إعادة نشر في الذكر الـ6 لرحيل الكاتب إدريس المسماري
أن تكتب نقدا يعني أن تحترق بحمر الأسئلة كيف، لماذا، أين؟!
إنها أسئلة الحفر المستمر في الذاكرة الثقافية للبحث عن الأجمل والأروع في الإبداع وأبعاده، رؤياه، طموحه، إشكاليات يطرحها الناقد أسئلته، أسئلة الواقع الثقافي والاجتماعي على النص المبدع ويبحث في دلالاتها الجمالية والموضوعية، يستبطن إشكالياته ويخوض معه مغامرة ارتياد المجهول لعالم الفن والحياة الشاسع بحثا عن حقيقة الوجود، وهو يخوض غمار صراعه مع السائد والمألوف ليكسر الرتابة التي يكرسها واقع الثقافة المختلفة، والناقد الموضوعي يعلم أن بإمكانه أن يعبر طرقا عديدة ليصل إلى الحقيقة.
ولهذا فإنه في قراءاته النقدية للعمل الإبداعي يحاول استنطاقه ليقول ذاته ويكشف عن أبعاده التي تؤشر إلى طموحه، وهذا ما سنحاوله في قراء تنا لواقع الحركة الشعرية في بلادنا.
لابد من الإشارة بداية إلى أن الحدود التي تبحث التجربة الشعرية فيها هي حدود بيانية، فنحن لا ندعي أننا سندرج كل العملية الثقافية الشعرية داخل هذه القراءة ولكننا نحاول تلمس الخطوط العامة التي تحكم التجربة الإبداعية بشكل عام والشعرية بشكل خاص، ولهذا فإننا ندرك مقدما بأن نصيبنا من الخطأ والصواب متوازن، ولكن ما يهمنا هو طرح التساؤلات والإشكاليات التي تحكم تجربتنا الشعرية.
إن أول ما يستوقف الدارس «للحركة» الشعرية في ليبيا هو عجزه عن لملمة القصيدة الليبية المبعثرة في الصحف والمجلات وبعض الدواوين المتفرقة التي طال الأمد على إصدارها، فالباحث عن المعرفة للخارطة الشعرية في ليبيا سيصاب بالإحباط وهو يهرول بحثاً عن القصائد المتفرقة والمبعثرة هنا وهناك، هذه أولى السمات التي نعبر منها إلى مجمل الإشكاليات التي تعاني منها التجربة الشعرية والمتمثلة هنا في غياب حركة نشر نشطة للكتابة الإبداعية، فأية وضعية ثقافية ضعيفة على مستوى الاتصال، هي بالضرورة ضعيفة على مستوى الإبداع، وهذا ما نلاحظه في مسيرتنا الثقافية بشكل عام، قد يكون رأينا هذا قفزا على الإشكاليات الحقيقية التي تواجهها العملية الإبداعية، ولكننا أردنا أن نبدأ من هذه النقطة، لأنها مؤشر مهم لوضع الحياة الشعرية في بلادنا التي تعاني نتائج الضعف البنيوي في التركيبة الثقافية /الاجتماعية التي تشكلت فيها بحكم ظروف تاريخية حضارية خاصة.
فما هي إذن ملامح هذه الوضعية على صعيد الحركة الشعرية؟
في منتصف الخمسينات ولدت القصيدة الحديثة في ليبيا، والتي جاءت من رحم التجربة الشعرية في المشرق العربي حيث بدأت ثورة الشعر الحديث الذي كان نتاجا لعملية التغيير الجذرية التي شهدتها البنية الاجتماعية السياسية في المنطقة العربية عقب الحرب العالمية الثانية، ومثل أي مولود يحاول أن يقلد من سبقوه في الحياة احتذى شعراء الخمسينات والستينات طريق رواد القصيدة الحديثة في المشرق، لبسوا أرديتهم وقلدوا أصواتهم وعاشوا عوالمهم، وأخذ كل شاعر ليبي من شعراء تلك المرحلة الصوت الشعري لشاعر عربي هو الاقرب إلى رؤيته الاجتماعية ومزاجه النفسي، والمتتبع لبدايات الشعر الحديث في ليبيا سيلاحظ بسهولة ملامح عدد كبير من الشعراء العرب مثل صلاح عبدالصبور وعبدالمعطى حجازي، وعبدالوهاب البياتي، ونزار قباني، وغيرهم، في القصيدة المكتوبة في ليبيا خلال تلك المرحلة، وهذا ما جعل من القصيدة المكتوبة هنا قصيدة شبه مستنسخة من المشرق تحمل في طياتها تضاريس الثقافة العربية في عمومها وبدون تحديد للبيئة التي أنتجتها، قصيدة تهب منها نسمات النهر في مصر، ويحرك موسيقاها نخيل العراق، ولهذا افتقدت قصيدة تلك المرحلة عمق استبطان التجربة الذاتية للشاعر فهي قصيدة مكتوبة بشعور ثقافي وليس بشعور يمنح مكونات الحياة المعاشة دلالاتها الإبداعية.
إننا ندرك أننا لم نأت بجديد فهذا الرأي الذي يمثل سمة من سمات التجربة الشعرية في ليبيا يملك عمقه التاريخي وسبق أن لاحظه العديد من النقاد ولهذا فمن المهم لمعرفة أبعاد هذه الإشكالية الرجوع إلى الأستاذ الناقد (خليفة التليسي) الذي كان من أوائل النقاد الذين أمسكوا بهذه الحقيقة ولفتوا أنظار الدارسين إليها.
ففي عام 1965 أصدر التليسي دراسته النقدية الرائدة (رفيق شاعر الوطن) ويجب التنويه هنا أن الحياة الثقافية في ليبيا لم تعرف كتابا نقديا بمثل منهجية وعمق هذا الكتاب الذي لم يتكرر -حتى الآن-والذي فجر الكثير من القضايا الإشكالية التي تزخر بها المسيرة الشعرية في بلادنا، ويمكننا القول إنه الآن وبعد ربع قرن من صدور هذا الكتاب مازالت القضايا المنهجية التي أثارها تكتسب وجودها الإشكالي على أرض التجربة الشعرية.
من خلال واحد من أهم رموز المدرسة الكلاسيكية الحديثة في ليبيا وهو الشاعر “أحمد رفيق” يطرح التليسي الإشكالية الرئيسية التي عانت منها الحركة الشعرية في ليبيا عبر مراحلها المختلفة المتمثلة في كون الشعر في بلادنا هو هامش للمتن الشعري في المشرق العربي.
يقول الأستاذ التليسي في نقده للمدرسة الكلاسيكية الحديثة المتمثلة في الشاعر موضوع الدراسة (لقد تميزت هذه المدرسة بكل الصفات الموجودة في المدرسة التقليدية الحديثة، من ارتباط بقضايا العصر والأحداث العامة ومحافظة على تقاليد القصيدة العربية مع ضعف التجربة الذاتية والتصويرية، والأسلوب المباشر.
فهي تتفق في ملامحها مع مدرسة شوقي وحافظ، وإن ظلت دون المستوى الذي تحقق لأعلام هذه المدرسة (١) هذه السمة هي نفسها التي يلاحظها الأستاذ التليسي بالنسبة لحركة الشعر الحديث في ليبيا في تلك المرحلة، فبعد أن يورد مجموعة من رواد القصيدة الحديثة في المشرق من أمثال السياب، عبد الصبور، البياتي، نزار، يقول (أقبل عليهم شباب الشعراء في ليبيا يتأثرون بهم وقد كاد بهؤلاء يكون القاعدة الوحيدة الأساسية التي يقوم عليها تكوينهم الأدبي، تبين انفصالا كاملا عن الأدب القديم واحتذاء تاما للنماذج التي يقدمها الشعر الحديث)(2).
ويحدد الناقد “نجم الدين الكيب” طبيعة العلاقة ما بين الأجيال الشعرية في ليبيا بشكل أكثر دقة موضحا إشكالية العلاقة المفقودة في تطور التجربة الشعرية عند مختلف الأجيال وقضية التأثير والتأثر فيما بينها… (ليس هناك على التحقيق صلة تأثر جيل الخمسينات ولا حتى السبعينات بشعراء الثلاثينات ولا حتى الأربعينات، ذلك أن الصلة بين هذه الأجيال كانت هي الأخرى مقطوعة لعدم انتشار وتداول ما أنتجه شعراؤنا الكلاسيكيون إلا بالمشافهة وهي طريقة عقيمة لا يعول عليها كثيرا في التوصيل، ناهيك بحدوث التأثير، وعندما اهتم كتابنا بنشر أشعارهم في دواوين أو عبر دراسات مستقلة، كما فعل الأستاذ التليسي – بالنسبة لرفيق.
كما فعل الأستاذ المصراتي بالنسبة للشارف، والأسطى عمر – أقول عندما تم نشر وتداول الجزء الأكبر من أشعارهم من ناحية واقعية فاقدة للهوية، وعاجزة عن القدرة على التأثير، الجيل الجديد من الشعراء وإن حدث الاتصال بشعرهم فقد تم هنا من باب دراسته والاطلاع عليه، كمرحلة من مراحلنا الشعرية وكمحطة من محطاتنا على نهج الشعر!
وبالتالي فإنه من المؤكد أن شعراءنا الجدد لم يكن لهم صلة تأثير تذكر بشعرائنا الكلاسيكيين وإنما التأثير قد جاءهم مما كان ينتج من شعر المشرق العربي وعلى وجه الخصوص في مصر والعراق ولبنان وسورية ومهاجر أمريكا)(3).
هذه المرجعية الشعرية التي وسمت حركتنا الشعرية ليست ذات طابع خاص بواقعنا الثقافي، فهي تجد جذورها التاريخية في العلاقة العضوية التي تربط ما بين مشرق الوطن العربي ومغربه وثقافته وفي هذا يلتقي -كذلك- الشعر في بلدان المغرب العربي مع هذه الوضعية، إنها سمة عامة لطبيعة الشعر في هذه المنطقة، والتي يطلق عليها المحيط الشعري الذي هو في جوهره المحيط الحضاري الذي تحكمه عوامل ثقافية/لغوية مشروطة بعوامل اجتماعية/تاريخية ميزت الفعاليات الثقافية في منطقة المغرب العربي وعلاقته الجدلية بالمشرق.
ومما تقدم نلاحظ وجود عاملين حكما (حركة التجديد الشعري في ليبيا) وكان لها دور بارز في شكل التجربة الحديثة بالشكل الذي برزت به على الساحة الثقافية، العامل الأول هو ضعف العمق التراثي للشعر التقليدي الذي كان يمثل صدى ضعيفا لصوت المدرسة التقليدية في المشرق، والعامل الثاني تمثل في عمق وقوة حركة التجديد الشعري الحديث في المشرق وهكذا… من القوة والضعف خرجت تجربتنا الشعرية الجديدة نموذجها واختيارها كامنان في حركة التجديد التي تنتسب لها إننا لا نعيب -قيميا – طموحات الشعراء في تلك المرحلة بقدر محاولتنا تحديد الإطار الذي ساهمت به في تشكل تجربتهم الشعرية، لأنهم في نهاية الأمر نتاج لتركيبة ثقافية تاريخية، لا يمكن لوعيهم الاجتماع أن يتجاوزها فكل فئة ترنو بالفعل إلى معرفة واقعها بطريقة ملائمة لكن وعيها لا يمكنه أن يذهب إلا إلى الحدود القصوى المنسجمة مع وجودها)(4). لهذا كان من الصعب على هذه التجربة الشعرية أن تتجاوز حدود إمكانياتها الموضوعية مهما تملكت من صعيد الإبداع الفردي قدرات على صعيد الإبداع الفردي، فالمبدع الفرد لا يشكل دلالة ثقافية في واقع ثقافي معين إلا ضمن الحركة الثقافية الشاملة التي يتأطر عطاؤه الإبداعي ضمنها والواقع الثقافي الذي عمل ضمنه رواد الشعر الحديث في بلادنا اتسم بضعف تركيبته البنيوية لأسباب تاريخية موضوعية وبالتالي فقد كان العطاء الشعري الجيد لهؤلاء الشعراء من الندرة بحيث لا يستطيع الحياة مكتفيا بذاته وبمعزل عن روافد الشعر العربي في بقية أنحاء المنطقة العربية، هذه الأسباب وغيرها أسهمت في عدم تطور شعراء الستينات برؤيتهم وأدواتهم الفنية، فقد ظلوا يراوحون في أماكنهم يعيدون إنتاج قصيدتهم الأولى التي وقفت ضمن التشكلات الأولى لتطور القصيدة الحديثة في المشرق، ولكن لابد من الإشارة إلى أنه بالرغم من عدم تطور تجربتهم الإبداعية إلا أنهم أسهموا في خلق تيار شعري جديد، كان ركيزة للأصوات الجديدة التي برزت مع بداية السبعينات وهذه الأصوات بتعدد إمكانياتها ورؤاها. تحاول أن تقول صوتها، وتوغل في أحراش الواقع المتشابك، تكتب قصيدة الزمن الصعب / المركب الذي تداخلت فيه الألوان واختلفت المسميات والمفاهيم والرؤى.
لقد أدرك الشعراء الشباب- بدرجات متفاوتة من العمق والوعي – أن مأزق القصيدة التي كتبت خلال المراحل السابقة – ولم تزل تكتب لدى البعض – هو وقوعها في أسر الرؤية المسبقة واللغة المكررة التي تئد الشعر في القصيدة قبل أن يولد، ولهذا عمل هؤلاء الشعراء على الابتعاد عن اللغة التقريرية والمباشرة اللتين ميزتا قصيدة الستينيات، وعلى الإيغال في أعماق الحياة عبر لغة شعرية متجددة متعددة النغمات والأصوات، لغة تتأسس بناء على جدلية العلاقات ما بين البحر والجبل والصحراء وهي العناصر التي تشكل أعماق هذا الواقع بيئيا، واجتماعيا وثقافيا.
إن هذا ما سينضج به دم القصيدة الجديدة التي يطمح شعراؤنا إلى كتابتها من خلال جسد العالم المتشظي الذي يحلمون بإعادة تركيبه في بنية واحدة، هي بنية لغة القصية التي تنتمي للفن والحرية والإنسان.
إدريس المسماري (مقاربة البعض إشكاليات القصيدة الحديثة في ليبيا)، مجلة البيان – الكويت، العدد” 360 – 361، 1 يوليو 2000م.
الهوامش:
(1) خليفة التليسي، رفيق شاعر الوطن، ط3، 1976، ص37.
(2) نفس المرجع، ص 41.
(3) نجم الدين الكيب، عن دوائر الزوايا المتداخلة، الفصول الأربعة، العدد 25، 1984، ص 196.
* يشير الشاعر والناقد المغربي (محمد بنيس) إلى هذه المسألة بشكل موسع في كتابة حداثة السؤال، ص 95 وما بعدها.
(4) محمد بنيس، حداثة السؤال، «عن لويس جولدمان»، ط2، سنة 1998، ص 102.