المقالة

ملامح من الأدب الليبي الحديث

إبراهيم مشارة | الجزائر

الصادق النيهوم – إبراهيم الكوني – أحمد إبراهيم الفقيه الصور عن الشبكة

قدمت ليبيا للثقافة العربية أسماء لامعة بعضها معروف وبعضها مغبون ولعل من أكبر المغبونين الصادق النيهوم الذي ولد عام 1937 وقد مات بالسكتة القلبية في جنيف بسويسرا عام 1994 مفكر طرح فكرة إعادة قراءة الإسلام لصالح الإنسان العربي الحديث ولصالح القيم الإنسانية التي حملها الإسلام كالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية ربما يعترض البعض على اجتماع الإسلام والديمقراطية ولكن النيهوم يجيب الجميع أن الإسلام دين ديمقراطي وإن آلية ممارسة الديمقراطية مثلا في فريضة الجمعة فهي برلمان شعبي يناقش مشاكل الحي أي الإسلام الحي المرن الفعال وليست الطقوس فقط التي يطغى عليها الجانب التكراري والحذلقة البيانية والخطابية ولا تخفى نزعة النيهوم اليسارية في إعادة قراءة الإسلام وفي إنتاج فكر وخطاب إسلاميين معاصرين يجدان الحلول لمشاكل المسلم الحديث ليلتحق بمدنية العصر وثقافته دون أن يتخلى عن دينه ولكن النيهوم لا يعجب الساسة والمحافظين وأصحاب المصالح ممن أمات وهج الإسلام وسجنه في طقوسه وسمح بهذا التفاوت الطبقي الرهيب وتلاشي الإنسان لصالح المواطن الرقم في الكتلة الانتخابية أو الرعية التي تدعو في صلواتها بطول عمر الحاكم وحكمه الرشيد وقد ترك النيهوم مجموعة من الكتب لعل أشهرها “الإسلام في الأسر”وكتاب “إسلام ضد الإسلام”و”فرسان بلا معركة”.

ولم يكن حظ الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه (1942/2019) مثل حظ النيهوم فمؤلفاته حظيت بانتشار عريض في الساحة العربية ويعد كاتبا مرموقا وهو يجسد مرحلة ازدهار السرد في ليبيا وعرف بثلاثيته “سأهبك مدينة أخرى” وأطول رواية عربية “خرائط الروح “إضافة إلى “البحر لا ماء فيه” حيث يصور الفقيه مأزق الاستعمار وتقاطعات التاريخ والمكان وإشكالية المثاقفة والآخر الغربي مع الاحتفاظ بالبعد الأسطوري والثقافة الليبية الخاصة، ثقافة الصحراء والواحات والمدينة وإشكالية التحديث والهوية. ويمثل الفقيه حالة المثقف الإشكالي في تعاطيه مع السلطة فهو كان من جماعة القذافي وأصدر دراسات نقدية لقصص القذافي ثم ما لبث أن هاجمه بعد سقوطه ووصف كتاباته بالهراء ووصفه بالديكتاتور وعلل سبب نصرته له بأنه الخوف والهاجس الاستخباراتي وهذه حاله وحال عامة المثقفين في ليبيا حتى الكوني كان عضوا في لجنة تحكيم جائزة القذافي تلك اللجنة التي رفض جائزتها خوان غويتيسلو. لاشك أن الفقيه استفاد من نظام القذافي وعن طريقه استكمل دراسته في أدنبره وعمل سفيرا في بوخارست وأثينا وظل بوقا دعائيا للعقيد ولثورة الفاتح العظيم ولكنه في أدبه ابتعد عن التهريج السياسي واحتفظ بروح الأديب والسارد الذي كتب ملحمة النضال الليبي وتقاطعات الزمان والمكان وخصوصيات البيئة بمركباتها الأسطورية والعاطفية والثقافية وهم التحديث والعلاقة مع الآخر وهذه هو الجانب الباقي فيه والذي له قيمة أما نصرته للعقيد فهي مرحلة طارئة تمثل حقا الجانب الإشكالي في علاقة المثقف العربي بالسلطة الشد والجذب أو المهادنة والتقية أو الهجوم.

كما انتشرت مؤلفات إبراهيم الكوني 1948 الذي نقل إلى العالم العربي ثقافة الصحراء فالكوني الطارقي الوفي لقيم الصحراء نقل إلى الأدب العربي تقاليد الصحراء وأبجديات حياتها بل إلى الغرب فهو رسول الثقافة الصحراوية إلى العالم عبر مؤلفاته:” رباعية الخسوف”، “جرعة من دم”،” التبر” “نزيف الحجر” وغيرها من الأعمال السردية وقد تزامنت معرفتي بكتابات إبراهيم الكوني مع مخالطتي لطوارق الصحراء الكبرى زمنا يسيرا وعرفت قيمة الماء في الصحراء “والعلامات” تلك الإشارات التي ترشدك في الصحراء حيث الاتجاهات جميعا متشابهة والمدى أفق مفتوح على المجهول والشمس كراهب بوذي في صفحة السماء لا ينفك يعلمك معنى الصبر والثبات والحيطة، إن محور الحياة في الصحراء ثنائية الموت والحياة الري والعطش الجوع والشبع ومناط الأمر كله مشيئة الله واهب الكل فالطارقي مؤمن فطريا ومؤمن بوحدة الوجود دون أن يعرف كيف يسميها فكل حيوان له الحق في الحياة وله قداسة وكل ما في الصحراء ليس عبثا وليس مجرد شيء زائد والزمن في الصحراء لا يقسم إلى ساعات ودقائق وثوان بل هو الظل واللهيب والليل والنهار ثم هو زمن المطر والكلأ وفيضان الوديان الجافة والتي من الممكن أن تتلف حياتك والشمس مشرقة وعلى هذه العطية الطبيعية تجري حياة الطوارق المستلهمة الثبات والأمل من لدن الله واهب الحياة والماء، إنه زمن مفتوح واسع المدى مثل الصحراء لذا لا يشعر البدوي بالضيق ولا بالقلق و” أمراض المدينة” بامتياز إن اتساع الصحراء وقسوتها علمتهم أن يثقوا بالله ويطلبوا منه الماء ولأن الصحراء مهلكة فالضيافة واجبة إنها تقليد مبدئي يحمي به الناس أنفسهم من الموت عطشا وجوعا إنه عقد ضمني بالتراضي بين جميع سكان الصحراء دفعا للهلاك وللبدو أساطيرهم لتفسير الحياة والعالم عالم يتعايش فيه الدين والسحر والجن والكهانة والخبرة الحياتية جنبا إلى جنب فهم شعب الأساطير بامتياز وشعب الحميمية وشعب السكينة والضيافة حياة مكتملة بذاتها لا تريد تحسينا ولا زيادة هكذا هي الصحراء في ليبيا والمغرب العربي عموما لكل شيء في الصحراء طقوس الحياة والموت وحتى جلسة الشاي إنها طقسية كثيرا كما أن موسيقاهم ولباسهم التقليدي وسمرهم المختلط رجالا ونساء يعكس جانبا من نظرتهم إلى حياتهم وخبرتهم بالجانب الروحي في الموسيقى وإيقاعاتها التي تضفي على الروح نشوة وصفاء وسكينة.

أدب الكوني أدب إنساني يعرف الآخر المتمدن في الشرق والغرب ثقافة البدو في الصحراء وقيم حياتهم ومفرداتها النباتية والحيوانية والغذائية والمعيشية والجغرافية والأسطورية والعاطفية والثقافية وهي دفاع عن حق في الوجود وإغناء للحضارة الإنسانية.

الصحراء الليبية شاسعة إنها أحد اكبر صحاري العالم وأشرسها ظرفا معيشيا وهي صحراء غنية بالنفط بلا شك ولكنها مليئة بالصعاب كيف تجمع الطوارق على تجمع مدني يلتحق الأطفال بالمدارس وتبني المستوصفات العلاجية في كل تجمع ويجد الناس العمل إيذانا بدخول الحياة الحديثة وكيف يتخلى كل واحد عن عصبيته لقبيلته ومذهبه ولبعض العادات التي تعيق الاندماج في فضاء المواطنة ؟ لكن الحياة الطرقية حياة مكتملة بذاتها ولا تطلب مزيدا، كثير من الشرقيين والأوروبيين لا يفهمون ذلك يعتبرون البدو همجا دبغت جلودهم الشمس وأكل أعمارهم الاتساع والفراغ ونحتت أرواحهم الرياح الصحراوية فكانت مثل الساعة الرملية تشير إلى الوقت دون أن يكون هناك معنى للوقت، ومادام البدو لا يستكينون إلى القانون المدني وسلطة الدولة فهم بلا شك خارج الحضارة والتمدن وفي ذلك ظلم كبير ومنذ زمن كتب كلود ليفي ستروس أن الحضارات بنيات مغلقة لا يجوز تفضيل حضارة على أخرى لأن كل حضارة تابعة للمكان وخصوصياته التي نشأت فيه إنما تكمن المفاضلة في العلم أو السياسة أما الحضارة فكل حضارة مكتملة بذاتها.

مقالات ذات علاقة

إدهاش بلا تأويل

سالم العبار

أنا إنسان… أنا إنسان…!!!

عطية الأوجلي

بحر العربية

سعاد الورفلي

اترك تعليق