بعد تتويجه بالجائزة العالمية للرواية العربية بروايته “خبز على طاولة الخال ميلاد”، لفت الكاتب الليبي الشاب محمد النعاس الأنظار إلى طريقة نجاحه في حصد أهم جائزة أدبية عربية رغم أن عمله هذا هو الأول له، ومثل لقاؤه مع ثلة من الأدباء والإعلاميين في تونس أخيرا فرصة لكشف خفايا هذه الرواية وعوالمها ورؤى كاتبها لفعل الكتابة عموما.
بعد فوز رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” للكاتب الليبي محمد النعّاس بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الخامسة عشرة، اتجهت الأنظار إلى تجربة هذا الروائي وإلى عمله البكر الذي مكنه من التتويج بأهم جائزة روائية عربية متفوقا على روائيين لهم تجارب أكثر رسوخا وحضورا في الساحة الثقافية العربية.
ومثل هذا العمل الروائي الأول في رصيد صاحبه، الكاتب الشاب النعاس، والذي أهداه أكبر جائزة أدبية عربية، محور لقاء نظمه بيت الرواية التونسي أخيرا، وأداره الكاتب الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب، بحضور لفيف من الأدباء والنقاد والإعلاميين، علاوة على حضور الكاتب الروائي التونسي شكري المبخوت الذي ترأس هذا العام لجنة تحكيم مسابقة البوكر.
وقال الكاتب الليبي النعاس الفائز بجائزة البوكر 2022 عن روايته “خبز على طاولة الخال ميلاد”، هي رحلة بحث عن الذات، وتحديدا عن الذات الليبية داخل المجتمع. وبيّن أن رحلة البطل ميلاد هي رحلة صراع بين الإنسان الفردي والإنسان الجمعي أي بين ذاته والمجتمع.
> رواية الرائحة
“خبز على طاولة الخال ميلاد” الصادرة عن “مسكلياني” هي أول عمل منشور للنعاس الذي يحمل في رصيده العديد من المخطوطات التي لم تنشر بعد. وهو ينتقد العقلية الذكورية في المجتمع، إذ تمثل مسألة التفرقة الجندرية أحد أهم أقطاب الرواية التي تعيد صياغة العلاقة بين الجنسين ببساطة وسلاسة دون فصل حاد أو مسقط.
وليست هذه الرواية الأولى التي يكتبها النعاس، إذ أشار إلى أنه قبلها كتب ثلاث مخطوطات لكنها لم تنشر، واحدة كانت في عام 2012 عن الحرب الليبية وكان يمكن لها أن تنشر لكنه، كما يقول، سعيد أنها لم تنشر لأنه إذا قرأناها الآن قد نجدها كارثية. وهناك رواية أخرى كتبها في 2016 لم تنشر أيضا، ورواية ثالثة كتبها في 2017 ومزقها فورا بعد أن انتهى من كتابتها وتحريرها. لذا عمليا فإن روايته المتوجة هي الرواية الأولى.
ولم يتوقع النعاس أن تتوج روايته بالجائزة، خاصة وأنه كتب مخطوطات سابقة وأخفق في نشرها، خاصة المخطوط الأول الذي حاول جاهدا نشره وتعب لذلك دون جدوى، ويبين أنه عندما كتب “خبز على طاولة الخال ميلاد” كان يتمنى فقط أن يرى كتابه ملموسا بين يديه. وفعلا كان هذا نصرا له عندما أعطاه الناشر التونسي شوقي العنيزي صاحب دار مسكلياني للنشر نسخة من الكتاب، ليحس وكأنه أب يرى طفله لأول مرة.
وبداية أشاد المؤدب خلال اللقاء بالأسلوب الروائي والبناء السردي الذي اعتمده الكاتب، والقائم على التشبيك، خلافا للبناء الكلاسيكي، لافتا إلى الثنائيات والتناقضات القائمة عليها الشخصيات في هذا العمل.
واعتبر المؤدب أن “الخبز” هو البطل الحقيقي للرواية، فهو من يستعمل البطل المزيف ميلاد الذي يعيش صراعا مع ذاته وصراعا مع بقية الشخصيات. وأشار النعاس إلى أن تناقض الشخصيات يرمز إلى ليبيا وما تشهده من تخبط.
ولئن تم توصيف الرواية بأنها تندرج ضمن خانة “روايات الرائحة” باعتبارها تستحضر طريقة صناعة الخبز في ليبيا زمن الاستعمار الإيطالي، فقد أشار مؤلفها إلى أنها تنقل تفاصيل الحياة في المجتمع الليبي وحرارتها سواء في حالات العنف أو العشق أو الانهيار.
وأكد النعاس في هذا السياق أن الرواية تنقل أزمة جيل كامل بين السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. فهو ينطلق من تسريد تاريخ المخابز في ليبيا ليستحضر المناخ الاستعماري الإيطالي وتأثيراته، لا فقط على كيفية صناعة الخبز، بل كذلك على طريقة تفكير المجتمع الليبي وعلى اللهجة الليبية ليصل إلى “تأثيرات سلطة الشعب من 1977 إلى 2011 على صناعة الخبز”، وما المخبزة في الحقيقة، كما يقول الكاتب، سوى نموذج للتحولات التي شهدتها كل القطاعات في ليبيا زمن حكم الرئيس الراحل معمر القذافي.
> روائي ولد كبيرا
لئن لم يرتق مستوى النقاش في هذا اللقاء الأدبي إلى أهمية الحدث، فقد تراوحت مداخلات الحاضرين، الذين لم يقرأ جلّهم الرواية بعد، بين من أثنى بشكل عام على رواية هذا الكاتب الشاب الذي نجح في اقتناص أكبر جائزة أدبية عربية، مما قد يحمله مسؤولية كبرى ويصعّب عليه ربما كتابة رواياته المقبلة، وبين من اعتبر موضوع الرواية “مستهلكا”، متسائلا عن مدى تفرد هذا العمل لينال البوكر.
وفي ختام اللقاء تدخل رئيس لجنة تحكيم الرواية الكاتب شكري المبخوت للإجابة عن بعض التساؤلات المتعلقة بالجائزة، مجددا تأكيده على القيمة الفنية والأدبية للرواية مما جعل اختيار أعضاء لجنة التحكيم لها كان بالإجماع ودون أدنى تردد.
وأشار إلى أن الرواية تعكس إبداعا كبيرا وقدرة فائقة للنعاس على التحكم في تدفق الإيقاع والتنظيم المحكم لتدفق ذكريات السارد، قائلا “نحن أمام كاتب روائي ولد كبيرا“.
وأوضح المبخوت الكاتب الروائي والأستاذ الجامعي أن الرواية هي تصور شامل ومقاربة ورؤية، فلنعاس لم يطرح قضية الجندر من مقاربة أيديولوجية بل سردية دون فرض أيديولوجيا معينة على القارئ، أو فرض أحادية الصوت.
ولم تأت الرواية من فراغ بل هي وليدة جهد، وربما حالف النعاس الحظ أنه عمل بنصيحة هامة وهي أن تمزق كتاباتك الأولى ولا تعبأ بها وتنشرها على الملأ، ومواصلة القراءة التي تعتبر زاد الكاتب الأول، ونصيحة مهمة تعلمها من الخبز كما يقول، ألا وهي الصبر. إذ يجب أن يصبر الكاتب على العمل. فالكتابة عمل شاق جدا نفسيا، وأن يصبر على نشر العمل، ينظر إلى عمله بنظرة نقدية، يعاود كتابته.
ويبقى التتويج بالجائزة رهانا صعبا على الكاتب لتجاوز نفسه في أعماله اللاحقة، خاصة وأنه مازال في بدايته مع عالم النشر ويعد بتقديم الكثير لقرائه وللأدب الليبي والعربي ككل.
صحيفة العرب اللندنية، الجمعة 2022/06/17