حسين المزداوي
أذكر مرة زرناكِ بالشركة هذه، ووضعنا سيارتنا ها هنا. نعم زرناك والعتب على الذاكرة، فلم أعد أذكر من كان معي.
رحبتِ بنا، وأحضرتِ مزيداً من الكراسي، وأكرمتِ وفادتنا، حتى أنك –على ما أذكر– قدمتِ لنا الحلويات الفاخرة التي كانت في علبة جميلة..
لقد سرقتا لبّي.. (العلبة والحلويات)، ولكن دعيني أقول إن كانتا هما بالتحديد من سرق لبّي، أم أن أول الغيث قطرة، ونظرة، وعلبة حلويات.
– قلتِ قهوة، أم شاهي..؟
طلب بعضنا قهوة، وطلب آخرون (شاهي بدون سكر) وبقيت حائراً صامتاً، حتى أنكِ علقتِ على صمتي بدلال وأنت تترنمين:
– ما اشربش الشاي….
ثم ضحكتِ سيدتي، وضحك ثلاثتنا منقادين للضحكة العذبة التي تذبح الطير، ثم سحبتِ درج مكتبك، وأنت تُكملين مقطع أغنية الشاي…
كُنت أفضّل مشروباً بارداً، يطفئ عني لظى تلك القيلولة الملتهبة، فأخرجتِ من الدرج علبة ميرندا..
ربما ميرندا..! الآن وبعد كل هذه المدة لم أعد أتذكر أهي ميرندا أم بيبسي؟!
على كل حال، أدخلتُ سبابتي وعقفتها وسحبتُ حلقة فتح العلبة الباردة المندّاة، فبكّت في وجهي، وعلت ثرثرة غازها الندية حتى طالني رذاذها أو يكاد.
أمسكتُ العلبة بأربعة أصابع وبقي الخنصر في الهواء مثل ذيل صغير لقبضة يدي، يهز إليك شاكراً ممتناً، رفعت العلبة إلى مستوى فمي، وسكبتُ الميرندا الندية في نفس واحد (بق.. بق.. بق…).. فتركتْ بقبقتُها وهي نازلة في جوفي، أثراً على مسامع الحاضرين لا يُنسى، ولا أستطيع وصفه.
كانوا ينظرون إلى تموجات بلعومي وأنا أسكب فيه الميرندا الباردة بلا هوادة، ويتأسفون على شاهيهم وقهاويهم الحامية في قيلولة حامية، والمقلب الصغير الذي أكلوه.
قرأت ذلك في نظراتهم وتعابير وجوههم المتأسفة، وأنا أسقط عليهم من علٍ نظرة ثابتة مرتاحة رغم اهتزازات بلعومي، والأح الطويلة التي بالغتُ فيها، وأعلنت بها نهاية مشهد البقبقة، وجوقة التحسرات المكبوتة، ثم وضعت العلبة الفارغة بتحدٍ مثلما يحدث في أفلام الكاوبوي، فأحدثتْ صوتاً على الطاولة يعلن فراغها من الميرندا، والفراغ من حرارة المشهد النديّ الشامت.
يبدو أن الجماعة ندموا على تسرعهم في الطلب السهل، شاهي أو قهوة.. هذا ما بدا بكل صراحة على ملامحهم، أو هكذا حدثتني نفسي وأنا واقف أسكب الميرندا في جوفي دون انقطاع.. تبسمتُ في سرّي تبسّم شخص لئيم فاز بمعركة تافهة، ثم مددت عيني في طبق الكعك والغريّبة.
وكنتِ – سيدتي – بذكائك اللمّاح، وبالتفاتة منكِ جاءت في وقتها، قد رأيتِ عينيّ وهما تشعان بالرغبة فيما تحتويه العلبة الجميلة، ورأيتِ وأنت تخفضين النظر استحياءً بوادر حركة لساني وهي تمسح شفتي رغبةً ولهفة، فعزمتِ عليّ بإلحاحِ كاتبةٍ لها كتب، وعلبة حلويات، وكعك، على كاتب ليس له كتب، ولا علبة حلويات، ولا كعك.
بعد تمنّع شابَه التردد منّي، وإلحاح جميل ناعس منكِ، مددت يدي على استحياء سرعان ما تبدد أمام سطوة الرغبة، وانهيار حواجز تمنّعي، فقد كنتُ أحوم بيدي ونظري، وأحلق بسبابتي فوق طبق الغريّبة في شكل دوائر لأنقّي أفضل الغريّبات وأكبرها، وأبتسم ابتسامة طفلٍ نزقٍ نال مبتغاه، فأخذتُ غريّبتين اثنتين تعلو كل منهما لوزة مزلّطة ومصهودة، وأضفت كعكة واحدة فقط، محزّزة ومرشوش فوقها السمسم.. لففتهم جميعاً في ورق كلينكس مزدوج نظيف، لآخذهم معي وأنا خارج، ثم أخذتُ غريبة أخرى، لا تزال اللوزة ثابتة فوقها لم تسقط من نُقرتها، رغم تخلخلها من مكانها، شربت بها قهوة كانت زائدة على الطاولة الصغيرة أمامي، حتى إنني لا أزال أذكر وبمهارة أحسد نفسي عليها، أنني قضمت اللوزة على مرتين، لأستمتع أكثر بمذاق اللوز والغريّبة في كل قضمة.
– يا ربي.. لماذا الكذب؟ القهوة لم تكن زائدة، هي في الأصل كانت لي، أحضروها لي خطأً في زحمة الطلبات، فغضضتُ عنها الطرف، وتجاوزتها إلى طراوة الميرندا، التي قدّموها باردة ونديّة على سفرة بلاستيك مورّدة، ثم لم ينفع تجاوزي للقهوة شيئاً مما قدره الله، فألحقتُ الساخنَ بالبارد..
على فكرة كنا ثلاثة.. فقد كان معي في تلك الزيارة سالم الأسود، ومحمد الأبيض، وحضرتي، ولا أدري من الآخر…
– آه، تذكرت.. القهوة الزائدة التي شربتها لم تكن زائدة، كانت قهوة صاحبنا الأسود، لم يسعَ بعد مثل العادة إلى تبريدها بنفخه المستمر كالسحلية، وهو يمد شفتين متطاولتين كمنقار البطة وينفخ، ويلحقهما بارتشافاته الصوّاتة التي اشتهر بها.
كان ينفخ ويشفط، ثم في كل شفطة يطرقع بطرف لسانه على سقف حلقه تمتعاً واستحساناً، فكانت الرؤوس والعيون تميل باتجاه طرقعته التي تبدو على حل شعرها، وكان لا يهتم بذلك، ولا يأبه بالنظرات شبه الحائرة بسبب هذا السلوك الفج، ويستمر ينفخ ويشفط ويطرقع على حل شعر لسانه.
في تلك المرة ترك القهوة أمامه حتى كادت تبرد من تلقاء نفسها، وطفق يقرأ عليك (زلته) التي لا تنتهي.. قصيدة كانت طويلة ومتدلية العنق إلى أذنك، فتركتِه يقرأ بإحساس جَمل شارد يستمتع بتأمل أميرة حالمة تستمع إلى قصيدته بتؤدة ودلال، فمددتُ يدي بتؤدة ودون دلال إلى قهوته لأعدّي بها الغريّبة التي كادت تعرق عليها يدي، دون أن أنسى ما قبضت عليه يدي الأخرى، ملفوفاً بالكلينكس الأبيض النظيف.
– بالله عليكِ.. أتذكرين ذلك يا سيدتي العزيـزة؟
في السيارة، وقد خرج ثلاثتنا من زيارتك، وأنت تودعيننا – ببسمتك تلك التي ذبحتنا وذبحت معنا الطير – إلى حيث تقف سيارتنا هنا، ولوحت بيدك مودعة، فشكشكت أساور الذهب الأصفر في الذراع الأبيض، ثم انطلقنا نجوب أرض الله، تتأرجح روحي بين بارق الأصفر وآفاق الأبيض، وكنتُ – بلا مواربة – زاهي الخاطر، منشرح الصدر، منشكح الحال، أترنم بأغنية “فلاح كان فايت ويغني من جنب السور..”.
في تلك اللحظة ويا لعجائب الصدف… كان هناك فلاح فايت بقرب سيارتنا، يدفع عربة يد قديمة متثاقلة، تصرصر عجلتها أثناء السير، مكدساً فوقها ربطات البصل الأخضر، وكان ينهر ابنه:
– ليش تأخرت يا حلّوف كل هالوقت… خليت السِبقي في البرويطة يا قُهدي ومشيت تنسْرف.
كان الفلاح في البداية متكئاً بغيظ دفين على سور المقبرة، يكلم نفسه، ويضرب بيدٍ على يدٍ، وهو ينتظر ابنه، ليدفع عنه عربة اليد إلى سوق الجمعة، ليبيع في متسع من الوقت… (بكري.. بكري) ككل جمعة، ويلحّق على الصلاة في الجامع العتيق، ذي المدخل الواطئ والعتبة العالية حتى لا يدخل ماء المطر إليه.
كانت عجلة العربة حروناً، تنغرز في الرمل وتصرصر بتثاقل إذا سارت، مما زاد من غيظ الفلاح المتعب، خاصة أن الابن ذهب يُنسْرف ويتسكع إلى أن تدلت أوراق البصل السبقي وتزنخت رائحتها، كان يوبخه بمرارة وغيظ مُرّ لم يعد دفيناً هذه المرة:
– هكي باهي يا هُفـُـك الأهفاك، هكي باهي يا خنزرون.. وهو يعض جزءاً علوياً من قميصه، ويتحزز بيده يريد أن ينهال ضرباً على ابنه النسراف.
الآن وقد مضى ما مضى أقولها بكل صراحة، إن الفلاح لم يكن يغنّي، كما كانت كلمات الأغنية تَهذي، بل كان ينهر ابنه، وكاد يقرعه بالعصا على عنفقته وهو يعض لسانه شبه هائج… بل كنت أنا الذي يغني أغنية (فلاح كان فايت) المليئة بالذكريات، والصور الحية، والمشهد المسرحي المتكامل، والموال المقطوع الذي لا يعرف أحد كُنهه.
كما لم يكن الفلاح قرب السور أبداً كما كانت الأغنية تدّعي، كان عند سفح كومة الزبالة العظيمة، يشق بعربته مَسرباً مُترباً حفرته عربات اليد الغادية والرائحة، وكان العرق ينزل منه (خيطين.. خيطين)، وهو ينتظر ابنه ليدفع عنه عربة اليد، بعد أن هدّه التعب والغيظ والعربة الحرون.
في هذه الأثناء بالذات عندما كان فمي مفتوحاً وفكري شارداً يرقبان مسرحية الفلاح الفايت التي تشتغل أمامي الآن، والأغنية التي صحتْ في ذاكرتي، وأزهرت على لساني ولم تُرِد أن تغادره، كما لم تخفت في أذني وعيني بعد، شكشكة وومضة بريق الأصفر في الذراع الأبيض، في تلك التوهة التي تجاذبتني أطرافها، امتدت يدٌ مخاتلة، على حين غِـرة مني، وانتقمت لتلك القهوة الباردة السوداء التي أفسدت على فمي لذة وانتعاشة الميرندا.. هل تذكرونها؟.. ثم ذهبنا جميعاً كلٌ في حال سبيله، وكأن شيئاً لم يكن.
في حلكة الليل، وكانت الدنيا ظلاماً دامساً، إذا مددتَ يدك تنقطع، كما يقول المثل، تنقطع بسبب انقطاع الكهرباء، وغياب البدر، وانطفاء آخر نار ووميض بالبيت..
في تلك الدهاميش رجعت متعباً مهدودَ الأركان، دخلتُ أتهامك وعفست في أكثر من غرض وماعون، قبل أن أتخطى عتبة الدار… لقد أخذ منّي التعب غايته، حتى كدت أسقط على الفراش سقوط رطبة من نخلة، وأتهاوى من فرط الإعياء.. ولكني تمالكت نفسي، وطفقتُ أخلع ملابسي لألبس قميص النوم.
آه نسيت أن أقول لكم إنني لا تستهويني البيجامات ولا الملابس الرياضية، وأستعمل للنوم قميصاً فضفاضاً أكمامه متدلية، لأنني بعد أن اشتريته وجدته أكبر من مقاسي العادي، فقلت لا بأس طالما إنه للنوم.. هكذا أكثر راحة.
كان من عادتي كلما خلعت قطعة من ملابسي أن أتحسس جيوبها، فوجدت شيئا ملفوفاً، ظننته مالاً هبط على جيبي، أو عُملة قديمة نسيتها في أحد جيوبي، لأن هوايتي كما قلت لكم ذات مرة هي جمع العُملات… لم أجد عُملة، بل وجدت بقايا عٓملة من عمايل تلك اليد السوداء الآثمة…
لقد سرق –ذلك الوغد– ما ضمه الكلينكس، وأكل قطعتي الغريّبة والكعكة، ولم يكتفِ بفعلته هذه، بل كمكم بقايا الكاتب من ليبيا كلينكس، ودسه في جيبي خفية، وترك الورق الهش يهشهش فيه، وذهب ينام متغطياً ببطانية النمر إياها التي استعارها مني ولم يُرجعها منذ خمسٍ وعشرين سنة مضت.