المقالة

في ذكرى رحيله: وقفة صادقة مع الصادق

عمر أبوسعدة

الصادق النيهوم (الصورة: عن الشبكة)

“فكل خطوة في الاتجاه الخطأ، ندفع ثمنها مرتين”.

قرأتُ للصادق النيهوم، نقده الاجتماعي والسياسي، إضافة لرواية يتيمة، لا أستطيع الزعم أنني استمتعتُ بها، أو فهمتها حتى.

ومن خلال تجربتي معه، أقول إن النيهوم وُفّق كل التوفيق، في مجال النقد المجتمعي، وكان في ذلك ذا بصيرة ثاقبة، وذكاء كبير في ربط السلوكيات المجتمعية، بأصولها الثقافية التقليدية، وربطها كذلك بالمتغيرات الحضارية والعلمية في العالم المعاصر. مع ملاحظة أن نقده الاجتماعي استمر بنفس القسوة، حتى بعد تغيّر النظام السياسي في ليبيا، بالموازاة مع سكوت النيهوم عن آداء السلطة الجديدة، حتى في أيامها الأولى قبل أن تتمكن من الهيمنة على الوسط الثقافي، مما يثير الريبة بحقّ كاتب عُرف بالمشاغبة، ويعزز الشبهة حول علاقاته السياسية، ومدى إخلاصه لأفكاره، التي بثّها في كتبه ومقالاته وأحاديثه.

المجال الثاني الذي قرأت فيه للنيهوم كان النقد السياسي. ولنأخذ كتاب (محنة ثقافة مزوّرة) مثالاً. وليس المقصود بـ”السياسي” هنا، مناقشة قضايا سياسية محددة تخص بلداً ما، وإنما السياسة بمعناها الثقافي والفكري الواسع، حيث باستطاعة المثقف أن “يتفلسف” حول البدايات والمآلات، وإعادة تشكيل المفاهيم، وصياغة التعريفات، ويأمن بعد ذلك كله شرّ السلطة، التي لا تكترث كثيرا بالرطانة الثقافية الباردة، مقارنةً برفع الصوت في قضايا بسيطة ومباشرة.

في هذا العمل، يفتح النيهوم صدره لنقد النظام السياسي العالمي برمته، ليدعو العرب والمسلمين لتبني خيار ثالث سمّاه “الشرع الجماعي”، يقع بين الرأسمالية والشيوعية (الأمر الذي يُذكّر بالنظرية العالمية الثالثة). على أن هذا الخيار جاء تأملاً أقرب منه فكرا. جمع النيهوم فيه بين سذاجة التفكير السياسي/الاقتصادي/السسيولوجي، إلى جانب التوظيف الأهوائي الذاتي لمقاصد الدين، الذي طوّعه كيف شاء، مع اعتداد كبير بالنفس، وتسفيه لكل الأفكار، قديمها وجديدها، دون أن يكلّف نفسه أن يعرضها بهدوء أولاً.

والمفارقة التي تفرض نفسها هنا، أن “الثقافة المزورة” أو الوعي المزيّف، أو حتى الضديّة الفكرية إذا شئنا؛ تكمن هنا في مضمون هذا الكتاب بالذات.

وقد أعاد النيهوم طرح هذه الأفكار، بحرفيتها تقريبا، في بعض كتبه الأخرى: الإسلام في الأسر – إسلام ضد الإسلام، وغيرهما. والتي تقوم على افتراض أننا نحن العرب والمسلمين، لم نشارك في صياغة هذا العالم الحديث، وبالتالي فنحن لا ننتمي إليه، ولسنا مناسبين له، لينتهي بعد هاتين المقدمتين، إلى نتيجة تقول إننا يجب أن نخترع نظامنا الخاص بنا، وهنا يحضر المسجد بدل البرلمان، والشورى بدل الديمقراطية، والجهاد بدل الجيش الحديث، إلى غير ذلك من “البدائل”.

على أن النيهوم -ورغم فانتازيته الفاقعة- لم يكن بِدعاً في هذا النمط من الكتابة. فكثيرة هي الكتابات التي صدرت بعد هزيمة 67 المذلة، والتي على أثرها أصبح الإسلام، وتراث المسلمين، حاضريْن كمحورين ثابتين في كل أطروحة سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية. في محاولة نكوصية، تستهدف التقدم إلى المستقبل عن طريق الرجوع إلى الماضي، بالبحث فيه، وإعادة تكييف إشكالياته، لجعلها تتطابق مع قضايا الحاضر.

والحق أن أسئلة الحاضر، ليس لها جواب في الماضي، فلا مجال للمقارنة بين منجزات الحداثة (سواء أتم فرضُها بالإكراه، أو تم تبيئتها في بِنية المجتمع) وبين ما كان سائدا قبل 1000 سنة، أو حتى 500 سنة. ويطول الحديث في ذلك.

ولكن هذا ما لم يدركه النيهوم، وجملة المفكرين الشعبويين، الذين خلطوا بين القومية والمحافظة الدينية، مع مسحة من الانفتاح المجتمعي، واطلاع سطحي على منجزات الثقافة الحديثة، دون اهتمام بأصولها وفلسفتها، مع اكتفاء بجملة معارف عامة، مشوبة بكثير من الآيديولوجيا، التي هي بالتعريف: وعي مقلوب.

ولكن لنعترف للنيهوم أنه استثناءٌ كبير في ثقافتنا الليبية، التي هي أيضا استثناءٌ في الثقافة العربية، بفقرها عن إغناء المكتبة العربية، بأسماء تتجاوز أصابع اليدين.

ولنعترف له أيضا، بسمتين، قد تفرّد بهما عن غيره ..

الأولى: أنه رجل ذكي، واسع الاطلاع، مفطور على المشاغبة. توجه بنقدٍ لاذع إلى الثقافة المجتمعية، وامتداداتها التراثية كما يراها، دون أن يصطدم مع أسبابها العمليّة الواضحة، المتمثلة في المنظومة السياسية المعطوبة. (هذا إن لم يكن موافقا للسلطة في تنظيراتها).

والثانية: أنه لم يصدر في كتاباته عن منهجية منضبطة، وتصور فكري متماسك، يضفي نوعاً من الجديّة على أطروحاته. فإذا أضفنا تمتعه بأسلوب لغوي سلس، وحسّ أدبي ساخر؛ أدركنا كيف تحول النيهوم إلى لاعب سيرك رشيق، يقفز بين الأسئلة، أو بائع ماهر، يُسوّق بضاعته العجيبة بلباقة وظُرف، ويتجنب مع ذلك الوقوع في كثير من الأفخاخ والمطبّات الثقيلة، والمُسآءلات الجادة، ليخرج سالما من كل ذاك دونما إصابة، وسط تهليل وتصفيق الكثير من القراء/المشاهدين، لهذا المغامر الجريء.

مقالات ذات علاقة

العقيلة

المشرف العام

السلطة السياسية وارتباطها بالدستور.. والسلطة الاجتماعية وارتباطها بالعرف..

خالد المغربي

الهوية الفطرية

محمد دربي

اترك تعليق