ليس من السهل أبداً أن يتميز اليوم كاتبٍ من خلال تأليف نصٍ سردي روائي في زمن انتشار ديوان هذا العصر، “الرواية” التي أضحت متلازمة مع إنتاج أي أديبٍ سواء أكان شاعراً أم قاصاً أم ناقداً أدبياً أم كاتبٍ صحافي. ما لم يكن مؤلفها من أولئك الذين تعمقوا دراسة وبحثاً في أجناس الأدب والفنون بمختلف مشاربها. لقد باتت الرواية الجنس الأدبي الذي تنصهر في بوتقته كل الأجناس الأدبية والفنية، بانفتاحها مؤخراً على مجالات الإبداع الأخرى، كالفنون التشكيلية والموسيقى، لتدخلها ضمن بنائها السردي وأبعادها الجمالية والسيمائية. إن رواية (الكلب الذهبي) التي قذف بها الكاتب منصور بوشناف من باطن وجدانه الإنساني الليبي، تعد – إذا أخذنا في الاعتبار محاولتها تأويل المأزق الليبي الحالي واعتمادها السرد الحديث – بحق من أهم الروايات الليبية التي صدرت خلال العشرية الأخيرة، لعدة أسباب جوهرية؛ ليس أولها لأنها استطاعت أن تقْلب المفاهيم السائدة حول الهوية، وحول تجليات سيكولوجيا المكان. وليس آخرها، لأنها أحيكت بتقنيات سردية متطورة، وبلغة مقتضبة، مُحكمة البنيان. كما يمكن القول إنها رواية “مفاهمية” تطرح قضايا فكرية وفلسفية تؤهلها إلى أن تكون من بين الروايات الأكثر تميزاً عربياً، خلال السنوات القليلة القادمة؛ إذا ما سُّلط عليها الضوء بشكل جيد، من خلال الدراسات والمقالات النقدية، والدعاية الإعلامية، وتحويلها – ولما لا – إلى عمل إدرامي.
لم يتكئ الكاتب المسرحي منصور بوشناف في روايته (الكلب الذهبي) على التراث الأدبي الإنساني الذي عنى بعملية المسخ أو التحولات – Le metamorfosi(1) وما ينجم عنها من تبدل في خلقة الكائن البشري، كما أشار في مستهل الرواية على لسان الراوي إلى رواية (الحمار الذهبي) للوكيوس أبوليوس وإلى رواية (المسخ) لفرانز كافكا، بالقدر ما اتكأ – حسب اعتقادي – على أدبيات تراث (الفن البصري الليبي) قديمه وحديثه التي سجلها وتركها الأثريون، بدءاً من رسومات كهوف أكاكوس، ومروراً بمنحوتات مدينة (قرزة) الآثرية، وما شاع عنها من أساطير، وصولاً إلى منحوتة الغزالة والحسناء البرونزية التي وضعها النحات الإيطالي أنجلو فانيتي، بالإضافة إلى خراريف أمه وعجائز ورفلة، التي قال أنها تتطابق مع ما جاء في كتاب هيرودوت حول ليبيا. لكي ينسج خيوط رواية تحاول أن تقدم تصوراً حول تاريخ الإنسان (الليبي) في أمسه وحاضره، يسردها كأمثولة لراوٍ، يرتجل قصةٍ، أمام جمهور، ينتظر أن يسمع منه الشيء المثير.
ولأن مؤلف هذه الرواية كان في البدء كاتب درامي، لذا فإننا نجده قد التجأ إلى تقنية الأداء في المسرح الارتجالي ليسرد علينا حبكتها، في قالب أشبه إلى أداء (الممثل) الذي يبتدع أشياء وسياقات في العرض المسرحي، دون أن يكون لديه نص في الأساس. وأيضاً لأن مؤلف هذه الرواية سبق وأن كانت له بعض المساهمات النقدية في مجال الفنون التشكيلية، منتصف عقد التسعينيات من القرن المنصرم، وهو من الأدباء القلائل الذين اهتموا بلغة (الصورة) وخطابها البصري، لذا نجده قد أقحم في المبنى الحكائي للرواية (قراءة نقدية فنية)، لكي يرسم لنا “شكل” بطلها (سعيد – ليبيشو)، الذي انتزعه من رسومات جدران أكاكوس، القابعة في صحراء الجنوب الليبي، ليعيده إلى الحياة، مدخلاً إياه في مغامرة يائسة، متشابكة مع قصة منحوتة الغزالة والحسناء التي نُحتت مطلع عقد الثلاثينيات، القابعة وسط مدينة طرابلس على الساحل الشمالي الليبي. محاولاً أن يفسر من خلالهما تاريخ الوجود وملامح الهوية والأحداث والتداعيات التي انبثق عنها الواقع الراهن ومخاضته. ولو أننا حذفنا لوحات أكاكوس ومنحوتة الغزالة من جسد الرواية، لفقد النص ركيزة من أهم ركائز بنائه السردي والكثير من قيمته الفنية والجمالية. حسب اعتقادي.
ملخص لقصة الرواية
يتأسس المتن الحكائي في الرواية على قصة مسخ أو تحول كلب (البطل) إلى رجل، بعد أن يقع في غواية سيدة إيطالية تسكن طرابلس، يجذبه عطرها، يترك مربطه في ريف ترهونة، ليأتي إليها ويقضي معها ليلة على سريرها، فتحوله إلى بشر. تتزوجه وتطلق عليه اسم (ليبيتشو) بعد أن كان (سعيد)، إلا أنها شتمته ووسمته بالكلب بسبب وقوع حوادث عرضية، فتأثرت علاقتهما. يظل هذا الوصف يشعره بالغضب والخوف، يتعرف على سالمة التي تعمل خادمة في بيت الإيطالية، هي من الهجيج، البشر والكلاب الذين سكنوا تخوم طرابلس، قادمين من المناطق والقرى المحيطة. كما أنه يتعرف على الأفندي إسماعيل الذي جاء من تخوم الصحراء، ليصبح ضابطاً في البوليس، ويشارك في اخماد مظاهرة طلابية سنة 67 المؤيدة لنظام عبدالناصر في مصر وتدعو إلى اسقاط النظام الملكي في ليبيا. يصاب (الليبيتشو) بحمى ينقل على إثرها إلى المستوصف ثم إلى بيت الإيطالية، التي تعتني به، ثم تقوم سالمة بالاعتناء به، لكنها تغادر ولم تعد إلى البيت في صباح اليوم التالي وأثناء انتظاره لها، شهد عبر النافذة عربات جنود وعلمت السيدة الإيطالية من إحدى الإذاعات الإيطالية أن (إنقلاباً – ثورة) قد وقعت. لكنها طُردت بعدها من ليبيا، وتزوج هو من سالمة، وسكنا بيتها، وحاولتَ هي أن تأخذ محلها وأن تقلدها، لكنها سرعان ما فشلت، كما فشلت العلاقة التي بدأت متناغمة فيما بينهما، لتتحول تزامناً مع التغيرات السياسية والاجتماعية ومع إلقاء القذافي الذي وصل إلى الحكم (خطاب زوارة) إلى جفاء واصطدام واحتقار من قبلها اتجاهه. التجأ نادماً إلى تمثال الحسناء والغزالة الذي شعر أنه يذكره بالإيطالية وبمواساتها له حينما تقول له: “ما بك؟!” عندما تكتسحه الكوابيس والغضب.
لقد جردت البناء الحكائي للرواية من عناصره الأخرى لكي أبين أن حبكة الرواية في حدِ ذاتها، حبكة بسيطة، وأن شخصياتها، محدودة العدد، لا تعكس بيئة اجتماعية، تتعقد فيها العلاقات وتتطور خلالها الأحداث وتتضارب المصالح بشكل كبير. فلولا حدوث عملية المسخ لبطلها – من كلب إلى إنسان – لقلت أنها قصة معتادة ويمكن العثور على مثيلاتها صدفة في أي رفٍ من أرفوف المكتبات التي تبيع كتب التراث الأدبي. لكن شحنها بسردٍ أشبه بالأداء الارتجالي الذي يقوم على التغيير والتصحيح والتوجيه المستمر للشخصيات وللأحداث في العمل الدرامي. بالإضافة إلى شحنها بأماثيل وأساطير وبما تركه المؤرخون والأثريون، والأهم من كل ذلك، هو شحنها بـ(قراءة نقدية فنية) لرسومات أكاكوس ومنحوتة الغزالة. الأمر الذي جعل الرواية، تصبح بمثابة عملٍ بحثي أو أقرب إلى أن تكون طرحٍ فلسفي، حول أصل ونشأة وتطور وتشكل المكون الليبي، وتأويلاً لأسباب الأزمة التي يعيشها في الوقت الراهن.
التشكيل يكتب رواية (الكلب الذهبي)
من هذا المنطلق سوف أعتبر أن هذه الرواية أي رواية الكلب الذهبي – وهذا اجتهاد شخصي مني يحتاج إلى إثبات أو دحض من قبل المختصين – أنها (رواية تشكيلية)، على غرار الأجناس الأخرى من التأليف الروائي، كالرواية: البوليسية والنفسية والتاريخية والرسائلية والخيالية…إلخ. وسوف أتشجع لأقول أن ملامح مولد رواية جديدة تسمى (الرواية التشكيلية) قد بدأ يرتسم مؤخراً في الآفق الروائي، بمعنى أن قصة الرواية وحبكتها ترتكز على أعمال فنية تشكيلية وليس (حول حياة الفنان وبيئته)، وهذا ما وجدته في رواية (اللون العاشق) للشاعر والروائي المصري أحمد فضل شبلول، الصادرة سنة 2019، والتي تدور حول لوحات وحياة الفنان الاسكندراني محمود سعيد، وتحديداً في سنة 1935، ولاسيما حول لوحته (بنات بحري)، التي أعاد مؤلف الرواية شخصيات البنات اللاتي يظهرن فيها إلى الحياة، وجعلهن يندمجن في حياة الفنان بكل تجلياتها.
رواية (الكلب الذهبي) هي الأخرى ترتكز على لوحات أكاكوس، والأكثر من ذلك على منحوتة الحسناء والغزالة، التي تحولت بالنسبة إلى بطل الرواية (الذي أنتزع من إحدى رسومات جدران أكاكوس) إلى مرآة تعكس روحه وروح سالمة المتمثلة في الغزالة والسنيورة المتمثلة في الحسناء، بل إنها عكست له أيضاً تفاعلات الواقع الاجتماعي الذي كان يدور من حوله في طرابلس (ولا يفهمه)، من صراعٍ بين من يأتي من وراء البحر ومن يسكن الديار، وبين من يحكم المدينة ومن يأتي إليها هاجاً من القرى والصحراء. لقد أصبح تمثال الحسناء والغزالة بالنسبة للراوي بمثابة الكرة السحرية التي تخبره عما دار في الماضي وعما سيدور. يتضح ذلك جلياً حينما يقول في صـ(120) “ظللت أنا كاتب هذه الأليغوريا أعتقد أن الحسناء كانت تتكئ على كتف الغزالة متعبة وتخشى السقوط… ثم تطور الأمر معي لأن أرى – عبر هذا السرد – أنهما تتسمران مرهقتين بعد قتال شرس بينهما، وأن المنحوتة لا تصور إلا لحظات هدنة بين الغزالة والحسناء، واستنتجت وأنا أواصل سردي… أن طرابلس مدينة تزدهر في فترات الهدنة بين الغزالة والحسناء، تلك اللحظات التي تصورها المنحوتة العبقرية والتي ظلت تظهر من حين لآخر وسط ذلك الصراع الممتد لآلاف السنين.”
لقد أوشى الشكل الفني لمنحوتة الغزالة والحسناء إلى الراوي بمفهوم وبعلاقة جدلية أخرى لم تكن مدركة لدى عامة الناس. إنه مفهوم جديد جاءت به الرواية وجعلته واقعاً، عن علاقة كانت ذات مرة منسجمة ثم تحولت لعلاقة متنافرة وانتهت إلى أن تكون علاقة المنتصر بالمهزوم، وما كنا لنصل إلى هذا المفهوم الجديد لولا أن الراوي انتهج سبيل (القراءة النقدية الفنية) ليفسر من خلالها ما لم تسطع العلاقات الاجتماعية ولا حتى التفاعلات السياسية الظاهرة في الرواية أن تفسره. يعود الراوي مرة أخرى في سياق سرده متبعاً تقنية الرؤية السردية من الخلف، إلى رسومات أكاكوس وإلى نقوش أثار (قرزة)، لكي يصحح مفهومه الأول عن معنى وجوده، أي معنى وجود بطله، والذي ربطه في البداية بوجود رجال العصر المطير، الذين كانوا يرتدون أقنعة وذيول كلاب. ثم آتى بتأويل ومفهوم جديد، مفاده أن أولئك الرجال كانوا في الأصل كلاباً ثم مسخوا إلى رجال، إثر غواية من حسناوات ليبيات في الجنوب. لقد فعل ذلك لكي يوائم هذا التأويل الجديد مع ما سوف يحدث من تغيرات وأحداث مع بطله الذي كان دائماً يشعر أنه كلب، ويخشى من ذلك، ويرغب في أن يعود إلى أصله وإلى المكان الذي كان فيه. وليتماشى هذا التأويل أيضاً مع تغير العلاقة بينه وبين زوجته سالمة التي بدأت تبتعد عنه وتحتقره، تزامناً مع تطورات الأحداث، ومع بدء القذافي – الذي احتفى بمجيئه – في ملاحقة من اعتبرهم من ضمن إرث النظام الملكي، واطلق عليهم اسم (الكلاب الضالة)، هذه التسمية التي أشعرته بالغضب والخوف من نظامه.
يقف الراوي في نهاية الرواية أمام تمثال الغزالة والحسناء الذي ظل في ميدانه ولم ينتزع من مكانه، كباقي التماثيل التي انتزعت، لكي يصف من خلاله الكأبة والتجاهم والعبوس الذي أصاب طرابلس بعد أن بدأ القذافي يستأثر بالسلطة رويداً رويداً، ويلاحق المثقفين والمعارضين لحكمه، ويقفل المتاجر ويمنع القطاع الخاص ويطبق اشتراكيته الغريبة، وأيضاً بعد أن تحولت زوجته سالمة إلى شخصية شرسة، تعامله باحتقار وتشارك في المسيرات وفي حفلات الشنق. ليجعل من الحسناء المجمدة في هيكل التمثال تصدر أنيناً يعلو صوته باستمرار حتى صار مسموعاً لدى الجميع، إذن التمثال كان يعكس حسب هذا التأويل الجديد في الرواية ما كان يحدث على أرض الواقع، ويجسد ثقافتين مختلفتين لم يجدا سبيلاً للوئام فيما بينهما.
الفن يؤول أحداث الرواية
إذن تختلف رواية (الكلب الذهبي) للكاتب منصور بوشناف عن روايته الأولى (العلكة) التي صدرت طبعتها الأولى سنة 2008 تحت عنوان (سراب الليل)، سواء من حيث البنية الحكائية أو من حيث الحبكة الفنية، والرؤية السردية، ومن حيث تطور شخصياتها وتشابك أحداثها، لكنها تشترك معها في وحدة الموضوع والرؤية تقريباً. فكلتا الروايتين تعالجان قضية فشل المكون الليبي في إيجاد توائم مع ذاته، ويكشفان عن مدى هشاشة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قبل وبعد نيل استقلال الدولة الليبية.
وبما أننا هنا في صدد رواية (الكلب الذهبي) فإنني أرى أن (النص النقدي التأويلي) حول رسومات أكاكوس ومنحوتة الغزالة قد جعل منهما تحتلان مرتبة البطل الثاني في الرواية، لأنهما حازتا على جل الأحداث واعطيتا الرواية بعداً فكرياً وفلسفياً، ليس من المعتاد أن نجده في الرواية الليبية. لقد طرحت رواية (الكلب الذهبي) مفهوم القراءة المنفتحة والمتعددة المستويات للنص الفني. وأثارت سؤالاً فلسفياً، كانت قد أثارته نظريات النقد الفني لما بعد الحداثة وهو: أين تكمن (الدلالة أو المعنى) الذي يقدمه العمل الفني؟ هل هي في خطابه أم في مادته، أم في عقل المتلقي ومستواه الثقافي وذائقته الفنية وخلفيته الأثنية والاجتماعية؟. وهل العمل الفني يقدم المعنى أم أنه يمثل فقط الدلالة والعلامة لمعنى أكبر وأشمل؟ ولذا فإن مفهومنا للمعنى يتغير مع تغير تفسيرنا للدلالة والعلامة مع تقدم الإدراك. لم يكن تغير مفهوم العمل الفني في رواية (الكلب الذهبي) عبر خطها السردي وتطوره، إلا تعبيراً عن أن الفن قادراً أن يكون شاهداً على واقع الأمة، معبراً عن ضميرها، ومرآة لكيانها، ومقراب تنظر من خلاله، لترى مستقبلها وأمانيها.
نص مشابه
بما أن جانباً كبيراً من رواية (الكلب الذهبي) تدور أحداثها بين عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، ولاسيما حول وجود السنيورة وعلاقتها ببطل الرواية، وهي رمز للوجود الإيطالي والروماني في ليبيا. لذا رأيتُ أنه من المفيد أن أتطرق هنا إلى نص روائي إيطالي مشابه، كان قد صدر سنة 2004 عن دار “ريتسولي اديكيشن” للنشر بعنوان (القبلي) للمراسلة الصحافية الإيطالية لوشانا كابراتي(2). يسلط الضوء على قضية الإيطاليين الذين طردوا من ليبيا سنة 1970، والذي يدخل في تناص كبير مع جوانب عدة جاءت في رواية (الكلب الذهبي)، حتى أن بعض الأحداث وشخصيات والاستعارات التي نجدها في رواية (الكلب الذهبي) نجدها في رواية (القبلي)، كما لو أن ثمة توارد خواطر فيما يتعلق بالتقنية والبنية السردية. على سبيل المثال لا للحصر نجد أن شخصية (سعيد – ليبيتشو) في رواية (الكلب الذهبي) الذي تملك بيت السنيورة، تقابله شخصية محمود في رواية (القبلي) هو شاب ليبي تملك محل لصياغة الذهب كان يملكه إيطالي في طرابلس يدعى “سانتو أتاردي”، وكان هو يعمل تحته. والمصيّر الذي ينتهي إليه (ليبيتشو) من ندم بسبب الإحساس بالاضطهاد والجور الذي بدأ نظام القذافي يمارسه، هو ذات المصير الذي يلقاه محمود الذي يظن أنه قد استقر له الأمر بعد أن تملك على محل صياغة الذهب، لكن (رياح القيبلي) التي هبت مع مجيئ القذافي جالبة معها تغيرات اقتصادية قاسية قد ذهبت بأحلامه وبما كان متاح له في الماضي، مجففة – كما تقول الراوية – دموعه ومالئة فمه بالرمل، ومطبقة على كلماته.
في المجمل يمكن القول أن رواية (القبلي) طرحت وجهة النظر الأخرى التي تمثل الجانب الإيطالي، إلا أنها اشتركت مع ما طرحته رواية (الكلب الذهبي) في قضية المعاناة التي لاقاها الليبيون فترة الاستعمار الإيطالي وما انجر عنها من ردود فعل، لم تتوقف عند الإيطاليين لوحدهم بل لحقت أثارها بالليبيين أنفسهم.
هفوات وملاحظات حول رواية (الكلب الذهبي)
كل عمل أكان أدبي أم فني، ينجزه إنسان مبدع لابد من أن يلحقه شيئاً من السهو والنقص والنسيان والخطأ وعدم الكمال، لكن كل هذه الأشياء تعمل عمل الملح الذي يرش فوق الطعام، فبدونه لا يستساغ طعمه على الإطلاق. ولذا فإني أشير هنا إلى بعض الملاحظات والهفوات البسيطة التي تدور حول ما جاء في رواية (الكلب الذهبي) والتي يقع جزء منها على عاتق المدقق أو المُراجع اللغوي الذي يعمل لدى دار النشر، ويقع الجزء الآخر منها على عاتق مؤلف هذا الرواية.
من أهم ما استرعى اهتمامي وأنا أقرأ رواية (الكلب الذهب) هو عدم إدماج تمثال سبتموس سيفروس في حبكة الرواية والذي عنون المؤلف إحدى فصولها باسمه (غربة سبتموس)، واكتفى فقط بإعطائه دوراً بسيطاً وباهتاً، ووصفه أنه واقف يحيي المارة من الناس، أو أنه يرفع يده اليمنى في إشارة إلى عربة لكي تتوقف وتصحبه بعيداً عن مدينة طرابلس. في اعتقادي أن هذا الدور البسيط لا يتمشى مع (القراءة النقدية الفنية) الرائعة التي اتبعها الراوي مع جداريات أكاكوس وتمثال الغزالة، لاستنطاق الواقع والتاريخ وما يكتنفه من غموض والتباس. ولا مع قيمة الإمبراطور سبتموس سيفروس، ودوره التاريخي في بناء الإمبراطورية الرومانية وإعلاءه من شأن ليبيا ومدينة لبدة مسقط رأسه، ولاسيما وأن ثمة الكثير من الدلالات السيمائية التي يحملها ذلك التمثال، بدءاً من الرسالة التي في يده اليمنى، ثم حركة سلاحه التي تشير إلى أنه في وضع يعلن فيه عن السلام. بالإضافة إلى ما تقدم فثمة هفوة أخرى وجدتها في صـ(54) وهي قول الراوي أن تمثال سبتموس سيفروس منتصب أمام مدخل سوق الترك. بينما في الواقع كان منتصباً أمام مدخل سوق المشير وليس أمام مدخل سوق الترك.
ومن بين الملاحظات الأخرى التي لفتت انتباهي هي ذكر الراوي أن نفر من ثوار فبراير قد اقتلعوا تمثال الحسناء والغزالة من مكانه، وقاموا بإخفائه في مكان غير معلوم. وفي اعتقادي أنه كان من الأفضل ألا يوجه الراوي تهمة اختفاء التمثال إلى نفر من ثوار فبراير، والسبب يعود إلى أنه – إلى يومنا هذا – لم تعلن أية جهة أو أي شخص ينتمي إلى ثوار فبراير أو إلى أي توجه من التوجهات الإسلامية أو الراديكالية السياسية، مسؤوليته على الحادثة، وكل ما كان يشاع هو مجرد كلام دون وثائق رسمية تثبت الواقعة. بل أخبرني أحد الأصدقاء – أثق إلى حدٍ كبير في كلامه – أن مجموعة من الخيريين والشباب المتطوعين الحرصين على معالم مدينة طرابلس، قد أخفوا التمثال بعد أصابته إصابة بليغة في المنتصف بقاذف (آر بي جي)، كما أنهم أخفوا بعض التماثيل الأخرى التي كانت تنتصب في حديقة الظهرة وفي حديقة فندق المهاري. ولذا أرى أنه (من أجل الدقة وحيادية السرد) كان على الراوي أن يذكر فقط أن التمثال قد اختفى بفعل فاعل مجهول، وفي ظروف غامضة، دون أن يتطرق إلى ذكر ثوار فبراير.
أيضاً ثمة هفوة أخرى جاءت في نهاية الرواية تتعلق بحادثة سحل جثة بونيتو موسوليني على اسفلت مدينة روما. والواقع أن الوثائق والشهادات الإيطالية تقول إن هذه العملية حدثت في ميدان لوراتو(3) الكائن في مدينة ميلانو شمال إيطاليا.
وأخيراً ثمة هفوة مطبعية قد تربك القارئ الأجنبي أكثر من كونها قد تربك القارئ الليبي، العارف بأحداث التاريخ الليبي وتداعياته، والمتعلقة بتاريخ المظاهرة الطلابية التي كانت في شهر يونيو بعد نكسة سنة 1967، وليس كما جاء في الرواية أنها كانت سنة 1976.
هوامش:
(1)- التحولات أو المسخ، وبالإيطالية Le metamorfosi، ظهر هذا النوع من الأدب منذ القدم، أن يتحول كائن إلى كائن آخر ذي طبيعة وشكل مختلفين، نتيجة لسحر أو لتدخلات خارقة من الطبيعة أي من الإلهية. ثمة الكثير من الأمثلة في الأدب اليوناني القديم، التي يتحول فيها الآلهة أو تمسخ كائنات إلى حيوانات أو أشياء أخرى. منها على سبيل المثال، تحول زيوس إلى بجعة لإغواء ليدا. ثمة ايضا تحولات أوفيد، وكذلك (الحمار الذهبي) لأبوليوس. من الأمثلة الحديثة والمعاصرة ثمة رواية (المسخ) لفرانز كافكا، وكذلك رواية (قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة ) للشاعر والكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، بالإضافة إلى قصة بينوكيو الشهيرة من الأدب الخيالي. (الكاتب)
(2)- لوشانا كابراتي،ولدت في طرابلس – ليبيا ، ودرست في روما ، وعملت في نيويورك لأكثر من 20 عاماً كمراسلة لصحف ووسائل إعلام مختلفة. بداية مع قسم الاخبار في قناة الرأي الأولى، ثم مع راديو كورياري، ثم مع صحيفة النهار Il Giorno ، ثم مع مجلة l’Europeo وAnna وAmica التي تعنى بشؤون المرأة والموضة، وأخيراً مع قناة الرأي الدولية. حصلت في عام 1998 على جائزة Ilaria Alpi من نقابة الصحفيين.
(3)- ميدان لوراتو، هو ميدان صغير يقع في مدينة ميلانو وقد تم فيه عرض جثمان موسيليني بعد أن صدرت الأوامر من مجلس جبهة التحرير الشعبية بإعدامه في يوم 29 أبريل من سنة 1945 وقد تم الإعدام ثم تم تعليقه مقلوبا أمام محطة للبنزين بميدان لوراتو في مدينة ميلانو. (ويكيبيديا)