كثيرا ما ظلت المدينةُ التي يعاملها حكامها تماما، كما يعاملُ أهلُ بيتٍ أخساءَ جدتهم، تبقى كلَّ الأيام حبيسةَ غرفتها، تنشُّ بيديها الذبابَ الذي يطوف حولها، ولا أحدَ يأبه لأبسط طلباتها وبالكاد أنْ تموت عطشا، ولا تحصل حتى على شربة ماء إلا بالصراخ، اهترأتْ ملابسها، ونزَّ جسدها بالعرق إلى العفن؛ إنها مثال متجسد لنكران جميل الأبناء الذين لولاها ما وجدوا، لكنهم من بني جلدة الإنسان الظلوم الجهول.
الفرصةُ الوحيدةُ التي تحظى فيها الجدة بالاهتمام حين يخرجها أهل البيت للزائرين، يجتهدون كل اليوم من الصباح في تنظيفها وغسل ملابسها، وإظهارها بالمعتنى بها، كانت العجوز /المدينة تضحك في داخلها، من الكذب البواح، ومن حسن المعاملة أمامهم، فهي المدللة فترة الظهيرة لساعات، وما إنْ تخطو خطوات الضيوف خارج البيت، ستعود إلى آخره مهملةً كقطعة أثاث قديمة، لا مكانَ لها إلا المخزن، حتى تُرمى أو تُعطى صدقة للمعوزين.
ستنقضي زيارةُ الحاكمين إلى المدينة، وقد ْاجتهدَ اللصوصُ في تجميل المقابح، وإيناع قحولة جدبها فترة وجيزة، وحدها المدينة كالجدة تعرف الحيلة، لكنها – المدينة – أكثرُ ذكاءً، ولا تحسنُ الظنَّ في الضيوف كما المضيفين، وتتركُ للسان التاريخ، الذي لا يمتهن الكذب والتزوير قول الحقيقة .