إبراهيم خيراني | الجزائر
1/جُدُرُ هافانا:
قبل عشرين سنة أدبرت، جلست قرب ساحل هافانا، فارّا من الملل المصطحب في ضاحية (نيرون). دفنت قدمي في الرمل مقرفصا. أشرت إلى الشمس بسبابتي اليسرى. ثم أدرت رأسي لليمين فجأة هروبا من وهجها الحارق. لفت انتباهي جدار يريد أن ينقضّ، لولا أن جمعته أسلاك متداخلة. ربّما كانت سلّة من أسلاك خشنة مسدّسة، قد رتّبت داخلها أحجار أطلس (حجارة تعتمد في مسابقة أقوى رجل في العالم، معروفة بثقلها وملوستها).
رفعت يسراي في ذهول:
_منذر…أنظر …على الشاطئ جدار.
_قال في حنق: نعم …رأيته.
_هل كان متواجدا قبل مجيئنا؟
_نعم.
_لم هو متواجد هنا؟
_اسمع …لقد بني قبل ميلادك بخمس سنوات. خمّن كم عمره الآن؟
_فتحت يمناي في ارتباك، مسكت خنصري بأطراف أصابع يسراي، فاختلط عليّ الأمر. ثم قلت: سبع سنوات.
خفق قلبي مخافة أن يلطمني، لكنه أمسكني من أذني، وصاح: ياغبي عمره عشر سنوات.
_سألني مجددا: كم عمره؟
فقلت، وأنا أضع يدي على أذني أتفقّدها إن كانت لم تبرح مكانها: عشر سنوات.
ثم قال: وأنت كم عمرك؟
ما إن أكمل سؤاله حتى أجهشت بالبكاء، وردّدت كلاما لم أفهمه حتى أنا. كنت أفضل البكاء بدون سبب، على البكاء تحت لطمات أخي.
” البكاء وسيلة للدفاع عن النفس، واستجداء الآخر، بأن يصفح عنا“.
عمل أخي على إسكاتي بكلّ الطرق، فهو يعلم علما لا تشوبه شوائب الوثنية؛ أنّه مسؤول عن عدم بكائي، وإلا أخذ حقه كاملا غير منقوص من والدتي.
أماط الرمل عن قدمي، وبدأ في دغدغتهما. سكت قليلا، ثم عدت للبكاء.
أخرج من السلة لعبة، وراح يلوح بها في الهواء: أسكت وسأعطيكها.
لم أرضخ إلا حين رضخ لطلبي؛ بأن يأخذني صوب الجدار.
_أريد أن أصعد إليه.
_كيف تصعد وهو عال؟ يلزمنا سلّم طويل.
_بسيطة …هيا إلى البيت نأتي به.
أمسكني من أذني مجددا.
_ياغبي … ألا تعلم أنّ البيت بعيد، وتلزمنا سيارة . لقد قال أبي: إن المسافة من البيت إلى هنا تقدر بثلاثة عشر كيلومترا.
استدرت تلقاءه، ويده لاتزال تمسك أذني: هل وزن الطريق ثقيل إلى هذا الحد.
_أدار أذني أكثر، وصاح بأعلى صوته: فرق بين الغرام والمتر.
_حسنا…فهمت.
قلتها مرغما، مخافة أن يلطمني.
_الجدار هذا بني ليحمي المدينة من الطوفان.
_تقصد طوفان نوح، أليس كذلك؟
أتت اللطمة الكبرى، قل: عليه السلام.
_ع …ل.ي. ه …السّلام.
من قال لك إنه طوفان؟!
_أنت قلت.
_لا…ليس طوفانا، بل فيضانات
فيه مد وجزر.
_أنت أخطأت ،وزدت على ذلك بضربي. عليك أن تهوي لكي أضربك، وإلا سأخبر أمي .
هوى فضربته، ثم أتته الضربة الكبرى من حيث لا يعقل من أمي، وهي تزمجر: ألم أقل لك لا تبرح مكانك حتى آتي بالخيمة من السيارة، حتى لا تضيعا؟ ثم ألم أقل لك أحرس أخاك؟
لم يجب. أمسكتنا من يدينا، ومضت بنا.
كانت تلك آخر لحظة أرى فيها شاطئ «هافانا». عدت إلى بلدي وحيدا، بعد أربعة أيّام، تاركا جثّة أخي في مقبرة مجهولة.
كان ذلك قبل عشرين سنة أدبرت.