للمرة الثانية يتاح لي قراءة كتاب للكاتبة صابرين أحمد عودة فكان الأول رواية والآن كتاب من نصوص نثيرة أو ما اصطلح عليه بالشعر النثري تحت مسمى “أريدكَ وأكثر”، والكتاب من 182 صفحة من القطع المتوسط من اصدار جفرا ناشرون وموزعون مع لوحة غلاف تثير التساؤل حول محتوى الكتاب مسبقا ولوحة غلاف تحمل صورة الكاتبة بشكل جانبي لا يظهر وجهها وهي ترتدي الثوب الفلسطيني والطرحة البيضاء على رأسها تنظر مبتسمة بالمرآة التي تعكس وجهها مع جمال الاشجار من حولها وهي مبتسمة، وعبارات من نص يتحدث عن الحب من نص بالكتاب تبدأه بالقول: “لا تكتمل الأنثى، إلّا مع رجل يدرك كيفية، الوصول لقلبها” وتنهيه بالقول بصيغة التحذير:”إيّاك ثمّ إيّاك محاورة أنثى لا تدرك، نوتة الحبّ وهمساته”، فهل كان العنوان للكتاب “أريدكَ وأكثر” يخاطب هذا الآخر؟ وهل أرادت أن تعطينا بابتسامتها على الغلاف انطباع أنها راضية عما كتبت من السطر الأول حتى الأخير أو مبتسمة لأرواح والدها ووالدتها؟، وكان الاهداء خارج عن الأسلوب التقليدي فجاء على شكل نثيرة تتحدث عن أولادها وأمها التي رحلت قبل ثلاثة سنوات، وتبدأ القول بعبارة مؤلمة “لا أب لي” فالأب رحل من ثلاثة عقود، وفي صفحة لاحقة تقول: “عذرًا: من تحيّا بالطهر لا تكفّ روحها عن قصائدكَ، وترتحل!”، لتقول في الصفحة التالية وتحت عنوان “تنويه” وقبل أن تبدأ نصوص الكتاب: “من يحبّ كاتبة عليه التعمق في حنايا روحها، يعتزلها مدة زمنية لتدوّن ما يجول بخاطرها أثر موقف مرّ أمامها لتخرج منتعشة، التلذذ في وقت القهوة المتكرر، مع عدم نسيان الغزل الصّريح في حرفها وأنوثتها الطاغية، تحمل مزاجيتها وتقلباتها الخريفيّة”، فهل كل هذه البدايات موجهة لمن تريده وأكثر؟ فما قرأته يشير لرغبة عارمة تجاه المخاطب فهي لا تريده فقط.. بل أكثر، والأكثر يبقى في قلب الشاعرة إن لم نكتشفه خلال الكتاب.
النثيرة أو الشعر النثري والذي انتشر في السنوات الأخيرة بعد أن أطلق أدونيس مصطلح قصيدة النثر عام 1959 بعد أن كان هذا النمط من الشعر قد انتشر في فرنسا وكتبت فيه الناقدة سوزان برنار كتابا نقديا موسعا، وتلاه بعام أنسي الحاج حين وضع ما سمي بالبيان الأول لقصيدة النثر العربية، وبالتأكيد أن التغير على أساليب الأدب عامة وأساليب الشعر خاصة هو بعض من حركة تطور وتغيير، فالقصيدة العربية مرت بمراحل مختلفة من قواعد الخليل والبحور مرورا بشعر التفعيلة بدون الالتزام بالبحور، وصولا إلى الشعر الحر الذي أعلن الثورة على ما سبقه وصولا إلى النثيرة أو القصيدة النثرية، وبدأنا نلمس في الفترة الأخيرة مصطلحات جديدة مثل الحداثة وما بعد الحداثة، وإن كان الكثير مما نقرأ تحت بند الشعر لا علاقة له به وهو أقرب لخاطرة أو خربشات صيغت على شكل قصيدة فكانت كالغراب الذي قلد الحمامة، فلم تصبح قصيدة ولم تعد إلى الخاطرة، فالشعر ابداع روح وفن وله قدرة كبيرة على التأثير على روح المستمع وروح القارئ، وخاصة حين يحفل باللوحات البلاغية ورمزيات غير مغرقة برمزيتها ودقة الصياغة بدون اختلال وتفاوت وكسر إضافة للجَرس الموسيقي، فالشعر مجموعة من التراكيب الحية له مزاياه بكافة تصنيفاته، وهذه التراكيب والمزايا تحلق بالروح إلى فضاءات من جمال وخاصة بعد اعتادت الارواح على القصيدة القائمة على البحور، وأخذت وقتا ليس بالقصير لتذوق شعر التفعيلة، والآن الاشكالية باستيعاب القصيدة النثرية رغم انتشارها بين نصوص متميزة؛ وبين تراكيب يسميها من يكتبها شعرا نثريا ولا علاقة لها بالشعر.
الكاتبة في نصوصها عبر صفحات الكتاب تناولت محاور عدة، ومن أهم المحاور التي تناولتها هي:
اليتم والفقد: الألم على فقد الأم التي رحلت منذ ثلاث سنوات والأب الذي رحل منذ تسعة وعشرون عاما ترك أثره على الكتاب ونصوصه، فنصها الأول موجه لروح أمها الراحلة تحت عنوان: “قلب أمي ندبة في فم الذاكرة” تخاطب بها روح أمها التي رحلت، ويلاحظ أن النص تكرر فيه بدايات ثلاثة بكلمة “أمي” بخط اكبر من خط النص في إشارة رمزية للسنوات الثلاثة على رحيل الأم تخاطبها ثلاثة مرات في اليوم صبح وظهر وليل، وتبدأ نصها بالقول: “ألا تلمحين وجهي كلّ صباح؟ الذي تركتُه في مرآة غرفتكِ، ليهديكَ وردةً كلّ صباحٍ”، وفي نصها “ليلة شتاء” تعود للحديث عن الام واليتم فتقول: ” قد نسيتُ روحي في مكانٍ ما، في ليلة شتاء، أنا الحكواتي فيها، لتؤنس اليتمَ فينا، وتمسح غبار الأيام”، وتعود في نفس النص لتقول: ” اجمعيني أمّي في عروقكِ، ولا تحزني”، ويتجلى الم الفقد في نصها “الأمس المشؤوم” فتقول فيه: ” كانت نهرًا أتوضأ من دمعة عمرها، أغسل شعري في ماء عينيها، وكان ما يُرعبني، أن يتوقّف مجرى نهر حنانها”، ويتكرر الألم بقوة في نصها “صافِحِيني بالموتِ بلا وجع” وفي المقطع التالي يتجلى الوجع ببوحها: ” أمّي: خُذي روحي نحوكِ، فالنّزاع معكِ فيه، “نشوة”، وأنا إنْ نجوتُ من الموتِ، للموت أنجو معكِ”، وفي نصها “غربتي” تحيل الأم إلى وطن فتقول: ” وكان عندي حبيبة، مكونة من حرفين، (أمّ)، على هيئة وطنٍ كبيرٍ، أثرها باقٍ في روحي”.
فكل شيء يذكرها بأمها ويثير مواجعها وهذا ما نراه بنصها “خاتم أمي” بقولها: “وزّعتُ شوقي في الطّرقات، كتبتُ به، كابوس اليُتْم وتعويذة، وخاتم أمّي المدوّن عليه، أوّل الحبّ وآخره”، ويتجلى حجم حزنها في نصها “وجه الحزن” بقولها: “دونكِ الاَن، أنا في عِداد الموتى، وأدركُ الأمر جيدًا، وكان أقسى وجه الحزن، وأنتِ تودّعين الحياة!”، وتواصل سكب دموع الحزن في نصها “ندبة” فتقول: ” عام الحضور البهيّ، فرشتُ الورود، لعلّها، تنبّت حديقة ياسمين، من ظلّها، وتورّد الحياة من روح.. أمّي!”، والأم لا تفارقها في نصوص نثرية أقرب للخاطرة “روح أمّي” وفي نصها “الحضن الدافئ” الذي تتحدث به عن أسرتها من أم وأخوات وأخ، بينما في نصها “شراءُ بسمة” تعود للشعر النثري فتهمس لأمها: “ألا تعاودين الجلوس معي لخمس دقائق فقط؟ في الرّوح شيءٌ عميقٌ حزين، ليس بالسّهل إخمادُ وخزة الحنين لكِ، لكلّ شيءٍ فيكِ”.
ونرى أيضا أن روح الأب التي رحلت منذ زمن طويل لم تفارق الكاتبة ففي نصها “وطن وبحة صوت” تخاطب والدها بالقول: “لترابكَ رائحةٌ عطرةٌ تفوح كلمّا مرّ طيفي، وأرددُ: هي صلاةٌ في هيكل الحرف” وتستمد الصبر على الفقد من اسمها فتقول: “واسمي مثلًا: كان سرُّ البدايات”، وتواصل الحديث مع روح والدها في نصها “عتبةُ الذكريات”فتقول: “ كم توهّمتُ أنّ (والدي) عاش طويلًا، حتى خاب حسابي للنّبضات”، وتستخدم في هذا النص إسم لنوع عطر بالحروف الانجليزية وكان من الأجدر أن تستخدم كلمة “عِطركَ” في العربية فلا تضعف الشطرة، وهذا يتكرر في نصها “نون النسوة والسواد” حين تقول مخاطبة روح الأم بالقول: “أتغسلين وجهكِ بالصابوّنِ (estee lauder) والماء؟” فلو لم تورد الاسم بالأجنبي لما ضعفت الشطرة بل كانت ستكون أقوى.
وتواصل الألم على ذكرى الأب الراحل في نصها “أنثى الفقد” فتقول: ” منهمكةٌ وقلبي في الخريف، والبكاءِ عند عتبةِ الدّيار، على جُثمان الفقيد، قتلتُ ضحكتي”، وتتألق بالوصف لحالة اليتم في نصها “دمعة شوق” فتقول وهي تخاطب الأب: “في ضمّة اليتيم، يسبّح المغزى على، أجراس الموعد، للنهوض من جديد”، وفي نهاية نفس النص تخاطب روح الوالد بالقول: “عُد لي، في غيابكَ رسالتان، دمعةُ شوق تهذي باسمكَ، ورقصةٌ على سقوط الجبناء”، بينما في نصوص أخرى تخاطب الأم والأب كما في نص “صلاة العيد” فتقول: “كيف أهيئ ذاتي للعيد، وأنا لا زلتُ، أرى الأرواح في قلبي”، وفي نصها “الأبيض لي” ربما تخاطب الأب بدون أن توضح ذلك فيصبح النص محيرا للقارئ وتقول: “أنا لا أقلّد أحدًا، تهمس في نبضكَ، هو الأسود لي وحدي، وتتميّز بالأبيض”
الذات: في نصها “ليلة شتاء” تصف نفسها بأنها “أنا أنثى الورق والحبر، لا قارورة عطر”،نجدها تكرر الحديث عن نفسها في نصوص مختلفة ومنها قولها في نصها “القانون الذكوري” بقولها: “كُلّما انتابتني رغبة للحبّ من جديد، أطفأتُها بالهروب، فأدركت الآن، أنّني أنثى كافرة بالحبّ وصوته”، كما قالت عن ذاتها في نص “الحضن الدافئ” موردة حتى اسمها: “حكمة إلهية كانت(الصّابرين)، في المنتصف، هي لم تصارع الموت عند ولادته، بل ردّدت له وغنّت له بفرح طفلة”، وكذلك تتحدث عن ذاتها في نصها “جهد الروح” بالقول وهي تخاطب نفسها: “كل الكلام عالق في الحلق، وكأنّك لا تدركين إلّا حروف العطش، ترفضين البكاء رغم راحتك في دمعاته، ترفضين الاستسلام رغم يقينك بالضعف، تقاومين”، بينما في نصها “وخاب ظني” تنتقل لأفكار أصبحت تؤمن بها فتقول: “وأدركتُ أنّها: حياتي مريض يواسي ميتًا، لا النائم فاق من غفوته الأبديّة، ولا المتألم تعافى من أوجاعه المزمنة”، وترى ذاتها تختلف عن الآخرين بالحب في نصها “أنوثة بلا نشوة” فتقول: “لِمَ في أوطاننا، رواياتُ الحبّ جسدها كبنايةٍ آيلةٍ للسقوط، ولِمَ الحبّ في قلبي أنا، مختلفٌ” وأعتقد أيضا أنها تخاطب روح أمها في هذا النص فالصيغة أنثوية بوضع الكسرة تحت “أحبكِ”، وتصف نفسها في نص “الحدس المزيف” بالقول: “أنا إنسانةٌ سيئةٌ جدًا عند نوبة الحزن، لا أستطيع السيطرة على الدموع الساخنة التي تؤذي خدّ القلب الذي يُتلف منه جزءًا”، بينما في نصها “لا ذنب لي” تخاطب امرأة اخرى صدمت بها فتقول: “وما ذنبي أنا؟ من يومها وصوتُها في رأسي بطرف أصابعي أصافحُ الجميع”، بينما في نصها “أنثى حرة” وهو يدخل تحت تصنيف الخاطرة تقول عن نفسها: “يا الله، كم غدوتُ عن حالي غريبة، وبعيدة جدًا”.
وبعد هذه الجولة في نصوص الكتاب الذي تمتعت به والذي أسال دمعة من عيني من عدد النصوص التي وصفتها بالبكائيات، حيث وجدت نفسي أغوص بكم كبير من الأحاسيس والمشاعر من حب الأم الى ألم الفقد والفراق، فكانت النصوص بكائيات تثير الشجن والمواجع، حتى أني تسائلت كيف احتملت الكاتبة كل هذا الألم ولم تتسلل نعمة النسيان لروحها لعلها تسلو قليلا، فلا يخلو نص من الألم وتذكر الأم والأب اللذان رحلا، وفي حديثها عن الذات نجدها انسانة غامضة في تعاملها مع الآخرين وتفضل العزلة، أو ترى نفسها حالة مختلفة عن النساء ولا تتوقف حتى عن انتقاد نفسها.
وفي النهاية نجد أن الكاتبة تنقلت بين نصوص شعر نثرية امتلكت مواصفاتها جيدا، وفي نصوص أخرى تغلب فيها السرد على شعر النثيرة، وفي بعض النصوص كانت الخاطرة هي الأقرب للنص من الشعر رغم توزيع الشطرات على الأسطر لتظهر على شكل قصيدة، إضافة لأراء تعبر عن رأيها و”فلسفتها” بالنظر لمسائل عديدة وعبارات تحمل عبارات الحكمة، وهذا الخلط من عوامل إقامة حاجز منيع في فهم قصيدة النثر فتبقى بعض النصوص لدى النقاد خارج اطار التصنيف والبحث، مما يثير التساؤل إن كانت قصيدة النثر قد أظهرت أن هناك أزمة في الشعر الذي خرج عما اعتدنا عليه أو أزمة في النقد بالابتعاد عن طبيعة قصيدة النثر بطبيعتها البنائية متأثرين بشعر البحور، وأنا مع البحث في الجماليات والأشكال الفنية وفكرة النص مع مراعاة الايقاع والرمزية واللوحات المرسومة بالكلمات بهذه النصوص ومدى قدرتها على حمل الروح للتحليق فيها، فهي نصوص أدبية بدون شك خرجت عن الأطر التقليدية فتتولد قصيدة النثر منها إن توفرت الأسس فيها، ولا تكون خرجت عن مكونات قصيدة النثر وعن قواعدها وإدراك البنى الضرورية والأساسيىة لها حتى لا تكون هناك أزمة في الشعر النثري، مع ملاحظتين لا بد منهما: الأولى أن العنوان موجه لذكر بينما غالبية النصوص موجهة للأم وهي أنثى، والثانية: ان الكاتبة ورغم كل الجهد بتدقيق الكتاب الا أن هناك بعض الأخطاء القليلة ولكنها لمن لا ينتبه تقلب معنى الكلام، متمنيا للكاتبة أن تتألق في كتب أخرى وابداع آخر لعل الفرح يكون سيده ويخرجها من الحزن والألم، فمهما كان الحزن ومهما كان الألم فقد آن لنا أن نفرح.
“عمَّان 15/10/2022”