بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الكاتب والباحث الدكتور الصيد أبوديب..
الكتابة عن أديبنا الكبير الأستاذ علي تبتعد كثيرا عن أدبه، إذا ما أغفلت الاتجاه الساخر في هذا الأدب، ولا تمثل شخصيته إذا ما أردنا الاقتراب من طبيعة هذه الشخصية، والوقوف على أبرز صفاتها الاجتماعية وأوضح سماتها الفنية. لذا يكون الحديث عن هذا الجانب مطلبا ملحا وضرورة واجبة، فالذين يعرفون الأستاذ المصراتي عن قرب ويحتلون مقعدا في مجلسه، يدركون جيدا هذه الخصيصة، ويقفون على سمة الظرف والفكاهة في أسلوبه، وكثيرا ما ترسم الابتسامات على الشفاه، بل وترتفع الضحكات بين المتحدثين معه والمتحلقين حوله، لما تتسم به هذه الشخصية من ميل إلى الفكاهة والدعابة وما تعکسه من روح مرحة ساخرة.
ولا يقتصر هذا الجانب أو هذه السمة التي عرف بها الأستاذ المصراتي في أحاديثه ومسامراته، بين عشاق مجلسه، وما يأتي عفو الخاطر في تعليقاته، وإنما يبدو جليا واضحاً في كتاباته ومقالاته مشکلاً ظاهرة أدبية، يتميز بها عن غيره من الأدباء والكتاب، وينفرد بها في أسلوبه وأدبه.
وقبل أن نقدم نماذج من هذا الاتجاه الساخر، وملامح من هذا الأدب الفكه، نرى لزاما علينا أن نعدد العوامل التي شكلت هذا الاتجاه، وعملت على تكوينه في أدب الأستاذ المصراتي وتميزه وبروزه بين ألوان الكتابة التي مارسها.
وبحثا عن هذه العوامل؛ سنجد من بينها النشأة الأولى التي نشأها الأستاذ المصراتي، فقد شب علي حب الدعابة والسخرية متأثرا في ذلك بابيه، الذي كان كما يذكر المصراتي (1) نفسه – يجيد صنع النكتة ورواية الفكاهة.
وتأتي البيئة المصرية، التي ولد بها وعاش فيها ردحا من الزمن في مقدمة هذه العوامل، ولا يغرب على البال ما للشعب المصري من روح مرحة متميزة، فالمصري کثير المزاح، مجید للنكتة، محب للدعابة، يهوى الفكاهة، وتجنح طبيعته لخلق الابتسامة على الشفاه. وعن نشأته في هذه البيئة يحدثنا الأستاذ المصراتي (2) عن حي بولاق، أحد الأحياء الشعبية القديمة في القاهرة، الذي عاش فيه فترة طفولته وقضي مرحلة شبابه بين أزقته وجدرانه. يقول إنه في مقاهي هذا الحي وما أكثرها يجتمع صناع النكتة، ويأتي إليها رواة الفكاهة لتزجية وقت فراغهم. الاستعلاء على مصاعب الحياة وقتامة الواقع وضيق العيش.
ويمكننا أن نضيف إلى هذين العاملين؛ قراءاته المبكرة للتراث العربي واطلاعه على أمهات كتب الأدب، تأتي في مقدمتها تلك التي ضمت بين صفحاتها نوادر وفكاهات وملحا، مثل كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) للأبشيهي و(محاضرات الأدباء) للعماد الأصفهاني و(أخبار الحمقى والمغفلين) لابن الجوزي و(البخلاء) للجاحظ وغيرها من الكتب التي اهتمت بأدب الفكاهة والسخرية، كما لا ننسي قراءاته لنتاج أعلام الأدب الساخر في العصر الحديث من أمثال؛ عبد العزيز البشري وإبراهيم عبد القادر المازني اللذين اشتهرا بكتاباتهما الساخرة.
في حديثه عن روافد ثقافته يذكر الأستاذ المصراتي (3) أنه قرأ وهو في مصر، الأبرز المفكرين والأدباء والكتاب الأعلام المحدثين كان من بينهم عبد العزيز البشري الذي يعد من صناع النكتة ورواتها البارزين، وإبراهيم عبدالقادر المازني الذي يعتبر من أشهر کتاب الأدب الساخر في مصر. ومن ثم لا يمكن للدارس أو الباحث أن يستبعد أثر هذين الأديبين في كتابات الأستاذ المصراتي الساخرة وأسلوبه الفكه، وفي مواقفه الحافلة بالدعابة والهزل، كما لا يمكنه أن يستبعد أثر قراءاته الخاصة وشغفه في بداية حياته الثقافية، بكتب الأدب العربي القديم تأتي في مقدمتها كتب الجاحظ، فهذه القراءات شكلت – بدون شك –أحد الروافد الهامة في تكوين ثقافته وتلوين كتاباته بالأسلوب الساخر.
يقولون إن الذي يقدر على السخرية ويوفيها حقها هو (الشخص المرح، الفكه، المجلس، الحلو الحديث، البارع التصوير، السريع، الملاحظة، الرقيق المقارنة، الحاضر البديهة، فيتخير اللفظ الموجز والأسلوب السهل والكلمات المعبرة ويتعمد إلى التعريض والتلويح والكناية والرمز واللفتة والإشارة) (4).
وهذه صفات لا يعدمها الأستاذ المصراتي، فشخصيته تنطق بها وأحاديثه تؤكدها، كما تعكسها تعليقاته في مجالسه وحلقاته وتبرزها مقالاته وكتاباته، التي يبدو واضحا من خلالها أنه كان يضع في الاعتبار العلاقة بينه وبين المتلقي ويحرص – حين يكتب- على أن تدوم هذه العلاقة طوال قراءة القارئ لتلك المقالات والكتابات، فهو يروح عن نفس من يقرأ له ويخرج به من جد إلى هزل، حين يتخوف ملله ومسآمته ويشعر بفتور تلك العلاقة التي تربطه بالقارئ، ولعل هذا ما يفسر لنا حقيقة اختياره عنوان (جد في هزل ، وخيال في حقيقة) لسلسلة مقالاته التي كان ينشرها بجريدة (طرابلس الغرب) في مطلع الخمسينيات.
وإذا أردنا أن نحدد بدايات هذا الاتجاه الساخر في أدب الأستاذ علي مصطفى المصراتي، فسنجد أنها ترتبط بانطلاقته الأدبية في الصحافة الليبية على أثر عودته الأخيرة إلى ليبيا عام 1950 ، حيث بدأ ينشر مقالاته المتنوعة في جرائد وصحف تلك الفترة مثل (شعلة الحرية والأخبار وطرابلس الغرب) ومجلة (هنا طرابلس الغرب) التي تولي رئاسة تحريرها عام 1954 لمدة سنة واحدة فإلى جانب مقالاته السياسية التي كان ينشرها في جريدة (شعلة الحرية) وخواطره الأدبية التي كان يكتبها تحت عنوان (قطرات من يراع) احتلت المقالة الاجتماعية والخاطرة النقدية العامة جزءا لا بأس به من مساحة كتاباته في هذه الصحف تناول فيها بعض القضايا الاجتماعية بالتعليق النقدي وتسجيل الملاحظات العامة ، جاءت تحت عنوان (صور من المجتمع) وقراءة لعناوين بعض هذه المقالات تكشف عن ملامح مبكرة الأدب الأستاذ المصراتي الساخر وعن كتاباته ذات الأسلوب الفكه المتميز مثل مقالته؛ اللئيم، والصعلوك، والمغفل ، كذلك عناوين مقالات الأبواب الصحفية التي كان يكتبها في جريدة (طرابلس الغرب ) مثل: همزات وغمزات ، ملاحظاتي ، ملامح في سطور.
أشرنا فيما سبق إلى أن الأستاذ المصراتي حين يتحدث، كثيرا ما كان يلون هذا الحديث بطرفة أو دعابة، وأنه حين يكتب كثيرا ما كان يجنح في هذه الكتابة الي السخرية، يزوق بها مقالته ويطعمها بمفارقات تبعث على الضحك الذي يبدو للوهلة الأولى ضحكا مفرغا من محتواه لا يقصد به غاية ولا يرمي من ورائه هدفا، ولكن إن نظرت إليه وأمعنت في النظر اكتشفت أن قوام هذا الضحك والبكاء الصامت والنقد الاجتماعي المر. فأنت تضحك حتى تشرق بالدموع وحين تأخذ في مسح هذه الدموع، تتبين أنك تبكي وأن بكاءك قد أيقظه الضحك، ومع جدلية الضحك والبكاء التي وضعك فيها الأستاذ المصراتي ترفض أمورا كثيرة وتقف على عدة أشياء كانت غائبة عنك ولم تفطن إليها في بادئ الأمر.
في ضوء هذه المفارقة يتحقق الأدب الساخر عند الأستاذ المصراتي على أنه “ليس نوعا أدبيا محايدا يسعى إلى انتزاع الضحك أو التهوين من شأن الذات إنما هو شكل أدبي مقاوم، إذ لا تكون الضحية فيه غارقة في روعها ومستسلمة لأوامر الجلاد، بل ترد علي الجلاد وأدوات قمعه بسخرية شاملة” (5). وما هذا الجلاد إلا واقع المجتمع الليبي المتخلف المتردي الذي كان يقف في الخمسينيات سدا منيعا يحول دون تطور أسباب الحياة، وانتعاش الناس وتحسن ظروفهم، وهاكم الدليل ...
يقول الأستاذ المصراتي في مقال له بعنوان (فنجان قهوة بسرعة) مصورا نتيجة من نتائج التربية الخاطئة في تلك الفترة والمبكرة من حياة المجتمع الليبي الحديث، وبعد زيارة قام بها إلى صديق له، حل ببيته وضيفا عليه:
وجاء ابنه، فما إن رآه حتى بصق على وجهه غير الكريم، وتناثرت على وجهي شظايا من بصاقه، وأخذ يشتمه بابن الكلب، حمار، خنزیر، لماذا لم تغسل وجهك حتى يراك الضيف نظيفا؟ ألم اشتر لكم في الأسبوع الماضي قطعة صابون؟ وحاول الولد أن يرد شتائم أبيه بأحسن منها أو أقبح منها، ولكنه استلمه وأخذ يضربه والولد الشقي يرفس برجليه ويديه وأنا أحول بينهما.. ثم ذهب الولد بعد أن أخرج لسانه لأبيه وضربه بالحذاء (6)
إن الصورة التهكمية لهذه اللقطة الاجتماعية واضحة الدلالة فمحاولة تربية الأب لابنه في حضور الأستاذ المصراتي الضيف !!لم تتم بطريقة تربوية سليمة، وإنما كانت أدواتها السب والشتم وسوء المعاملة، فكانت النتيجة ورد فعل الابن علي نقيض ما أراد الأب تحقيقه حيث عمقت سوء التربية في سلوك الأبن.
وفي مقال له بعنوان (في سبيل الصراحة) يجمع الأستاذ المصراتي أيضا بين الإضحاك وإدخال السرور علي نفس القارئ وإشاعة جو المرح والبهجة، وبين نقد بعض العيوب الاجتماعية مثل كراهية الناس للصراحة ونفورهم من سماع كلمة حق. يقول الأستاذ المصراتي، منتقدا بعض أدعياء نظم الشعر، مصورا ردود الفعل على سماع أحدهم وجهة نظر في شعره قيلت له في صراحة تامة:
وقابلني صديقنا المتحذلق الذي حفظ أسماء من الكتب وعناوين من الموضوعات أو المواضيع، فراح يتشدق ويردد كلمات محفوظة وعبارات مطبوعة وزعم أن ملكة الخيال توجته وعشقته … وأخذ يسمعني قصيدته … استغفر الله. قرقعته، فقلت هذا هراء ليس فيه خيال يشيع ولا أسلوب يروى وأنت يا صاحبي مازلت في حاجة إلى الاطلاع والحفظ حتى تصقل ملكتك.. فنظر إلى ومزق الورقة واسمعني خطبة في عيوبي وسلسلة أجدادي جتى كاد أن يصل إلى سيدنا نوح (7).
ينتقد الأستاذ المصراتي هنا بعض أدعياء الأب والمتطفلين على مائدة الشعر في أسلوب ساخر، مصورا ما حدث له مع أحد هؤلاء المتطفلين حيث قدم إليه نصيحة تصحح مساره وتقوي عضده في رحلته في عالم الشعر الرحيب، ولكن النتيجة كانت السب والشتم واللعنة له ولسلسلة آبائه وأجداده.
وتتوالى الصور التهكمية في مقالاته، وتتباين أنواعها وتتعدد ملامحها، وإذا كنا قد أشرنا إلى مفهوم السخرية عند الأستاذ المصراتي في ضوء ما لمسناه في شخصيته وما تبيناه في تكوينه الثقافي فإن هذا المفهوم يتضح جليا في لغة تلك المقالات والأسلوب الذي كتبت به. ولسنا بصدد بيان المدلول اللغوي للسخرية في المعاجم والقواميس لکي نحدد قرب الأستاذ المصراتي من هذا المدلول وبعده، ولكننا نكتفي بالإشارة إلى المدلول المباشر لهذه الكلمة المقرون بمعني الهزء والضحك، مشيرين إلى مرادفاتها في العربية وهي التهكم والتندر واللذع، لافتين النظر إلى معانيها مثل الهزل والمزاح والفكاهة والهجاء والضحك والدعابة والظرف.
فهذه المرادفات والمعاني يبرز من بينها معنی الضحك، الذي يقترن بالسخرية (كمصطلح توأم يعبر عنها وتعبر عنه) (8)، ويتبين القارئ بوضوح أنها مقصودة في كتابات الأستاذ المصراتي، ولكن لا تستهدف معني النيل من الآخرين لتحقيق أهداف متعددة منها الإساءة والتشفي وإظهار التفوق، (إنها ترمي في الأغلب الأعم إلى التخلص من ظروف قاهرة والاستخفاف والاستهانة وعدم الاكتراث، وهي بالتالي وسيلة تحرر من القسر والألم، وسيلة تعويض كما هي أسلوب لرفع الأذى وأسلوب تفريغ الطاقة (9). أما عن أدواتها عند الأستاذ المصراتي فهي تتعدد (بتعدد المواقف والأحوال والأسباب، فهناك مضحك الأشكال ومضحك الحركات ومضحك الظروف ومضحك الكلمات ومضحك الطباع) (10).
وسخرية الأستاذ المصراتي في أدبه، لا تخرج عن هذه الأهداف والغايات ولا تنأى كثيرا عن تعدد أدواتها وتنوع مضحكاتها، فالصور التهكمية في كتاباته تتعدد وتتباين بشكل ملحوظ، فها هو ذا یلتقط في مقال له بعنوان (ديك عمي سليمان)، مشية أحد الشيوخ الذين يرتدون الزي الأزهري وجد فيها خيلاء وتبخترا وغرورا، فقدمها لنا في صورة سافرة لطيفة تبعث على الإضحاك يقول الأستاذ المصراتي: (وقفز الديك من النافذة ونط برشاقته وخفته كأنه (براشوط) واستقر فوق عمامة شيخ كان يسير سيرا متبخترا في جبته معجبا بهيئته وهلع الشيخ المتوقر الأنيق من هذه الصاعقة التي صبت فوق رأسه وأنقضت علي عاتقه وظنها کسفا من السماء وخاصة عندما تدلی شال عمامته علي عينيه والتوى علي عنقه، ظن الساعة قائمة ومادت الأرض وخاف الشيخ المتوقر كما يخاف الطفل) (11).
بهذه الصور التهكمية والأسلوب الساخر، الا نستبعد تأثر الأستاذ المصراتي برائد الاتجاه الساخر في الأدب العباسي وأديب العربية الكبير أبي عثمان الجاحظ الذي (اشتهر بالسخرية في عصره وبقيت سخرياته تبدد اليأس عن النفس وتجلب الفرح على القلب حتى اليوم وما بعده، وزخرت كتبه ورسائله بالروح الفكهة حتى صار إماماً في هذا الفن بل وفي فن الكتابة) (12)
لقد شارك الجاحظ الأديب الساخر کتاب العربية في العصر العباسي الثاني في جعل أثواب المعاني فضفاضة ذات ذيول وأكثر معهم من المفردات والجمل على سبيل الترادف والازدواج حتى صار حامل لواء هذه الطريقة، وقد مكنه من ذلك سعة ثقافته وتبحره في علوم عدة برز فيها فكان عالما وفيلسوفا وأديبا وكاتبا (13)
ولسنا هنا بصدد عقد مقارنة بين الأستاذ المصراتي الأديب الساخر وبين الجاحظ أديب العربية الكبير، أو البحث عما وقف عليه من أدبه وأخذ عنه من خصائص فنية صبغت كتاباته بألوان من السخرية، منحتها نكهة طيبة ومذاقا حلوا، إنما أردنا الإشارة إلى أن ما قيل عن الجاحظ في جوانب أدبه الساخر يصدق في بعضه على أديبنا الأستاذ المصراتي، فالجاحظ كان واسع الاطلاع (لطيف البحث ،طيب الفكاهة، مخترعا لرقيق المعاني، صواغا لبليغ العبارات، صادرة عن نفس جامعة بين المتناقضات) (14) إذ كانت للجاحظ (المقدرة علي المزاوجة والترادف وإتباع الشيء بمثله والقرين بقرينه في فقرات يغلب أن تكون قصيرات حتي ليسلخ في المعنى الواحد عبارات كثيرة) (15) فإن للمصراتي نصيبا كبيرا من هذه المقدرة، فهو كثيرا ما يحسن المزاوجة والترادف ويجيد صنع المواقف الساخرة ويكتب عن طبع ويسترسل، فيسوق الأحاديث ويبدع الصور في أسلوب عذب مستملح وكثيرا ما یطنب ما شاء له ، الإطناب وينوع العبارات في المعني الواحد كلما ساعدته القريحة وجرى القلم بما أراد أن يقول ورغب في تصويره ،يتضح ذلك في كثير من مقالاته ذات الاتجاه الساخر وبعض قصصه التي آثر تلوينها بشيء من روحه الفكهة .
كتب المصراتي يصف جلسة له في أحد المقاهي مع رجل كان يحمل کیسا من الفلفل الأحمر، ويصور ما سببه غبار هذا الفلفل له ولصاحب الكيس حيث يقول:
(وكلما لاطمت رجلاي شكارة الفلفل الأحمر ارتفع غباره.. فكحكحنا وعطسنا وشهقنا ونفنفنا وسالت مدامعنا.. أف.. أف …كح… كح… كح… إيه، إيه) (16)
وهناك وجه آخر من وجوه اقتراب المصراتي من أديب العربية الجاحظ فقد اشتهر عنه أنه صدر في سخريته –وكذلك فعل الأديب الساخر إبراهيم عبدالقادر المازني – عما في خلقته من دمامة وقبح هيئة وعيوب جسمية.
يروي الجاحظ عن نفسه، مشيرا إلى قصر قامته: (ما أخجلني أحد مثل امرأتين رأيت إحداهما في المعسكر وكانت طويلة القامة وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت: انزلي كلي معنا، قالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا. وأما الأخرى فإنها أتتني وأنا على باب داري. فقالت لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي فقالت له: مثل هذا وانصرفت. فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت إلى بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شیطان فقلت: يا ستي ما رأيت الشيطان، فأتت بك وقالت ما سمعت) (17)
وفي الأدب الحديث اشتهر أيضا الأديب إبراهيم عبدالقادر المازني بوصف عيوبه الجسمية كتب يصور قصره، حين وصف سلام الناس علي الأمير في الحجاز:
(وقف الأمير.. مقدما أنفه لمن شاء ومتلقيا قبل المهنئين ولثمات الداعين فلما جاء دورنا وددت لو كان أمامي كرسي إذن لفزت أنا أيضا بتقبيل أنفه ولجربت ذلك وعرفت سببه وتقصيت سره) (18) فقصر المازني يستوجب
کرسيا يقف عليه حتى يتمكن من تقبيل أنف الأمير علي عادة أهل الحجاز، إن مثل هذه النماذج من التجسيم في الصفات والصور لانعدمها عند الأستاذ المصراتي الذي سخر هو الآخر من نفسه، أو مما من كان يعتقد أنه عيب في هيئته وقوامه ومظهره ففي مقال له بعنوان (طربوش یا أولاد الحلال) يصف حجم رأسه الضئيل بقوله:
(وهنا اسمح لي أن أتكلم عن رأسي وأتحدث معك شوية فهي رأس عزيزة كريمة –على طبعا– وأنا لا أملك سواها، وهي رأس مكورة مسطحة من فوق مثل (سليطة غريان) أو (درنة) ولكنها مع الأسف صغيرة جدا أشبه: شيء برأس القرد وإذا وازنت حجم رأسي برأس القرد أكاد أصدق نظرية (دارون) من ناحية ولكن أكذبها من نواح عدة. أجلك الله رأس القرد أكبر من رأسي أو هي أشبه بجوزة الهند. ويظهر أن والدتي فزعت من أهوال الحرب. العالمية الأولي فجاءت خلقتي ورأسي هكذا ملخبطة على طراز ارتجالي غريب) (19) ومن هذه الصور الساخرة الضاحكة التي رسمها الأستاذ المصراتي لنفسه أيضا ما جاء في مقال له بعنوان (في سبيل الشعر (يقول فيه:
(وذهبت بعمامتي رحم الله أيام العمامة–ولا أطيل الحديث ولكن تصور المنظر: شاب بعمامته وسط أفخاذ ملساء وسيقان مجردة ملقاة ونهود مدلاة وضحكات متناثرة وقهقهات عالية وشفاه حمر مغرية فأول مرة أشاهد هذا فكأنني بدوري من جوف الصحراء ألقي به في هوليود أو باریس وقالوا له: تفرج یا شیخ العرب.. وهرب فکری وهرب شعوري وشعري وهرب دمي عروقي كالتيار الكهربائي عندما يهرب من الأسلاك، وبقيت في ظلمة وربكة وجف ريقي وجحظت عيناي وأحاطت بي الفتيات العاريات (بالمايوه) وظنوني (وظنني) الشيخ (أبوالعيون) الصغير وأخذن يتفرجن على كما تتفرج الفاتنات على جحش غير تائه، فقد جئت أتفرج واستوحي عرائس الشعر، فإذا بی فرجة من الفرج) (20)
من الواضح أن الأستاذ المصراتي زاوج في لغة مقالاته الساخرة بين الفصحى والعامية فهو وإن حرص على استعمال اللفظ الفصيح المسكون بالدعابة المليء بالسخرية فإنه كثيرا ما يستخدم اللفظ العامي الذي يكشف عن الموقف الساخر ويصور الحدث في دلالة بليغة، خاصة في مقالاته التي يسخر فيها من الآخرين أو من نفسه كما رأينا.
تلخص د. نعمات أحمد فؤاد أوجه الاتفاق بين الجاحظ والمازني في البساطة والواقعية والصدق في التعبير وفي ظاهرة الاستطراد ورسم صورة واضحة الخطوط للعصر الذي عاشا فيه وفي الطبيعة الفنية والمحصول الوافر من ألفاظ اللغة والخيال الخصب وتقصي الخوالج النفسية والأسلوب المتفکه الساخر الضاحك (21)
وفي اعتقادنا أن الأستاذ المصراتي يلتقي معهما في كثير من هذه الأوجه، ويمكن القول إن الخلاف بين سخريته وسخرية الجاحظ والمازني خلاف بيئة وعصر وعناصر ثقافة، لأن السخرية عنده بعامة قائمة على ما تسمية د. نعمات أحمد فؤاد بالملاحظة المنتخبة، فهو مثلهما يلاحظ كل شيء أو من معظم ما تقع عليه عيناه، وينتخب منه ما يصلح مدارا للسخرية (22)
في هذا الإطار يقدم لنا الأستاذ المصراتي صورة أخري من صور التجسيم، ولكنها هذه المرة لبطل مقاله الذي جاء بعنوان (بلغة الحاج قدور) الذي وصف طبعه وقصره في بساطة وواقعية وبأسلوب فکه ساخر، حيث يقول إنه رجل (خفيف الظل، سريع الغضب، سريع الثورة، يغضب من ذبابة تعاكس أنفه، ويلعن ويثور، قصير يتدحرج كأنه دمية عيد الميلاد، إلا أنه قصير غیر مکبر) (23)
وإذا كان لابد من وقفة أخرى مع مقالات الأستاذ المصراتي ذات الاتجاه الساخر، فإن هذه الوقفة أصدق ما تكون مع سلسلة مقالاته التي سرد فيها طائفة من الأقاصيص والحكايات نشرت تحت عنوان (جد في هزل وخيال في حقيقة)، توخي في صياغتها الأسوب الفكه، فکانت بحق مع غيرها من الكتابات الساخرة النموذج الواضح الذي يمثل هذا الاتجاه أصدق تمثيل. لقد حملت كل مقالة من هذه المقالات عنوانا خاصا بها، بدأها بمقال عنوانه (في سبيل المسكن أو البحث عن برميل) نقتطف منه الفقرة التالية:
(عطف على أحد العمال وأعطاني دارا في حي ممتلئ بالخمور والفجور فصرت أتلصص في الدخول إليه، لأن هذا موضع ريبة وموطن تهمة، والرسول يقول: اتقوا مواطن الشبهات، فلا أدخله إلا في الهزيع الأخير من الليل كأني قط أو موسي عندما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها يتوجس، ورضيت بهذا كله رغم أن الدار فوق السطوح ضيقة، تصلح أن تكون عشة دجاج أو محبس عنتر أو حجرة أرنب أو مرتع فئران، ولكني حشرت نفسي وكتبي وحقائبي ومخطوطاتي، وحمدت الله لذي لا يحمد على مكروه سواه.
وهطلت الأمطار وتزايدت فحمدت الله وقلت: اللهم زد وبارك اللهم آتنا بالغيث يا مطر زيدي، اللهم أكثر الشبوب، ومع أني لست وليا ولا رجلا صالحا وليس صدر مرابط، ولكن يظهر أن أبواب العرش كانت مفتوحة وأن الملائكة حملت دعائي بسرعة البرق واستجاب الله لدعائي في الحال والحين. وهطلت الأمطار وتزايدت وتزعزعت أركان الدار وكنت أحسب للدار سقفا فإذا به غربال أو (كسكاس)، ففي وأيام الصحو تبدو منه النجوم والسحب والغيوم. وأشاهد منه صراع الليل والنهار على مسرح الأفق) (24)
وتبقي جملة من الملاحظات تتعلق بالأستاذ المصراتي الأديب الساخر، فبقدر ما عكست مقالاته وكتاباته ذات الاتجاه الساخر روحه المرحة وميله إلى الفكاهة والإضحاك، بقدر ما ترجمت بعض مواقفه مع الآخرين وأحاديثه معهم في مجالسه ولقاءاته تطرفه في سخريته وقسوة دلالاتها مع غيره. وهذا الأديب التونسي أبوالقاسم محمد کرو يسجل عنه الملاحظة التالية حيث يقول: (والمصراتي في مطلع کهولته، لكنك إذا رأيته وجلست إليه وتحدثت معه وماشيت خطاه في الطريق، رأيت شابا ذا جسم نحيل وروح مرحة وضحكة رنانة وبشاشة دائمة ونكتة سريعة عنيفة أو لاذعة) (25)
وحين يشير الأديب والكاتب المصري المعروف أنيس منصور إلى نشأة الأستاذ المصراتي في مصر، وفي بولاق على وجه لتحديد، ويذكر أن هذه النشأة تبدو في (روحه المرحة وسخريته الحادة ولسانه السليط وذاكرته المتربصة بكل الناس.. ثق أنه أرشيف من الحوادث والنوادر والقضايا لكل الناس، كأنه في حالة استعداد للدخول في أية معركة أو أية قضية) (26)
فعلا ينطلق الأستاذ المصراتي –في بعض الأحيان – إلى أبعد حدود الانطلاق في سخريته في الألفاظ والمعاني ذات الدلالات الساخرة، ولكن ذلك يكون إما تعبيرا عن رد فعل لموقف عدائي نحو شخصه، كثيرا ما يأتي ابن اللحظة أو وليد مخزون في الذاكرة وحانت الفرصة للتعبير عنه، وإما وسيلة للتسلية التي يفضلها البعض منه وتجد في نفسه هوي.
وما يمكن أن نلاحظه أيضأ على كتابات الأستاذ المصراتي الساخرة، ندرة استعمالاته التي يذكر فيها المعنى المخالف تماما لما يقوله الشخص كأن يدعي الأحمق بأنه ذکی جدا، وهو من أدق معاني السخرية التي أشارت إليها بعض القواميس الأجنبية، مثل قواميس اللغة الانجليزية (27).
كذلك ينعدم في هذه الكتابات، ذلك النوع الذي (ينشأ عن المفارقات بصرية كانت أو سمعية، وإدراك التنافر وعدم الانسجام، وإذا أضيف إلى عنصر التنافر أو المفارقات، عنصر المبالغة أو التهويل لم يلبث أن يخرج بنا الموقف إلى عالم الاستحالة أو اللاواقعية. وبذلك تحتل المفارقات -خاصة ذات الصلة الوثيقة بالاستحالة – مكانة كبري في عالم السخرية والفكاهة) (28)
وإن كنا نلمس في كتابات الأستاذ المصراتي ذلك النوع من الفكاهة التي لا تتوقف على الموقف وحده، وانما تتوقف على نظرة الإنسان إلى الأمور وفهمه وتقويه لها. وتبلغ الفكاهة ذروتها حين يصل التناقض حدا يصعب معه أو يستحيل التوفيق بين الصورة الذهنية والأمر الواقع (29).
ولتوضيح هذا الجانب نشير إلى أن علماء النفس يقسمون ضروب الهزل إلى ثلاثة أنواع هي: الفكاهة والنكتة والكوميديا، ويقولون إن (هذه الأنواع الثلاثة تقابل في حياتنا النفسية على التعاقب: الوجدان والنزوع والإدراك، والكوميديا هي من بين ضروب الهزل جميعا – أقربها إلى قطب الإدراك أو العرفان أو المنطق، وهي بالتالي فن عقلي يقوم كغيره من الفنون على النشاط الإبداعي) (30)
في ضوء هذا التقسيم يمكننا أن نقول إن الأستاذ المصراتي قد حقق من ضروب الهزل في كتاباته الساخرة نوعين من أنواعه الثلاثة وهما الفكاهة والنكتة في حين خلت هذه الكتابات من النوع الثالث ألا وهو الكوميديا باعتبارها أثرا فنيا له خصائصه وسماته التي تختلف بها عن غيرها من ضروب الهزل. وقد عرف الأثر الفني في حالة الكوميديا بأنه) تصوير لمثالب الناس وعيوبهم ونقائصهم ومظاهر ضعفهم في إطار فني ينطوي على انسجام معکوس) (31)
وفي نظرنا أن الأديب الساخر قد يقترب من فن الكوميديا حين يعمد إلى تصوير مثالب الناس ويرصد عيوبهم ويلتقط نقائصهم ويسجل مظاهر ضعفهم وتأخرهم، ولكنه يظل بمنأى عن هذا الضرب من الهزل مالمو يصب تصويره في قالب فني، ذلك أن الكوميديا (هي فلسفة الضحك التي تسمو بالهزلي من المستوي العامي المبتذل إلى مستوي جمالي فني إنساني) (32)
وبعد …
فهذه ورقات حاولنا أن نقف من خلالها على وظاهرة بارزة تشكل في أدب الأديب على ومصطفى المصراتي اتجاها فنيا واضح الملامح، فضلا عن رصد جملة العناصر التي صاغته والعوامل المكونة له، مع الكشف عن بعض دلالات هذا الاتجاه، وطبيعته بما يحقق الاقتراب من شخصية الأستاذ المصراتي الأديب الساخر غير مدعين أن وقوفنا أمام هذه الظاهرة كان قريبا جدا منها.
نشر: مجلة تراث الشعب، السنة السابعة عشر، العدد الأول، 1426 ميلادية، 1997ف.
الهوامش:
1- من لقاء شخصي مع الأستاذ المصراتي للباحث الحازمي مصباح محمد بتاريخ 1994/9/23 / انظر (فن المقالة عند المصراتي (رسالة ماجستير مخطوطة. كلية اللغات، 1996، ص 144.
2- نجم الدين الكيب، علي مصطفي المصراتي الباحث الأديب، ص 99/ 100
3- مجلة الفصول الأربعة، العدد 58، ص 21 انظر ايضا: نجم الدين الكيب، ص 102
4- عبد الحليم محمد حسين، الجاحظ الأديب الساخر، ص 25
5- د. ياسين أحمد قاعور، السخرية في أدب أميل حبیبی، ص 8
6-) جريدة طرابلس الغرب – 1954.11.11
7- جريدة طرابلس الغرب – 1953.3.10
8- د. ياسين أحمد قاعور، مرجع سابق، ص 14
9- المرجع السابق، ص 14
10- نفسه، ص 14
11- جريدة طرابلس الغرب 1953.1.11
12- عبد الحليم محمد حسين، مرجع سابق، ص 8
13- المرجع السابق، ص 7
14- نفسه، ص 7
15- نفسه، ص 8
16- جريدة طرابلس الغرب 1955.12.12
17- عبد الحليم محمد حسين، السخرية في أدب الجاحظ، ص 134
18- إبراهيم المازني، رحلة الحجاز، ص 103، نقلا عن د. نعمات أحمد فؤاد، أدب المازني، ص 292
19- جريدة طرابلس الغرب – 1953.12.18
20- المصدر نفسه – 1954.2.9
21- د. نعمات أحمد فؤاد، أدب المازني، ص 281 -283
22- المرجع السابق، ص 283
23- جريدة طرابلس الغرب – 1954.2.18
24- جريدة طرابلس الغرب – 1953.2.9
25- نجم الدين الكيب، مرجع سابق، ص 12
26- نفسه، ص 19
27- انظر قاموس Oxford Advanced مادة IRONY ،450
28- د. ياسين أحمد قاعور، مرجع سابق، ص 17
29- نفسه، ص 17-18
30- نفسه، ص 18
31- المرجع السابق، ص 18
32- د. زکریا ابراهيم، سيكولوجية الفكاهة والضحك، ص149