعرفي والفني وعموم الأشياء استثمرت هذا الألم داخل لوحاتي، وفي لحظات كثيرة أشعر أني توحدت مع الطبيعة (حالة صوفية)، اقتربتُ أكثر من الأرض وروائح الأشجار وعصافير البرية، قرأت كثيرًا، استمعت أكثر. قدم لي الاغتراب عزلة محببة (اكتشفت ذلك مع الوقت)، ومن خلالها وجدت الكثير من الوقت للتعرف عن ذاتي والإبحار في أغوارها.

– الليبية: ما هو الشكل أو الشيء الذي وقعت عينيك عليه فتمنيتي لو كنتِ اهتديتِ بخيالك إلى رسمه قبل أن يُجسد واقعا؟

– الشفتري: ‘‘سؤالك خلاني نفكر’’، لم يحدث في نفسي هذا الشعور بقدر ما يشعرني بالغبطة والسعادة. أشاهد الأعمال الفنية العظيمة كنوع من المراس الفني وتغذية للروح، وذلك لإيماني أننا كبشر لدينا زوايا مختلفة للنظر والمشاهدة، وأيضًا في طريقة ترجمتها وصياغتها، حيث أن لكل إنسان رؤيته الخاصة به، وبدرجات متفاوتة؛ مثل الألوان في اختلافها.

– الليبية: من يشاهد اللوحة ليس كمثل من يصنعها، فالأول يأخذ منها، والثاني يبث فيها شيئاً من روحه، هل تشعرين بأن أعمالك حية نابضة بالحياة، هل خيّل إليك ذات مرة أن الألوان في لوحتك تموج، وأن الشخصيات تتنفس وتتحرك؟

– الشفتري: فعلًا، اللوحة كائن، أحيانا يكون هين ومطيع، وفي الأغلب يجمح ويصعب مراسه. هناك حالة لا يمكن شرحها في جمل أو كلمات بين الفنان ومشروعه الفني، من لحظة لمعان الفكرة إلى لحظة وصوله لحالة الاكتفاء منها (وهنا لا تعني الاكتمال).

– الليبية: يوصف الفن التشكيلي إلى جانب الفنون الأخرى بأنه جسر تواصل بين الثقافات الأخرى، فما الذي يحاول أن يوصله فنك لهذه الثقافات، وما الذي يمكن أن تضيفه لوحاتك حين تعرض في معارض محلية؟

– الشفتري: يقال إن الفن مرآة الشعوب؛ بمعنى أنه انعكاس لهم لما يحدث داخل هذه المجتمعات من خير وشر. من جانب الفن؛ يوثق هذه المشاهد لتصبح يوماً ما شاهداً على العصر. أما ما مدى الاستفادة من العرض محليًا فيتمثل في طرح هذا الموضوع لنقاش والفهم، وربما للتوصّل إلى حلول، وأيضا لتحقيق الجانب الفني والوجداني.

– الليبية: ماذا تسمين مرسمك؟

– الشفتري: بتجرد.. لا يحم اسما بعينه. هوا حالياً ‘‘مكتب’’، في وقت سابق كان في حجرة نومي أو في حجرة الجلوس. المرسم معنويًا هو مكان يتوفر فيه عنصران: الهدوء وإمكانية الرسم من الناحية العملية.

من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري
من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري

– الليبية: لابد وأنه عالمك الأكبر الذي يحتوي وجودك، فكيف يمكنك وصفه بعيون فنان تشكيلي؟

– الشفتري: لا شك هو المكان الذي يشعرك بالانتماء، فبالتالي يجب أن يحتوي على متعلقات تخصني: كتب، موسيقى، وغيرها، طبعاً عدا أدوات الرسم.

– الليبية: مسيرتك لابد أنها لم تخلوا من عقبات سعيت بعزيمة للانتصار عليها، والوصول لطموحك الذي يبدوا إيمانك به قويا جدا لدرجة بلغت محطة مهمة من محطات حياتك.. أخبرينا عن قصة ملهمة من قصصك في الإصرار والعزيمة؟

– الشفتري: هنالك الكثير من قصص التحدي التي عايشتها على مدار هذه السنوات، ولكن أكثرهم قيمة في اعتقادي قصة إصراري على دخول مجال الفن رغم التخوف من المحيطين بي. أثبتت لهم ولنفسي بالدرجة الأولى قدرتي على الوصول لهدفي. ذلك أيضًا عزز مصداقية أفكاري وطموحي.

– الليبية: نلحظ كثير من المبدعين في مجال الكتابة، يتجهون في خطوة لاحقة إلى ممارسة الفن التشكيلي، ما مرد ذلك في نظرك (هل يحاولون التعبير عن أشياء لم يتمكنوا من وصفها بالكلمات؟ وهل ذلك يفيد بأن التشكيل أكثر فن قادر على التعبير عما يجول في أعماقنا؟

– الشفتري: لا أجد أية مشكلة في استخدام الكاتب لفن الرسم في التعبير، إلا إنني مؤمنة أن الفن والأدب يصبان في نهر واحد، ربما هو بحث مختلف من جاب الكاتب عن لغة أشمل تتجاوز حدود اللغة.

– الليبية: ما هي اللوحة التي قمت برسمها وأحسست أنها عبرت عن ذاتك، وعما تشعرين به، وما تودين أن تخبري العالم به. ما هي اللوحة التي ما أن أتممت إنجازها حتى انتابتك حالة من الرضا، أو الإشباع الروحي، أو النفسي، أو السعادة، أو شعور غريب لم تألفيه؟

– الشفتري: صدقاً.. هي حالة مستمرة مع كل إنجاز، وكل مشروع فني لي، في تفاصيله توجد علاقة قائمة مع هذا الكيان، في أشياء كثيرة نتقارب، وفي العديد أيضًا نختلف. الرضا الكامل لا مكان له، ولكن هناك اتفاق ضمني بيني وبين لوحاتي.. حتى إشعار آخر!

مقالات ذات علاقة

يوسف الحبوش لـ«بوابة الوسط»: «عمر المختار» يصحح المغالطات التاريخية

المشرف العام

عبدالحكيم عامر الطويل في حديث حول أدب الخيال العلمي: مازلت مندهشاً كيف أنني الكاتب الليبي الوحيد حتى الآن الذي نَشَر في هذا الأدب

رامز رمضان النويصري

حوار مع الدكتور المولدي الأحمر مؤلف كتاب الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا

المشرف العام

اترك تعليق