لم تختلف شخصية الرائد عبدالسلام أحمد جلود في مذكراته وسرده شهاداته التي أطلق عليها “الملحمة” عمّا عرفناه في هزلية شخصيته الحركية وتصرفاته الظاهرية غير المدروسة أو المحسوبة بعناية، منذ وعينا وتفتحت مداركنا على أحداث ومناسبات النظام السياسي الذي كان فيه مشاركاً فاعلاً، وعنصراً ثورياً منقلباً على العهد الملكي الذي منحه تعليماً مجانياً وثقافةً وتدريباً ورتبة عسكرية، سرعان ما خذله وخان قسمه الوطني وشرفه العسكري حين تمرد وتنكر لكل تلك الجهود والتحديات الوطنية التي خاضتها حكومات دولة الاستقلال منكراً تاريخها الماضوي كافةً بكل صفحاته البيضاء والرمادية والسوداء.
عشرة فصول مدعمة ببعض الصور الفوتوغرافية التاريخية تضمنها كتاب (مذكرات عبدالسلام أحمد جلود “الملحمة”) الصادر بداية هذا العام 2022م عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدولة قطر، والذي جاء في حوالي أربعمائة وثمانين صفحة، بإهداء من المؤلف وتقديم من الناشر يقول فيه (إن طبيعة المذكرات ذاتية دوماً، وتتحكم فيها بؤرة صاحبها بسرد الأحداث وتفسيرها وتأويلها، وحتى بانتقاء بعضها دون أحداث أخرى وقعت.) وهذا فعلاً ما اتبعه عبدالسلام جلود في سرده مذكراته التي اختار أن تكون ذاته الساردة هي البطلة المعبئة بأهداف القومية العربية، والصادحة بالثورة ضد الأنظمة العربية، والداعمة لحركات التحرر العالمي والنضال الفلسطيني، وغيرها مما انتقاه في سردياته التي احترمتُ فيها جانباً واحداً فقط، وهو استمرارية إيمانه حتى وقت كتابتها، بشعارات القومية والوحدة العربية الشاملة وقضايا التحرر العالمي ووو .. وغير ذلك مما يجعل الوطنية وليبيا كلها، تحتل مرتبة دونية ومتأخرة في اهتماماته الشخصية حالياً كما هي عليه حين كان مشاركاً رأس سلطة الحكومة، وبصفته الرجل الثاني في ليبيا كما تطلق عليه بعض وسائل الإعلام.
تكشف المذكرات حجم ما تم إهداره من أموال ضخمة من خزانة الدولة الليبية، حرم منها المواطن البسيط وقدمت لأمم وشعوب في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية سواء للحكومات والدول أو لأفراد سياسيين وحكام وعسكريين مؤيدين أو معارضين لدولهم من أجل شعارات سياسية تبخرت ولم يجني منها الشعب الليبي شيئاً على الإطلاق.
ومن أبرز ما أفصح عنه عبدالسلام جلود في هذه المذكرات هو أن الفكر في السياسة الليبية طوال الفترة التي شارك فيها يمكن وصف مستواه بالطفولية أو الصبيانية السياسية الانفعالية التي تغذيها العواطف الشخصية أو صوت الهتافات الشعبية التي لا تحتكم إلى صوت العقل والتروي والحكمة في اتخاذ القرار الصائب. كما أن ضيق الأفق الذي لم يحاول عبدالسلام جلود ورفاقه السياسيين توسيعه ليستوعب مستجدات السياسات العالمية والتكيف معها، حيث استمر الاصرار والعناد على التفكير برؤية أحادية قومية تأسست في فضاء زراعي بسيط يتسم بالجهل والفقر والرؤية المحدودة للأهداف المعيشية دون اعتبار لحنكة العمل السياسي ودهاء وخداع العالم وما قد يجره ذلك التلون العبثي من نكبات وخسارات فادحة وانتكاسات للشعوب وهذا ما حصل للشعب العربي نتيجة سياسة الفرد المطلق القادم من الأرياف، ويمثله ما خسره الشعب الليبي ليس من نفط وغاز ومقدرات أخرى أهمها الزمن والوقت اللذين لا يمكن تعويضهما أمام العجلة الزمنية المتسارعة في هذا العصر.
لم يقتصر أسلوب الرائد عبدالسلام جلود في مذكراته على روح التعالي وتأكيد التفوق والتميز على زميله وقائده معمر القذافي فحسب بل تنصل من الكثير من القرارات المصيرية والمواقف المشتركة التي ساهما فيها معاً، وكانت نتائجها حالات التردي والتخلف والتمزق الذي وصل إليها المجتمع الليبي سواء من خلال إشرافه المباشر على ما كان يسمى “معسكرات التربية العقائدية” التي كان دورها ترسيخ مفاهيم أيديولوجية وسياسية في الشباب “البراعم والسواعد والأشبال” تأسيساً على فكر النظرية العالمية الثالثة ومنطلقات وشعارات الكتاب الأخضر بأجزائه الثلاثة، وما رسخته من خراب مادي وتدمير فكري لعقول الشباب استمرت انعكاساته السلبية على الحياة بكل صورها في ليبيا حتى الوقت الراهن.
أما دوره في حل المشاكل اللبنانية الفلسطينية فهو يقول في مذكراته بأنه موقف وتصرف شخصي بحت، ولم تكلفه الدولة الليبية بذلك مطلقاً. فيا ترى من يتحمل إذاً كل تلك المصاريف المالية وصفقات الأسلحة والعمولات الجيبية التي دفعها عبدالسلام جلود للزعماء اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وبالمثل كذلك فترة بقاءه في إيران أثناء انتفاضة الشعب الإيراني وما أنفقه على تأييد ودعم الثورة الإيرانية وقادتها؟
وهو يقول معترفاً في الصفحة رقم 155 (قرار بقائي في دمشق هو قرار شخصي وليس قرار القيادة في ليبيا. اتخذت هذا القرار على مسؤوليتي رغم معارضة القيادة؟) ويضيف مؤكداً في الصفحة رقم 158 (في هذا السياق، أريد أن أورد شيئاً مهماً: إن قرار بقائي 58 يوماً كان قراراً شخصياً، وكان الأخ معمر معارضاً لبقائي خارج ليبيا كل هذا الوقت، وخاصة في لبنان، وكان خائفاً عليّ، بل إنه رفض أن يتحدث معي هاتفياً … لقد اتخذت قراري هذا من أجل سوريا ولبنان ومن أجل فلسطين …).
إذاً بهذا الاعتراف الشخصي والطوعي فإنه يجب فعلاً رفع قضية أمام المحاكم الليبية لمحاسبة عبدالسلام جلود كمسؤول ليبي عمّا أهدره من أموال هائلة، وتسجيله مواقف سياسية شخصية تحسب على الدولة الليبية وهو كما يعترف ويصر في مذكراته على أنها مواقفه الفردية الخاصة التي اتخذها انطلاقاً من إيمانه الشخصي بمباديء القومية العربية وقضية تحرير فلسطين ومناصرة شعوب العالم من أجل الحرية دون أية مراعاة للسياسة أو المصلحة الوطنية لليبيا ولم يأخذ الإذن من الليبيين على صرف أموالهم من الخزانة العامة لهذا الغرض؟
إن (مذكرات عبدالسلام أحمد جلود “الملحمة”) لا تتضمن الإشارة إلى الغارة الأمريكية في إبريل 1986م وتبعاتها، ولا قضية لوكربي وتداعياتها وآثارها على الشعب الليبي، كما أن عبدالسلام جلود لم يقل كل الحقيقة بصدقية تفاصيلها الدقيقة أثناء حضوره سنة 1977م إلى ساحة كلية الهندسة بجامعة طرابلس وإنكاره إطلاق الرصاص من مسدسه الشخصي في حادثة موثقة صوتاً وصورةً، مدعياً أن أحد مرافقيه من الحراس هو الذي قام بذلك.
وهو يقول أيضاً في الصفحة رقم 262 (في عام 1971، طلب الأخ معمر من العقيد أبوبكر يونس جابر رئيس الأركان، والمقدم حامد الويشاحي مدير إدارة العقود العسكرية، إقامة مصنع للأسلحة الخفيفة والمتوسطة …. ولكني ما إن علمت بالعقد حتى أوقفته، واتصلت بالأخ معمر وقلت له :” الأسعار مبالغ فيها ويدور الكثير من الشبهات حول الصفقة …) فهل كان أبوبكر يونس جابر يحمل رتبة عقيد في سنة 1971م؟ أم اقتصرت تلك الرتبة على معمر القذافي دون غيره من أعضاء مجلس قيادة الثورة؟ وهل فعلاً أوقفت الصفقة العسكرية؟ من ينفي أو يثبت؟
أما عن أسلوب حواراته ومناقشاته مع الرؤساء والسياسيين العرب وغيرهم وحتى مع رفيقه معمر القذافي، والذي أورده في صفحات الكتاب فهو يختلف تماماً مع ما عهدناه فيه من طيش ونزق وهمجية وخلل فكري تكشفه العديد من المواقف المشينة التي لن ينساها الليبيون له، ومن بينها حادثة صعقه التيار الكهربائي بسبب رذاذ لعابه المتطاير أثناء إلقاءه إحدى خطبه الطويلة المملة، وكذلك جبل المناديل الورقية التي ظلت أمامه على منصة مكبر الصوت وهو يمسح به عرقه أثناء صداحه وزعيقه في إحدى الخطابات السياسية التي كان يتهجم فيها على تونس الشقيقة بعد زيارة إليها، ومصافحته لآمر حرس الشرف أثناء زيارته إيطاليا مخالفاً الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية، وغيرها من التصرفات غير المتوازنة التي تؤكد عدم مصداقية ما يدعيه من بطولات في مذكراته “الملحمة”، محاولاً استغفال الليبيين من خلالها بكل سذاجة، خاصة من هم في عمرنا وجيلنا الذين عاصروا ممارسات الرائد عبدالسلام جلود المتهورة للسلطة والبطش أثناء إشرافه على مكتب الاتصال باللجان الثورية ومعسكرات السابع من أبريل وغيرها من الأجسام الفكرية الايديولوجية والسياسية في تلك الفترة.
أخيراً، تعتمد كتابة المذكرات والسير الشخصية على الصدق أولاً والأمانة ثانياً في سرد الأحداث بكل سلبياتها وإيجابياتها وفقاً للظروف الماضوية التي وقعت فيها، وليس وقت كتابتها وتسجيلها، وهي من تلك الخاصية تكتسب أهميتها وقيمتها التاريخية، ولكن ما طالعته في (مذكرات عبدالسلام أحمد جلود “الملحمة”) يختلفُ تماماً، وعزائي في ذلك أنها تمثل شهادة شخصية لصاحبها رغم ما تفتقده من وثائق تعزز تلك الشهادة والأقوال والأحداث وتدحض التشكيك فيها، كما أنها احتوت مغالطاتٍ للحقائق الثابتة بإجماع الشهود، وادعاءات للبطولة الشخصية، ومزاعم للغيرة الوطنية، وتهميش لبعض المواقف التاريخية المهمة مثل حرب تشاد وقضية لوكربي وغيرهما واللتان تستحقان الكثير من التفاصيل بلا تزييف ولا تزوير. ولذلك فتظل (مذكرات عبدالسلام أحمد جلود “الملحمة”) مجرد مذكرات تحتاج إلى إعادة كتابة حتى تكتسب أهمية وقيمة تاريخية!