سلمى
لست أبالغ إن قلت أن كتاب الأستاذ محمد محمد يونس علي الجديد (تحليل الخطاب وتجاوز المعنى: نحو بناء نظرية المسالك والغايات) واحد من أهم الكتب التي قرأتها… فقد ساعدني في ترتيب كثير من الأفكار في ذهني فيما يتعلق بتفسير النص… فهو من نوعية الكتب التي تعلم قارئها بإعطائه الأداة… فضلا عن أنه يؤسس نظرية لسانية علمية منضبطة لمواجهة موجة التأويلات الحداثية اللامنهجية التي تفسد الجدوى من التخاطب… و هو و إن كان صغير الحجم إلا أنه فاتحة مشروع سيكمله إن شاء الله كما أخبرنا…
أما موضوع الكتاب و باختصار مخل أن الخطاب عملية معقدة و حتى يفهمه المتلقي عليه أن يحلل الطرق المتبعة في إنشائه، مستعينا بمرجعيات النص اللسانية والبلاغية والمنطقية والاجتماعية التي أسهمت في بنيته، و متنبها لسياقه وغايته ومقصده… فمعنى الكلمات المعجمي _أي الذي وضعت لأجله_ غير كاف، لأنه عبارة عن معناها بشكلها المجرد، بينما الكلمة هي مثل الحرباء _كما يشبهها_ لديها إمكانيات كامنة تبرزها حسب سياقها…
أما ما تفعله التأويلات الحداثية أنها تهمل مراد المتكلم من الخطاب، و تحاول تأويله بحسب ما يريده المتلقي، فتعمد بهذا إلى قطعه عن سياقاته… و ما ينتج حينها تحت اسم التأويل هو في حقيقته إنشاء لنص جديد مختلف عن النص الأصلي و هو ليس شارحا له و لا حتى يعتبر امتدادا… و هذا النوع من التأويل إن كان ممكنا في النصوص الأدبية نظرا لطبيعتها الفنية، فإنه لا يستقيم مع النصوص المقاصدية _كالنصوص الشرعية والقانونية والإعلامية والسياسية_ لأنه لا يبحث عن غرض المتكلم الذي أنشأ الخطاب المقاصدي لأجله… وحينها تتساءل ما الجدوى من التخاطب، بل من اللغة كلها، إن كان المتلقي يحمل كلام المتكلم على أي معنى يشاءه؟!
عنوان الكتاب والذي يبدو معقدا، هو دلالة على محتواه… و سأذكر اقتباسات من الكتاب، ليشرح لنا معنى عنوانه بنفسه:
– أما تحليل الخطاب فإنه يركز: (على علاقة النص بما يحيط به أخذا بعين الاهتمام العلاقة بين لغة النص والسياقات الاجتماعية والعقدية والثقافية التي استعملت فيها، وكيف انعكست هذه العلاقة في ثنايا النص، كما يحاول الكشف عن المسالك والوسائل المستعملة في تأليف الخطاب مرورا بالوقوف على الافتراضات التي ينطلق منها المؤلف، وصولا إلى تحليل شخصيته وتفسير أدواته اللغوية)
– أما المعنى: (هو مدلول الألفاظ على مستوى التجريد، وهو مدلول افتراضي؛ لأن تصوره يقتضي عزله عن سياق التخاطب والعودة إلى مرجعيته الوضعية لتحديد مضمونه، وهذا يؤول إلى القول بأن الفرق الجوهري بين المعاني والمقاصد أن المعاني تفهم من المواضعات اللغوية، في حين أنه لا بد لاستنباط المقاصد من الوقوف على القرائن اللفظية والاستعانة بالقدرات الاستنتاجية والتأمل في الأصول التخاطبية.)
– أما المقصود بتجاوز المعنى: (أهم ما يرمي إليه هذا العمل هو إعادة النظر في قصر عملية الدلالة على ثنائية اللفظ والمعنى، وعرض نظرة للخطاب تقوم على النظر إليه بوصفه بنية معقدة تتضمن شبكة من المضامين المرتبطة بزمرة من المرجعيات اللغوية والسياقية والفكرية والاجتماعية على أن تصدر من متكلم عاقل، وترتبط بغرض ما.)
– أما المسلك فهو: (طريقة في التعبير ترتبط بخطة ذهنية بسيطة أو مركبة ترمي إلى استثمار بعض المعطيات الوضعية أو السياقية أو القدرات المنطقية أو الأصول التخاطبية أو الوسائل الخطابية المتاحة أو أكثر من نوع منها لتحقيق غاية أو أكثر من غايات التخاطب.)
وبما أن الخطاب _كما يشدد عليه المؤلف_ هو عملية إرادية قصدية، وفعل غائي، مرتبط بالمقاصد والأغراض والغايات… فإن: (أهم أوجه الافتراق بين الغايات والأغراض، أن الغايات تتسم بالعموم والتجريد والكلية، وأما الأغراض فهي متوسطة في ذلك بين الغايات والمقاصد التي تتسم بالجزئية والحسية والآنية. ومن هذا فإن مرادات المتكلم تندرج من حيث التجريد من الغايات إلى الأغراض إلى المقاصد)
و حتى نفهم كيف تتم آلية التخاطب و نجمع كل ما سبق في فقرة واحدة، فإنها كما يقول: (تبدأ باللفظ وينتقل منه إلى المعنى من خلال العلاقة الوضعية الاعتباطية، ثم ينتقل من المعنى إلى القصد المرتبط بكل من الغرض والغاية من خلال معطيات تداولية واجتماعية تتجسد من خلال السياق في مفهومة الواسع.)
و مثال مبسط على ذلك كله:
(القولة: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا
المسلك: الاستفهام (نظمي)
المعنى: سؤال عن حب أكل لحم الأخ الميت
المقصد: الإنكار
الغرض: التنفير
الغاية: التأثير)
لغة الكتاب علمية و مليئة بالاصطلاحات، كما أنه مختزل و مكثف و مضغوط، مثل كتب المتون التي يمكن أن يكتب على هوامشها الشروح… ولذلك قرأته ثلاث مرات متتاليات… وأنوي قراءته تارة أخرى بعد فترة من الزمن إن شاء الله… و كنت أتمنى لو كانت الأمثلة فيه أكثر على شاكلة شرحه المفصل للمسلك الحجاجي الذي استخدمه سيدنا إبراهيم مع قومه المذكور في سورة الأنبياء…
أسلوب المؤلف سلس جدا و لديه قدرة كبيرة على إيصال المعلومة، و هذا أمر اختبرته في كتبه السابقة، كما أن الأفكار في ذهنه واضحة مما ينعكس ترتيبا و وضوحا على كتابته، و تقسيماته ذكية و مبتكرة ودقيقة… كتبه معلِّمة، تشعر بأنك امتلكت الأداة بحيث تستطيع أن تطبقها أنت بنفسك… و هذا ما حصل معي فعلا، فقد استطعت من خلال كتابه أن أضع يدي على خطأ منهجي كنت أشعر به في أحد الكتب التي أقرؤها دون قدرتي على تحديدها، فكان أن استطعت القبض عليه… حيث انتبهت كيف صار معنى الكلمة بشكلها المجرد مدخلا لإبهام النص و إخراجه عن معناه… فكتبت هذا المقال: فكرة صغيرة عن الكلمة والمعنى والسياق…
http://www.helali.net/salma/ar/books/2016/three_books.htm
قد كان هذا رابع كتاب أقرؤه للمؤلف محمد محمد يونس علي، هذا الأستاذ القدير و العالم اللساني المتمكن من علماء أمتنا الذين نفخر بهم… و لكتابه هذا الصغير فضل كبير علي… و لكتبه عموما… بارك الله في علمه و عمره ليكمل مشاريعه لنا…
و سبحان الله على الشعور الذي ينتابك من جراء قراءة كتب فلسفة اللغة، كم تبدو عملية التخاطب عملية معقدة كتعقيد الكون و اتساعه، كبحر لا قرار له… و مع ذلك نقوم بها كل يوم بكل سلاسة…
(علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)
و يوما إثر يوم أشعر بمقدار فضل الله أن جعل معجزة هذه الأمة نصا متلوا…
و صدق المناطقة حين عرفوا الإنسي بالحيوان الناطق، فكل دورانه حول معنى الحياة و معنى البيان… ومصدرهما!
تحليل الخطاب وتجاوز المعنى: نحو بناء نظرية المسالك والغايات
لمؤلفه الليبي: محمد محمد يونس علي
دار كنوز المعرفة، ط1/2016
5 تشرين الأول 2016