سلسلة روّاد الإصلاح في ليبيا – 5
د. أسامة بن هامل*
مضى يوم المرأة العالمي، كما تمضي سائر أيامنا في ليبيا، فلا ذكر للمرأة الليبية، وإن ذكر أحد أساطين القلم والشعر والأدب تجده يحتفل بسير نساء من حول العالم، أما مثقف النت والفيسبوك فالنسخ واللص من المواقع أسهل السبل للحديث عن كوكو شانيل رائدة الموضة والأزياء، والأم تريزا، وفلانة التي كانت أول طبيبة تصدت لوباء داهم بلدها، وعلانة كونها أول من كتبت عن حقوق النساء وجاهرت بصوتها مدافعة عنهن.
ولا ينقضي العجب إذا رأيت من أدعياء المثقفين، المصابين بفصام الثقافة والتاريخ في بلادنا، نساء أيضا، لا يعرف أكثرهن – إن لم أقل كلهن – تاريخ المرأة في ليبيا ودورها الريادي!! ، ولأن الأمر يطول سأضع بعض الأمثلة عن رموز الفكر والريادة من النساء الليبيات، سائلا هذا المثقف أو تلك :
– ماذا تعرفون عن السيدة صالحة الفرجانية (توفيت عام 1061م في سرت)، التي كانت مضرب المثل في الاهتمام بالموضة، والعناية بجمالها، حتى حيرت كل عرفها ومر بها وصعب عليهم تقدير عمرها، واتفقوا جميعا على وصفها بالفتاة مع أن عمرها زاد عن الثمانين عاما عند وفاتها، بل وكانت تعمل على نشر هذه الثقافة في محيطها .. ولبركتها واحترام الناس لها، ولشهرة كراماتها، أُقيم على قبرها ضريحا، كان من المفترض أن يكون شاهدا على رمز ليبي مجتمعي، لكن هُدم ونُبش قبرها عام 2012م، على يد الوهابية الوجه الآخر لعملة مدعي الثقافة الليبية الذين لا يعرفون شيئا عن السيدة صالحة، ويعرفون الكثير عن كوكو شانيل.
– ماذا تعرفون عن السيدة راقبة الحضيرية (كانت موجودة في سبها عام 1267 هــ)، مثقفة عصرها، ومن مظاهر ثقافتها الحوارات ذات القيمة العالية التي حفظت لها مع زوجها العالم الليبي محمد المختار الحضيري، ما يشكل أرقى نماذج للحوار الأسري، بل وسعيها لنشر هذه الثقافة في أوساط الأسر في عصرها، ولا أعتقد أن أي من هؤلاء الأدعياء يعرف أيضا أن السيدة راقبة ولدها، السيد الحسن الحضيري، هو أحد أبرز دعاة الإسلام وناشريه في نيجيريا والنيجر، ولا يزال اسمه معروفا مشهورا هناك، مجهولا عندنا.
– ماذا تعرفون عن السيدة عائشة الدرعية، التي ساهمت في كسر أعتى وأطول حصار ضرب حول مصلح في التاريخ الإنساني، وهو الحصار الذي ضربه فرسان القديس يوحنا على الأستاذ الأكبر سيدي عبد السلام الأسمر في قلعة سوف الجين لمدة 16 عاما، وبقيت السيدة عائشة مبجلة محترمة من الليبيين، ولا أدل على ذلك من أن مواسم استذكار رموز الإصلاح في غرب ليبيا يبدأ بزيارة ضريحها كل عام في تاورغاء، حتى جاء مغول العصر وفجروا ضريحها المبارك عام 2012م، ولا يزال فيديو قصف ضريحها بالقواذف محفوظا مداولا على شبكات النت بكل افتخار حتى الساعة .. السيدة عائشة خالة الأستاذ الأكبر سيدي عبد السلام الأسمر جاهرت بنصرة دعوة إصلاحية ليبية في وقت كان فيه بعض أشباه الرجال عونا للإسبان ومن بعدهم فرسان القديس يوحنا، ولا يزال قارئ التاريخ الليبي لا يدرك لماذا كانت أول وجهة لمدعي النبوة حليف فرسان القديس يوحنا “يحيى السويدي” هي زاوية سيدي عبد السلام الأسمر، فدمر مؤسساتها وقتل علمائها، ولم يتساءلوا لماذا اقام السويدي هذا قصرا خاصا، في وسط طرابلس، بالنساء ذوات الحسب ينتهك اعراضهن لإرهابهن، ودون شك لدورهن الريادي في المقاومة والإصلاح.
– هل يعرفون السيدة عروجه التاجورية (كانت على قيد الحياة عام 1121هــ) التي كانت مضرب المثل في حسن التبعل لزوجها العالم الليبي محمد عروج التاجوري، حتى انمحى اسمها من ذاكرة من عاصرها وصارت تدعى باسمه فيقال “عروجه”، كانت أسرتها مثالا للأسرة الليبية الأصيلة.
– بلغ أثر المرأة الليبية مداه، وأثرت في مدن وحواضر عربية وإسلامية كبيرة، ومنهن السيدة خديجة الطرابلسية (كانت على قيد الحياة عام 999 هــ) التي هاجرت الى فاس، عاصمة العلم والثقافة والأدب في المغرب، وفيها اشتهرت بمهارتها في علوم قراءات القرآن الكريم، بل كان لها مدرسة خاصة يؤمها كبار علماء المغرب .. أشاد بها مؤرخي المغرب، ومنهم ابن عابد الفاسي في رحلته، أنه سألها عمن يأخذ علومه، بعد أن درس على علماء المغرب، فدلته على أحد أساتذة اليمن، فهاجر إليه .. ونفهم من هذا النص أن للسيدة خديجة الطرابلسية صلات واسعة بعلماء العالم الإسلامي حتى أنها عرفت أساتذة وعلماء اليمن، وهي في المغرب.
قبل أن أغادر هؤلاء الفُتات والشتات ممن يوصفون بالمثقفين والمؤرخين، ألفت انتباههم الى أنهم بكل تأكيد سمعوا عن ابن عربي، الشيخ الأكبر أحد أهم قامات الفكر الإسلامي، بكل تأكيد عرفوه من خلال ما كتبه الغرب وأهل الاستشراق، لكن ما لا يعرفونه أن ابن عربي في قائمة أساتذته عشرات الرجال، وليس من بينهم إلا امرأة واحدة فقط، هل يعرفون أن هذه المرحلة التي عملت ابن عربي ليبية ؟َ من بلدكم ليبيا ؟! نعم نعم، من ليبيا، إنها السيدة لبنى الغدامسية التي مجدها وخلدها الشيخ الأكبر في قصيدة ضمنها ديوانه الشهير “ترجمان الأشواق”. يقول معلمنا وشيخنا العلامة الليبي د. أحمد القطعاني، رحمه الله، في موسوعته عند تعريفه بالسيدة لبنى : ( إنني لا أستغرب أبدا أن تكون لبنى الغدامسية هذه سيدة وقتها علما وعملا وصلاحا ومعرفة وامرأة تعاطي ابن عربي الحقائق وتلهمه القصائد لا ريب أنها على مستواه ويا لمستواه الذي تقاصرت بل قصرت بل خجلت بل عجزت عنه همم الرجال واجتهادات الأعيان. فواضيعتاه لسيرتها ووافقداه لترجمتها ) .
أما قصيدة ابن عربي في استاذته الليبية، السيدة لبنى، فهي:
كم رأينا برامة َ… منْ طلولٍ دوارسِ
ما رأينا من غادة ٍ… في الجواري الأوانس
مثلَ لبنى إذا أقبلت … نحونا من غدامس
خلتها حينَ أقبلتْ … قطعة ً من حنادسِ
صورة ً ما أرى لها … صورة ً في الكنائس
إنما حركَ الهوى … اهتزاز النواقس
قلتُ مَن أنت إنني … خالطتني وساوسي
قالتِ: اعلم بأنني … منْ حسان الفرادسِ
لستُ إنساً لكنني … مظهرٌ للنوامسِ
وأنيسي الذي أراه … أنيسي مجالسي
ظاهر افويق تحته … في صدورِ المجالسِ
أنا من كلِّ زينة ٍ … رقمتْ في الملابسِ
ما يرى حسن زينتي … منكمُ غيرُ لابسِ
أنا من حبها كما … قيلَ في حربِ داحسِ
قلتُ مني على فتى … طامعٍ فيكَ آيسِ
قالت أعلم بأنه … في الهوى غيرُ سائسِ
ودليلي إظهارُه … ما بهِ من وساوسِ
الثلاثاء 8 مارس 2022م.
رئيس مركز العلامة الليبي د. أحمد القطعاني للثقافة والدراسات الصوفية